الأحد، 4 يناير 2015

نحن على هذه الأرض في رحمٍ كبير

حديث الجمعة
11 ربيع الأول 1436هـ الموافق 2 يناير 2015م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام دائماً على رسول الله.
عباد الله: أرسل الله رسله إلى الناس يكشفون لهم حقائق هذه الحياة، قوانين الحياة، وأسباب الحياة. وجاء الرسل إلى هذه الأرض بميلادٍ بشريّ، ليكونوا مثلاً للبشر جميعاً. فجاء عيسى ــ عليه السلام ــ بمولدٍ بشريٍّ، وإن كان له جانبٌ روحيٍّ، ومعنويّ.
وجاء ميلاد محمدٍ ــ عليه الصلاة والسلام ــ بميلادٍ بشريّ، يحمل معانٍ كثيرة. فأبوه عبد الله عاش بمعجزةٍ إلهية، عاش ليكون سبباً في مولده ــ عليه الصلاة والسلام. وجاء في عامٍ ـ أيضاً ـ فيه إعجازٌ غيبيّ، عام الفيل، وما حدث فيه من ظاهرةٍ غيبية، هزمت المعتدين على بيت الله، كرمزٍ دائمٍ وقائمٍ على هذه الأرض.
ففي هذا العام، يُعتبر أن بيت الله الموضوع قد وُضِع مرةً أخرى بالحفاظ عليه. وجاء رسول الله كبيتٌ لله، يذكر فيه اسم الله. فهو بيتٌ حيٌّ قائمٌ دائمٌ لا يغيب. فكانت الكعبة تجريداً لهذا البيت الدائم، وكان مولد رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ واقعاً لبيتٍ يتحرك بين الناس، يعلمهم دينهم ويعلمهم حياتهم.
وكما كان مولد كل رسولٍ على هذه الأرض، هو بيتٌ لله، يعلم الناس، ويرشد الناس، ويكون قبلةً للناس، لينظروا إليه، ويتعلموا منه، ويظل دائماً نبراساً لهم، ومصدر إلهامٍ لكل معاني الحياة، فحديثه، وسنته، وبيته، وسفينته، ومنهجه ـ هو طريقٌ لكل إنسانٍ يرغب في كسب حياته على هذه الأرض. وهذه، هي رسالة الإسلام، التي جاء بها كل أنبياء الله ورسله.
لذلك، وصف القرآن كل الأنبياء ومن يتبعوهم بحق، بأنهم المسلمون، "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا ..."[آل عمران 67]. وهذه إشارةٌ أن الإسلام حين يذكر بإطلاقه، فإنه يرمز إلى حكمة الحياة، وإلى قانون الحياة الذي من خلاله يحيا الإنسان، ويُقبَل الإنسان عند ربه. وقبول الإنسان عند ربه، هو مفهوم الحياة.
"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ..."[آل عمران 85]، وهذا القول لا يعني أن هذا يمكن أو لا يمكن، يُتقَبَّل أو لا يُتقَبَّل، ولكن يعني مفهوم القانون الذي نراه أمامنا في حياتنا، أسباب الحياة على هذه الأرض.
إن للتواجد على هذه الأرض قانون، وهذا القانون هو حاكمٌ على هذه الأرض، فيما نشهده. فإذا تواجد إنسانٌ على الأرض، فإنه يتواجد من خلال هذا القانون. حتى حين تواجد عيسى ــ عليه السلام ــ على هذه الأرض، تواجد من خلال هذا القانون، وإن كان هناك جانبٌ غيبيّ ــ كما قلنا ــ إلا أنه، الغيب هنا، في تفعيل أمرٍ إلهيّ ليقيم هذا القانون.
وإذا رأينا في أيامنا هذه، ما يفعله العلم والأطباء في صورٍ أخرى، لإيجاد كائنٍ على هذه الأرض، إنما يفعلون ذلك من خلال تفعيل هذا القانون، بأدواتٍ تعلموها وعرفوها، محترمين قانون الحياة وقانون الوجود على هذه الأرض.
فمهما بلغنا من علمٍ على هذه الأرض، فإننا نبلغه عن طريق فهمٍ لأسبابٍ يمكننا أن نطورها، لنحدث أمراً ما، لم يكن يحدث قبلاً. وسنظل نبحث دائماً، ولكننا نبحث عن أدواتٍ وعن أسبابٍ، تُمَكِّننا من إيتاء أعمالٍ لم نكن نستطيع أن نأتيها من قبل.
لذلك، فحياة الإنسان في العالم الآخر لها قانونٌ. فنحن على هذه الأرض، في رحمٍ كبير، إن لم يكتمل نمونا لنكون قادرين على مواصلة الحياة بعد هذه الأرض، فلن يكون لنا وجودٌ روحيّ ولا أخرويّ، إنما نكون في صورةٍ أخرى من الحياة، كما عبر القرآن في بعض آياته عن هذه الصورة، "... نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ..."[التحريم 6]، تصبح قوة الحياة فينا، وقوداً لحياةٍ من صورةٍ أخرى.
وما النار هنا، إلا صورةً من صور الحياة. كيف تكون، ما شكلها، ما لونها؟ لا نعرف، ولا نستطيع أن نعرف. لأن مهما جال بخاطرنا من أمرٍ فهو محدودٌ وقاصرٌ عن أن نصل إليه، أو أن نصل إلى الصورة الحقيقية لما أراد الله أن يخبرنا به من خلال كتابه العزيز.
لذلك، فنحن نقول دائماً عن الأمور الغيبية، أنها أمورٌ مجردة، يصل لنا المعنى، ولا تصل لنا الصورة. وهذا، ما يجب أن نتعلمه كألف باء في التعامل مع القضايا الغيبية، وفي قدرة الإنسان على تَقبُّل المفاهيم المجردة، التي لا يستطيع ذلك إنسانٌ إلا إذا كان مؤهلاً. مؤهلاً فكريا، وعقلياً، وروحياً، ومعنوياً.
لذلك، نجد أغلب الناس الذين لم يؤهلوا لفهم هذه المعاني المجردة، لا يستطيعون إلا أن يفهموا أشكالاً وصوراً، ولا يقبلون إلا أشكالاً وصوراً، ولا يقرأون القرآن إلا أشكالاً وصوراً. إن الإنسان في مراحله الأولى على هذه الأرض، يريد أشكالاً وصوراً.
فالطفل قد لا يستطيع أن يجرد الأمور، ولكنه عليه أن يتعلم ذلك، وتعليم التجريد يجب أن يبدأ من الصغر، أن نتعلم أنا لا نستطيع أن نعرف كل شيء، ولا أن نحيط بكل شيء، وأن هناك من الأمور ما لا نستطيع أن نجيب عنها أو نجسدها.
نستطيع أن نجسد أموراً على هذه الأرض، ونضعها في صورٍ حتى يفهم الطفل بعض الأمور في حياته الأرضية. ولكن على التوازي مع ذلك، يجب أن ننمي عنده قدرته على أن يجرد الأمور، وأن لا يحكم على الأمور حكماً مطلقاً، فليس هناك على هذه الأرض، حقٌ مطلق ولا باطلٌ مطلق، وإنما هناك ما يستطيع الإنسان، أو يراه الإنسان كذلك.
عباد الله: إن الدين يخاطب الإنسان بمعانٍ كثيرة، ليُحَفِّزه أن يتأمل ويتفكر ويتدبر، يجعله يشعر باحتياجه إلى قوةٍ يلجأ إليها، تجعله في افتقارٍ إلى الله. وهكذا، يعلمنا القرآن الكريم، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"[فاطر 15]، فيلجأ الإنسان بكله إلى ربه، إلى مُوجِده. يلجأ إليه من خلال رسوله، ومن خلال بيته، ومن خلال قبلته.
يتوجه بكله إلى من تجلى الله على هذا الكون به، يتجه إلى رسوله الكريم، [يا قبلتي في صلاتي إذا وقفت أصلي، جمالكم نصب عيني إليه وجهت كلي، أنتم فروضي ونفلي أنتم حديثي وشغلي](1). يتعلم الإنسان أن لا ملجأ من الله إلا إليه، أن يتجه إليه، وأن يتوكل عليه، وأن يوكل ظهره إليه، [يا بني إذا سألت فاسأل الله، وإذا توكلت فتوكل على الله](2). هكذا، تكون الصلاة، فالصلاة دعاء، والصلاة رجاء، والصلاة طلبٌ واحتياجٌ وافتقار.
عباد الله: نتجه إلى الله أن يجعلنا أهلاً لرحمته، وأهلاً لنعمته، وأهلاً لرسالته، وأن نكون عباداً له خالصين، لوجهه قاصدين، معه متعاملين، وعنده محتسبين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أننا ونحن نتذكر مولد الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ، ومولد المسيح ــ عليه السلام ــ، نتذكر قانون الحياة. والله حين أرسل رسله، أرسلهم من خلال قانون الحياة، وإذا كانت هناك أدوات لم تكن، أو غير تقليدية، غير ما يتكرر دائماً في حياتنا، فقد استُخدِمت ليكون المولد أيضاً من خلال قانون الحياة، كما جاء في ميلاد عيسى ــ عليه السلام ــ.
وخروجنا من هذه الأرض إلى حياةٍ أكبر، لها قانونٌ هو قانون هذا الكون الذي نعيش فيه، والذي جاءت رسل الله لتعلمنا إياه. وهذا، هو الإسلام بمفهومه الأشمل. ولذلك، تحدثت آيات الله عن أن كل أنبياء الله من المسلمين.
والرسالة المحمدية بكمالها، واستكمال كل ما كان غير واضحٍ في الرسالات السابقة، هو استكمالٌ للإسلام، كرسالةٍ تُبلَّغ للبشر ليتعلموا قانون الحياة. فالإسلام ــ كما نقول دائماً ــ هو هذا القانون. لذلك، كان الإسلام بالرسالة المحمدية، هو تجلٍ كليّ للقوانين الأساسية التي تحكم حياة الإنسان على هذه الأرض، ليكون إنساناً صالحاً.
ولذلك، قال رسول الله ــ صلوات الله عليه ــ حين وصف نفسه: [أنه كلبنة بناء، كانت تنقص بيتاً، فكان هو هذه اللبنة، لبناءٍ أقامه، أو قامت به أو ظهرت كل الرسالات فيه](3)، فكان كمالها بما وَضَّحه وبَيَّنه.
لذلك، فإن أي إنسانٍ في أي دينٍ ـ بمفهوم الدين كما يُستَخدم الآن، لأن الدين بمعناه الحقيقي هو أمرٌ واحد ـ أي أنسانٍ عاقلٍ، راشدٍ، متفهمٍ، أياً كانت العقيدة التي يؤمن بها، فإنه لا يستطيع، إن أخلص في فكره وفهمه، أن يرفض المفاهيم الأساسية التي جاء بها الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ.
وهذه، هي الكلمة السواء التي أُمِرنا أن نقوم عليها، "... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ..."[آل عمران 64]. إذا اتفقنا على ذلك، وقَدَّر كل إنسان مكانه، وقدرته على هذه الأرض، لعرف أنه لا يستطيع أن يُجزِم بالغيب، فلا يجعل الاختلاف حول الغيب سبباً لشقاق.
ولا يستطيع إنسانٌ عاقل في أي دينٍ، وفي أي شكلٍ، وفي أي صورة أن يقول: أن هذه هي العقيدة، حين يتحدث عن أمرٍ غيبي، ويُجزِم بأنه الحق المطلق. وإنما يقول: قد يكون الأمر كذلك، ويقبل ألا يكون كذلك، فلا يكون ذلك سبباً في أن يختلف مع أخٍ له في البشرية.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعل في يومنا هذا، في ذكرى مولدٍ للحق على هذه الأرض في صورٍ متعددة ـ أن يجعل لنا في هذا اليوم سبباً لنرجع إليه، لنُعِدَّ أنفسنا لتَقَبُّل نفحاته ورحماته، لنكون عباداً له صالحين، وأن نكون دائماً على ذكره مجتمعين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ظلماً إلا رفعته، ولا طاغيةً إلا كسرته.
اللهم فاجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
             _______________________

(1)             من أشعار ابن الفارض:

 أنتم فروضي ونفلي                      أنتم حديثي وشغلي

يا قبلتي في صلاتي                       إذا وقفت أصلي

جمالكم نصب عيني                        إليه وجهت كلي

(2)   "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ". [أخرجه الترمذي].

(3)حديث شريف:"إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ من قبلي ، كمَثَلِ رجلٍ بنى بيتًا ، فأحسَنه وأجمَله إلَّا موضِعَ لبِنةٍ من زاويةٍ ، فجعَل النَّاسُ يطوفونَ به ، ويعجَبونَ له ويقولون : هلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ ؟ قال : فأنا اللَّبِنةُ ، وأنا خاتمُ النَّبيِّينَ" الراوي: أبو هريرة، المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري ، خلاصة حكم المحدث: صحيح.


         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق