السبت، 31 يناير 2015

المراجعة الدائمة لما نحن عليه هي طريق الحياة



حديث الجمعة
 10 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 30 يناير 2015م

السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
               نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، نعوذ به من الشيطان الرجيم، نسأله رحمةً، ومغفرةً، وقوةً نستعين بها على ظلام نفوسنا، مدركين أن حياتنا على هذه الأرض، مهما طالت فهي قصيرة، وأن علينا أن نكسب في الله في كل لحظةٍ من لحظات تواجدنا عليها.
وما جاءت الرسالات السماوية، إلا لتعلمنا كيف نحقق ذلك. جاءت الرسالات السماوية، لتكشف لنا عما أودع الله فينا من سره. وكما نقول دائماً: أن كل الرسالات جاءت لتكشف لنا عن فطرتنا. إذا نظرنا في الشرق وفي الغرب، وبالقديم والحديث، سوف نجد أناساً تكلموا بفطرتهم عما جاءت به هذه الرسالات، دون أن يبلغهم وحيٌ أو رسول.
وما جاءت الرسالات، إلا لتؤكد هذا الفهم الفطريّ، ولتساعد الإنسان أكثر على أن يكتشف ما في داخله. إذا نظرنا إلى الدين من هذا المنطلق، لاختلف موقفنا عن آخرين ينظرون إلى الدين بنظرةٍ أخرى، ينظرون إلى الدين كعلاقةٍ بين عبدٍ وسيده، لا ينظرون إليه كعلاقةٍ بين إبنٍ وأبيه.
لذلك، حين عبر عيسى ــ عليه السلام ــ بقوله: [أبانا الذي في السماوات](1)، وكانت رسالته هي رسالة محبة، إنما عبر عن هذه العلاقة بين العبد وربه، ولا يعني هذا تجسيداً لله في صورةٍ إنسانية، وإنما هو تقريبٌ لهذه العلاقة التي أساسها المحبة والرحمة.
وجاء الإسلام ليوضح أيضاً هذه العلاقة بمعنى الرحمة اللامتناهي لله، الله رحيمٌ بعباده، "..يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ..."[الزمر 53]، "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..."[النساء 116].
ومن معاني الإشراك بالله، أن تضع له صورة. فإذا وضعت له صورة أصبح له شريك، لأن أي صورةٍ تضعها له سوف تجد أنها تنطبق وتتماثل مع صورةٍ أخرى. فإذا تصورت أنت وقلت: أن الله يريد كذا وكذا وكذا، وأن حكم الله هو كذا وكذا وكذا ـ وحددت حكم الله فيما تراه أنت، جعلت من نفسك شريكاً لله، لأنك اتفقت مع هذا التصور.
فإذا تصورت الله كسيدٍ لك، يأمرك بأوامر فتطيعها، ولا تفهمها، ولا تعرف أنها لخيرك، وكيف تكون لخيرك وأنت تنفذها دون وعيٍ ودون فهم، وتتصور أن هذه هي الطاعة؟ فهذه لا تكون طاعة. وإنما الطاعة أن تتفكر فيها وتتأملها ـ نقصد الأعمال والأوامر ـ لتعرف كيف تنفذها، وكيف تجعل منها سبباً لأن تكون أفضل، ولأن تكون أحسن.
ومن هنا، سوف نجد الذين اتبعوا منهج الإسلام، بأن تأملوا وتدبروا فيما أنزل الله على رسوله، وأكبروا الله عن أي شكلٍ وصورة، وخشوا الله، فلم يقولوا أبداً: أن هذا هو حكم الله، وإنما تعلموا أن حكم الله في أن يقرأوا آياته، وأن يتدبروها ويتأملوها ويتفاعلوا معها، وألا يضعوا الله في إطارٍ يحددونه، وإنما دائماً يحاولون أن يفهموا، وبما فهموا يفعلون، وينسبون الفعل إلى أنفسهم، وإلى مفاهيمهم، ويقولون دائماً: الله أكبر.
أما الذين وضعوا الله في إطارٍ، ونسبوا إلى الله ما يفهمونه، وظنوا أنهم بذلك يحيون ويميتون، فيقتلون هذا، ويتركون هذا، ولا يخشون الله، بأن يقولوا: ربما نكون على خطأ ـ فيتراجعون عن فعلٍ لا يمكن تصحيحه.
"...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...."[فاطر 28]، الذين يدركون أنهم ربما يكونون على خطأ، فينسبون الأمر لأنفسهم، ويستغفرون الله دائماً، ويتبعون سنة رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ [إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة]ٍ(2)، إستغفارٌ دائمٌ، خشيةٌ دائمة.
هذا، هو الذي يجعل الإنسان يكسب في كل لحظةٍ من لحظات حياته، ألا يغتر بنفسه، وألا يعتقد أنه على الحق المطلق، وإنما يراقب نفسه فيما تفعل، ويراقب إرادته فيما تريد، ويراقب عقله فيما يفكر، ويراقب قلبه فيما يحب.
المراقبة الدائمة، والإدراك التام أن كل خطوةٍ تخطوها على هذه الأرض، هي كسبٌ لك في الله، يوم تكون نيتك تعاملٌ مع الله، وأن كل خطوةٍ لك وأنت متكبرٌ، تعتقد أنك الحق كل الحق، وأن غيرك ليس كذلك، فهي خطوةٌ تبعدك عن الحياة.
عباد الله: علينا ونحن نتأمل حولنا، أن نراجع أنفسنا، هل نحن فيمن يخشون الله حقاً، أو أننا نظن أننا على الحق المطلق؟ لا مانع أن نظن أننا على حقٍ نسبيّ، ولا يجعلنا ذلك نتكبر، وإنما يجعلنا نتدبر، حتى نصحح دائماً مفاهيمنا، ونعلم أن ما ندركه اليوم، قد يكون خطأً لما سوف ندركه غداً.
حين عبر الصوفي عن ذلك قال: [لقد أصبح قلبي اليوم قابلاً لكل صورةٍ، لكل دينٍ، لكل فكرٍ، لكل مفهومٍ]، لا لأن أي دينٍ أو أي مفهومٍ هو حقٌ مطلق، وإنما لأنه ربما يجعلني أفيق إلى فهمٍ لم أكن أفهمه، وإلى حالٍ لم أكن أدركه(3).
عباد الله: نسأل الله: أن يوفقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه نجاتنا، وأن يجعل من كل لحظةٍ في حياتنا كسباً لنا فيه، وأن يجعلنا إخواناً على ذكره مجتمعين، ولوجهه قاصدين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_______________________

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن يراجع كلٌّ منا ما هو عليه، أن يراجع مفاهيمه، وأن يراجع أعماله، وأن يراجع خطواته وحركاته ومعاملاته. فالمراجعة الدائمة هي طريق الحياة، وهي طريق كسب الحياة، وهي طريق السلام والإسلام، وهي طريق النجاة والصلاح والفلاح، وهي طريق الحب والمحبة والرحمة.
      نحن نبدأ دائماً "بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"[الفاتحة 1]، لأننا نؤمن برحمته اللانهائية، برحمته الواسعة التي وسعت كل شيء، نُكبِره دائماً عن أي صورةٍ وعن أي شكل، ونطمع في حبه، وفي رحمته، وفي مغفرته، وفي عطائه، وفي كرمه، وفي نوره، وفي كل صفةٍ من صفاته لا نهائية، لا محدودة، ولا موصوفة، إنما نطلبها تجريداً. حتى ولو كنا نطلبها في حالٍ في حياتنا، فإن طلبنا يتجاوز هذا الشكل الظاهريّ.
      إن كنا نطلب رزقاً مادياً في حياتنا لنعيش عيشةً كريمة، فإن هذا الطلب يتجاوز هذه الصورة، لمعنى الرزق المجرد الذي فيه الحياة، والذي فيه النجاة، والذي فيه كل شكلٍ طيب، وكل صورةٍ طيبة.
      فإن كنا نسأله صحةً، فإن هذا الطلب يتجاوز هذا الشكل، إلى أن نكون أصحاء في طريقه، أن نكون أصحاء في عقيدتنا وفي معاملاتنا وفي حياتنا، في حياتنا الحقية، في حياتنا الممتدة.
      وإن كنا نسأله سلاماً على أرضنا، وأن يرفع هذه الكراهية وهذه البغضاء بين أفراد مجتمعنا، فإن دعاءنا يتجاوز هذا الشكل، إلى سلامٍ روحيّ ومعنويّ، لنا ولوجودنا في أرضنا، وما بعد أرضنا.
      اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
      اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم أنزل سكينتك على قلوبنا، والسلم والسلام على أرضنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.      
_______________________________

(1)   إنجيل متى، الأصحاح السادس.

(2)    الحديث الشريف كما أخرجه مسلم "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ".

(3)   من أبيات لمحي الدين بن عربي:

لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ        فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ

وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ،                           وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ                         رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق