الاثنين، 14 سبتمبر 2015

سوف يدرك الإنسان في لحظةٍ ما أنه في كل هذه الدنيا لا يملك إلا أن يدعو الله



حديث الجمعة
 27 ذو الحجة 1436هـ الموافق 11 سبتمبر 2015م 
السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ونعوذ به من الشيطان الرجيم. نعوذ به أن نقول زورا، أو نغشى فجورا، أو أن نكون مغرورين. ونسأله أن نكون دائماً في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين.
      عباد الله: تمر بنا أحداثٌ وأحداث، سواء في حياتنا العامة، أو في حياتنا كأفراد. أحداثٌ قد تُسعدنا وقد تُحزننا. أحداثٌ فيها رسائلٌ لنا، وفيها تعليمٌ لنا، وفيها تدريبٌ لعقولنا وقلوبنا. أحداثٌ تجعلنا نتأمل أكثر، ونذكر أكثر، ونعمل أكثر. وأحداثٌ قد تجعلنا أقلّ عملاً، وأقلّ ذكراً، وأقل تفكُّراً وتدبُّراً. كل هذا يتعرض له الإنسان في حياته التي يعيشها على هذه الأرض.
      فماذا يفعل الإنسان؟ ما هو دور الإنسان، بالنسبة لهذا الوجود الذي منحه الله إياه؟ هذا ما جاءت به الأديان، وما جاءت به الرسالات السماوية، وما جاء به عباد الله الصالحون وأولياء الله الصادقون، يُعلِّمون ويُرشِدون، ويُوجِّهون ويَنصحون. جاء حديث الحق لنا يُعلِّمنا، يُعلِّمنا أن هناك ما هو ليس بأيدينا، "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3]، يؤمنون بأن هناك ما لا يستطيعون أن يسيطروا عليه، أو أن يحيطوا به.
      هناك قضاء الله وقدره، هناك أشياءٌ لا تعلمها، "...وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ..."[لقمان 34]، "وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"[الذاريات 22]. هناك دائماً هذا الجانب من الحياة الذي لا يملك الإنسان فيه شيئاً يفعله، بل أن في كثيرٍ من الأمور لا يستطيع الإنسان أن يغير شيئاً يراه باطلاً أمامه.
      فقد يرى ـ في نظره ـ أخاً له يعمل عملاً يؤذي به نفسه، أو إبناً له لا يسير في الطريق القويم، قد يرى أموراً كثيرة يريد أن يُصوِّبها، ويريد أن يصححها ـ من وجهة نظره ـ ولكنه لا يستطيع. قد يرى في مجتمعه ظواهر سلبيةً كثيرة، يدفع بكل ما يستطيع، ولا يرى تغييراً، ولا يرى تبديلاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله. بل أنه قد يرى في نفسه الكثير الذي يريد أن يغيره ولا يستطيع أن يغيره. فماذا يفعل الإنسان وهو عاجزٌ مفتقرٌ ضعيفٌ، لا يستطيع أن يفعل شيئاً؟
      هنا يجيئ الجانب الآخر الذي نتعلمه في ديننا، وهو الدعاء، وهو الرجاء، وهو الطلب، وهو الطمع في رحمة الله وفي توفيق الله. هنا تجيئ كل العبادات، هذا هو دور العبادات في حياتنا، فكل العبادات هي دعاء، كل العبادات هي رجاء، كل العبادات هي افتقارٌ إلى الله، هي طمعٌ في رحمة الله، هي رجاءٌ في أن يصيب الإنسان نور الله، ورحمة الله، وتوفيق الله.
      سوف يدرك الإنسان في لحظةٍ ما أنه في كل هذه الدنيا لا يملك إلا أن يدعو الله. يدعو الله بالصلاة، يدعو الله بالصوم، يدعو الله بالحج، يدعو الله بالزكاة، يدعو الله بالذكر الدائم، يدعو الله بلسانه، يدعو الله بقلبه، يدعو الله بتأمله وتفكره وتدبره، يُذكِّر نفسه بأن لا حول ولا قوة إلا بالله، وبـ "...إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ"[البقرة 156]، وبأن "...مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ..."[هود 88].
      فالعبادات، هي ممارسة الدعاء بصورٍ مختلفةٍ ومتعددة، في أزمانٍ مختلفة، وفي أماكن مختلفة، وفي أحوالٍ مختلفة. نُذكِّر أنفسنا دائماً برحمة الله المتسعة، وبعدم اليأس من روح الله، ومن نور الله، ومن فضل الله.
      وها نحن نسمع الصوفي وهو يخاطب الله: [إن لم أكن أخلصت في طاعتك، فإنني أطمع في رحمتك](1). فالطمع في رحمة الله لا حدود له، لا نيأس من رحمة الله، ولا نيأس من فضل الله، ولا نيأس من كرم الله، وإنما نسأل الله دائماً، وندعو الله دائماً. هكذا يعلمنا ديننا، وهكذا يشرح لنا ذلك عباد الله الصالحون، ورجال الله الصادقون، وأولياء الله الذاكرون.
      [يا بني إن سألت فاسأل الله](2)، "...إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ..."[لقمان 16]. وهذا جوهر شهادة أن لا إله إلا الله كما نتعلمها دائماً، وهذا هو معنى العبودية لله، وقد جعل الله لكل شيءٍ سببا، وجعل لنا ـ كخلقه ـ من الدعاء سببا.
      فإذا نظرنا حولنا، ووجدنا أن الذي يفلح في هذه الأرض وينجح هو الذي يعرف أسباب الحياة المادية وقوانينها الظاهرية، فإن أسباب نجاح الإنسان الروحية هي أن يكون في معنى العبودية لله، بأن يدعو الله دائماً، وأن يسأل الله دائماً، وأن يذكر الله دائماً. وهكذا، نجد أن الدعاء هو العلاج في كل الأحوال.
      "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا"[المعارج 21:19]، هذا داءٌ في الإنسان، فما هو العلاج؟ "إِلَّا الْمُصَلِّينَ"[المعارج 22]. "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ..."[البقرة 45]، والصلاة دعاء، والصلاة رجاء، والصلاة وصلة بمن تدعوه وترجوه.
      "وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ..."[الكهف 24]، فالنسيان داء والذكر دواء. "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ..."[آل عمران 135]، وتابوا إلى الله، فالفاحشة داء، والرجوع إلى الله دواء. "...فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..."[الفرقان 70]،  فما تقوم به من سيئات هي داءٌ يصيبك فإذا رجعت إلى الله حَوَّل الداء إلى دواء.
      فسوف لا يجد الإنسان له ملجأً إلا الدعاء، ولن يجد له مخرجاً إلا الدعاء. "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..."[الكهف 28]. الدعاء، ثم الدعاء، ثم الدعاء، في كل حالٍ، وفي كل عبادةٍ، وفي كل وقتٍ، وفي كل حين.
      نسأل الله: أن نكون من الداعين، الراجين، الذاكرين، المتأملين المتدبرين، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أننا على هذه الأرض نتعرض لأحداثٍ كثيرة، ومعظم ما نتعرض له لا نستطيع أن نتعامل معه. فنحن لا نستطيع أن نتعامل إلا مع الأمور التي تعلمناها من قوانين ماديةٍ على هذه الأرض. فهو ما هُيِّئَ له ودُرِّبَ عليه كلٌّ منا بتَعلُّمه وبما كسبه من مهاراتٍ نتيجة تجاربه على هذه الأرض، فيما يستطيع أن يفعله من أفعالٍ مادية وأعمالٍ دنيوية.
      وهو جزءٌ بسيطٌ جداً من حياة الإنسان على هذه الأرض، فما يعلمه الإنسان من هذه الأمور هو قليلٌ جداً، حتى بمقاييس العلم الأرضيّ الماديّ، فالعلوم على هذه الأرض انفجرت انفجاراً كبيراً في القرن الماضي، ولا زالت في تَضخُّمها وتوسُّعها وتشعُّبها، لأن الإنسان كفردٍ لا يملك إلا قليل القليل.
      فحتى في الأمور المادية عليه أن يستشير من هو أعلم منه، وما يعلم من أمورٍ تساعده فيما يتعرض له، وفي هذا أيضاً أمرٌ غيبيّ، فهو لا يستطيع أن يختار من هو أقدر على التعامل مع ما أصابه، مثلما تصاب بمرضٍ ولا تعرف من هو الطبيب الأقدر على أن يتعامل فيما أنت عليه. فحتى في هذه الأمور، نرى توفيق الله.
      فأغلب حياة الإنسان وما يتعرض له، هي أمورٌ لا يستطيع هو بقدرته الأرضية أن يتعامل معها بإحاطة، بحيث يقول: أنني أستطيع أن أدفع هذا بذاك. وإنما هناك جانبٌ كبيرٌ فيه غيبٌ عليه. فسوف نجد أن الإنسان في أغلب حياته هو يدعو الله أن يوفقه إلى الطريق القويم، وإلى الطريق المستقيم، وإلى طريق الهداية، وإلى طريق النجاة. بل أنه يدعوه أيضاً أن يوفقه فيما يختاره هو من أساليب في حياته، حتى فيما يستطيع أن يعرفه وأن يتعلمه، فهناك جانبٌ كبيرٌ في حياته يرجع إلى توفيق الله.     
      لذلك، سوف نجد أن الدين، وأن كل الرسالات السماوية، علمت الإنسان أن يلجأ إلى الله. فما كانت هذه العبادات التي أُمِر أن يؤديها إلا لمساعدته على أن يدعو الله. ولكن الناس لم يفهموا هذا الأمر كما يجب أن يكون، وظنوا أنها مجرد أوامر عليك أن تفعلها لذاتها، وأنها مطلوبة من الله أن تؤديها ـ فلم يعلموا أن الله حين أمرك بها، أمرك بها لتستطيع أن تتواصل معه، ولتستطيع أن تتلقى نوراً من نوره، وتوفيقاً من توفيقه "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل 118].
      فالذي يتخلى عن هذه الأمور، هو الذي يظلم نفسه، سوف يعاني في حياته، سوف لا يجد ملجأً يلجأ إليه، ولا نوراً يهتدي به، سوف يشعر بفراغ، سوف يشعر بألم، سوف لا يستطيع أن يتحمل الحياة، وربما يصل به الحال أن يقدم على أن ينتحر لأنه لا يستطيع أن يعيش هذه الحياة بكل ما فيها من أمورٍ قد يتعرض لها، تصبح حياته عذاباً فوق عذاب، "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
      فلذلك، فنحن نقول دائماً: أن كل العبادات هي دعاءٌ من الإنسان لمساعدته في حياته ليستطيع أن يكمل حياته الأرضية، ويخرج منها وقد كسب كرته.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته،ً ولا هما إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________

(1) من رباعيات الخيام ... ترجمة أحمد رامي:

إن لم أكن أخلصت في طاعتك .. فإنني أطمع في رحمتك

وإنما يشفع لي أنني .. قد عشت لا أشرك في وحدتك

 

(2) "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ". [أخرجه الترمذي].

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق