السبت، 21 فبراير 2015

الحقيقة المطلقة: أننا فقراء إلى الله وأننا عباد الله وأننا نجهل أكثر ما نعلم



حديث الجمعة
 1 جمادى الأول 1436هـ الموافق 20 فبراير 2015م

السيد/ علي رافع

 

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، ويا من تَصْدُقون مع ما أعطاكم الله من عقلٍ وضميرٍ وقلبٍ، تودون أن يكون تَوَجُّهكم خالصاً لوجه الله، ذاكرين أن المقصود وجه الله ـ حديث الحق موجهٌ إليكم، لأنكم تتقَبَّلونه، ولأنكم تسألونه، ولأنكم تدعون ربكم بالغداة والعشي تريدون وجهه.
      تسألون توجيهاً وإرشاداً، مفتقرين إلى علمٍ يُخرِجكم من جهلكم، وإلى رحمةٍ تُخرِجكم من ظلامكم، وإلى نورٍ يَهديكم في طريقكم. لا تتكبرون، بل للقول تسمعون، ولأنفسكم تتهمون، وتُصلُّون وتُسلِّمون على رسول الله في كل وقتٍ وحين.
      هكذا نريد أن نكون، لا نتكبَّر، ولا نغتر، ولا نتصور أن الحق ما نملك، وأن الباطل ما نرفض. فالحق المطلق، هو أن تعرف أنه لا حقٌّ مطلق تدركه. والباطل المطلق، هو أن تتصور أو تعتقد أن لا باطل أنت عليه، "وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ..."[يوسف 53].
      إن اعتقاد أي إنسانٍ وأي فريق، أنه يملك الحقيقة المطلقة، لهو الباطل المطلق. وإن ظن أي فريقٍ في نفسه، معتقداً أنه ربما يكون على باطلٍ، فهو الحق المطلق، لأنه يعني افتقاره إلى الله.
      والحقيقة المطلقة، أننا فقراء إلى الله، وأننا عباد الله، وأننا نجهل أكثر ما نعلم ـ لأن هذا واقعٌ نلمسه، ونعيشه، ونمارسه. وهذا معنى من معنى العبودية لله، دون تصورٍ لله في علاه، فتعالى الله عن أي صفةٍ وعن أي شكل.
      إن الحق المطلق، أنك مغادرٌ من على هذه الأرض، مهما طال بقاؤك. فهذه حقيقةٌ بالنسبة لك مطلقة، لا شك فيها. إنك لو فهمت ذلك، لفهمت معنى ما نقول، أن اعتقادك بجهلك هو حقٌ مطلق  ـ بجهلك النسبيّ ـ لأن هناك ما تعلمه، ولكنك مهما علمت فستظل دوماً جاهلاً، ستظل دوماً لا تحيط بغيبٍ، بل أن هناك غيباً دائماً يحيط بك.
      والباطل المطلق ـ للتقريب ـ أن تظن أنك خالدٌ على هذه الأرض لن تغادر، وكذلك أن تعتقد أنك تحيط بكل شيء، وأنك تعلم كل شيء، فهو باطلٌ أيضاً مطلق.
      لو عرفنا ذلك، لعرفنا أننا نتحرك بين هاتين النقطتين، كل نقطةٍ منهما هي نقطةٌ لا نهائية، ونحن بواقعنا نعيش بين أزلٍ لا بداية له، وبين أبدٍ لا نهاية له.
      لو أدرك الناس ذلك، لافتقروا إلى الله أكثر، ولتواضعوا لله أكثر، ولأدركوا أن افتقارهم وتواضعهم، ليس منةً يمنون بها على الخلق، وإنما هو واقعٌ، وحقيقةٌ يعيشونها ويتعاملون من خلالها.
      ما استطاع إنسانٌ أن ينسب لإنسانٍ أنه على خطأٍ مطلق، لأنه لا يعرف ما يعتقده على حق. وما استطاع إنسانٌ أن يُسلِّم لإنسانٍ آخر لأنه على حقٍ مطلق، لأنه لا يستطيع أن يعلم ذلك أيضاً.
      الحقيقة الوحيدة التي يدركها الإنسان، هي وجوده، هي عقله، هي ضميره، هي قلبه، هي محاولته بأن يحيا.
      لذلك، عُلِّمنا ذلك في ديننا وفي قرآننا، "...لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..."[الإسراء 15]،"فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7]، وأن المسئولية هي مسئوليتك، وأن القضية هي قضيتك.
      فلا تَتَّبع دون فهمٍ ودون وعي، فسوف يتبرأ الذين اتبعتهم منك، "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ..."[البقرة 166]. سوف يتبرأ الشيطان منك، "...مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..."[إبراهيم 22]. فالإنسان، هو مسئول، "...كلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته"(1).
      بل إن الحق يعلمنا ما هو أكثر من ذلك، "...مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17]. كيف يهدي الله، وكيف يُضلِل الله؟ إن هذا يكون من خلال الإنسان نفسه.
      فالإنسان قد يقرأ القرآن، فتلمس قلبه معانيه، فيتفاعل مع هذه المعاني، فيُخرِج نوراً، "...جَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ..."[الأنعام 122]، فتكون نوراً وسراجاً منيراً، "...مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ..."[النور 35]. تكون أنت هذا المصباح، الذي يهدي إلى طريقٍ قويم.
      ومن الناس من يقرأون القرآن، فلا يلمس قلوبهم ولا يتجاوز حناجرهم، بل أنه ربما يجعلهم يُخرِجون ما فيهم من ظلام. وقد رأينا أمثلة ذلك في تاريخنا، وفي حاضرنا. فالذي قتل الإمام عليّ ـ كرم الله وجهه ـ كان يتلو القرآن، وكان يقوم الليل، وكان يصوم الدهر، ولكن لم يُخرِج ذلك إلا أسوأ ما فيه. فهل كان السبب فيما يقرأ؟ أم كان السبب فيه، أن معدنه لا يُخرِج إلا ظلاماً، حتى ولو أخذ نوراً، حتى لو قرأ نوراً، حتى لو أقام صلاةً، حتى لو صام دهراً؟
      وهذا، هو قانون الحياة. أن السر يكمن في الإنسان، ولا يستطيع إنسانٌ أن يأخذ أكثر من سِعَته. فإذا جلس إنسانٌ مع عالمٍ، مهما جلس، لو أنه غير قادرٍ على أن يستوعب ما يقول العالم، فلن يُخرِج من وجوده إلا ما هو له أهل. فربما لا يفهم ما يُقال بالصورة السليمة، بل يقلبها ويغيرها، فتُخرِج ظلاماً في ظلام.
      لذلك، أُمِرنا أن لا نُبرِّئ أنفسنا، وأن نحاسبها، وأن ننظر إلى ما ينتج عنا، حتى نستطيع أن نصوب طريقنا، وأن نستغفر ربنا، بل علينا أن نستغفر دائماً، وألا نتكبر بما فهمنا.
      وإنما نسأل الله أن يصوب لنا مفاهيمنا، وأن يصحح لنا ما وصلنا إليه، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا، وأن يجعلنا أهلاً لأن نستغفره دائماً، فيغفر لنا ما تأخر من ذنبنا. فنكون مقتدين برسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يوم علمنا ربنا ما صار إليه، "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"[الفتح 2،1].
      نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردت أن أقوله اليوم مخاطبكم ومخاطب نفسي: أن نكون أكثر تواضعاً، وأكثر افتقاراً، وأكثر طلباً لرحمة الله، وأكثر رحمةً بكائنات الله.
      وأن نعلم أن الحقيقة التي نستطيع أن نتمسك بها على هذه الأرض، هي افتقارنا، وضعفنا، وجهلنا، وقلة حيلتنا، وقلة إدراكنا. فهذه حقيقةٌ إذا قلنا مطلقة ـ إذا كانت هناك حقيقة مطلقة، أياً كانت ـ فهذه هي الحقيقة المطلقة، التي نستطيع أن نقول أنها واقعة.
      وأن التكبر، والتجبر، والاغترار، واعتقاد العلم المطلق، واعتقاد التنزُّه عن الباطل، وأنك فوق ذلك ـ إن كان هناك شيءٌ على هذه الأرض يسمى باطلاً مطلقاً ـ فهذا هو الباطل المطلق، لأنه لا أحد على هذه الأرض كذلك.
      فواجبٌ، أن نُركِّز على تنمية وجودنا، وأن نستغفر الله دوماً، حتى لا نكون فيمن قيل فيهم: "...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً..."[البقرة 26]، ونكون في قوله: "...وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً..." [البقرة 26].
      فأي علمٍ، أياً كانت قدسيته، يوم ينزل إلى هذه الأرض، فيتناوله الناس، فهناك احتمالٌ أن يُستَخدَم في باطلٍ، لما في الناس من ظلام. فليس كل من ردَّد آيةً، أو قرأ قرآناً، فإنه سوف يؤثر فيه تأثيراً نورانياً، بل أنه قد يَستخدِمه هو بظلامه، فيزيده ظلاماً على ظلامه، وهذا معنى من معاني "...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً...".
      نعوذ بالله أن نكون كذلك، نفتقر إليه، ونسأله أن نكون مفتقرين إليه، وألا نُبرِّئ أنفسنا، ونظل دائماً نطلب قوةً من الله، حتى لا نسير في طريق الظلام والإظلام. هذا ما نملكه على أرضنا وفي وجودنا، والله أعلم بنا.
      وهكذا، علمنا رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يفعل بي غدا](2)، [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله، حتى أنا، ما لم يتغمدني الله برحمته](3)، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28].
      فلا طريق لنا، إلا أن نطمع في رحمة الله، وأن نطمع في كرم الله، وألا نغتر بأنفسنا، وألا نغتر بعقولنا، وألا نغتر بقلوبنا، وألا نغتر ـ حتى ـ بضمائرنا. فكم من الناس يظنون أنهم يحسنون صنعا، وضمائرهم راضيةٌ عما يفعلون، "أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ"[البقرة 12].
      لذلك وجب علينا أن نستغفر الله دائماً، [إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة](4)، هكذا قال رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.
      فحتى إذا كان ظن الإنسان أنه يُحسِن، وهذا هو الطريق الوحيد الذي أمامه، فهو لا يستطيع أن يفعل إلا ما يظن أنه الأحسن والأفضل ـ فعليه أن يستغفر الله عما يفعله، وأن يسأل الله تصويباً دائماً، فربما لا يرى كما يجب، ولا يسمع كما يجب، ولا يفهم كما يجب، فيبحث دائماً عن الحقيقة في أي صورةٍ ومن أي مصدرٍ، حتى يُقوِّم نفسه دائماً.
      هكذا نتعلم، وهكذا نتفَهَّم، معنى الافتقار إلى الله، ومعنى التواضع الدائم لله، حتى نكون أهلاً لرحمته وأهلاً لنعمته.
      اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا. 



_______________________________

(1)   جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏" ‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

(2)   حديث شريف ، نصه (قال صلى الله عليه وسلم :"هذا أنا رسول الله , والله ما أدرى ما يصنع بي" ) ، وفى رواية أخرى " قال صلى الله عليه وسلم :ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم" .(أخرجه احمد ابن حنبل- مسند احمد بن حنبل).

(3)   "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(4) الحديث الشريف كما أخرجه مسلم "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".   





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق