الثلاثاء، 7 يونيو 2016

الإنسان في بحثه عن الحقيقة إنما هو يحاول أن يُعدّ نفسه لاستقبالها، إنما هي تجيئ في النهاية بتوفيق الله

حديث الجمعة
1 رجب 1437هـ الموافق 8 أبريل 2016م
      السيد/ علي رافع

      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يارسول الله.
      عباد الله: يا من ترجون لقاء الله ويا من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحق موجَّهٌ إليكم، يخاطب عقولكم، وقلوبكم، وضمائركم، وأرواحكم، يقول لكم في أنفسكم قولاً بليغا، يقول لكم من أنتم، فقد خلقكم، وبصبغته صبغكم، وبسرّه أحياكم "...كُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ..."[البقرة 28]، وحمَّلكم أمانة الحياة، وعلّمكم الأسماء كلها، وجعلكم خلفاءه على الأرض "...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."[البقرة 30].  
      فكان الإنسان بذلك حاملاً لسرّ الحياة، وعالَماً قائماً بذاته، له كينونته، وله إرادته، وله قدراته وإمكاناته، وأصبح بهذه القدرات خليفةً على هذه الأرض، فجعله قادراً على أن يفهم أسرارها، وأن يبحث في أسباب الحياة عليها، "...قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت 20]، [وتحسب أنك جِرمٌ صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر](1)، "...كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..."[الإسراء 70]. كل هذه المعاني تعلّمنا أن الإنسان له قدراته، وهذا ما نراه في واقع الحياة.
      فنجد أن الإنسان كائٌن قابلٌ للتعلّم، وقابلٌ للتغيُّر، وقابلٌ للارتقاء، ويستطيع أن يغيّر، ويستطيع أن يطوّر، ويستطيع أن ينظر حوله ويتعلّم مما يحدث حوله، فعنده قدرةٌ على التحليل، وعلى الاستنتاج، وعلى الاستنباط، وعلى الاستدلال ـ وباتباعه لهذه القدرات استطاع أن يغيّر من الكثير على هذه الأرض.
      وقد ظل قروناً طويلة يبحث ويحلّل، ويتطوّر ببطء، حتى منتصف القرن الماضي، أو قبل ذلك بقليل، حدث انفجارٌ معرفيّ في جميع مناحي العلوم المادية، مما أدى إلى ما نحن عليه اليوم من تطوّرٍ كبيرٍ في العلوم وتطبيقها، وما كان ذلك إلا باتباع منهجٍ علميّ، مبني على النظر فيما نراه حولنا وتحليله بطريقةٍ منطقيةٍ عقلية، ليست مبنيةً على الظنّ أو التخمين، وإنما مبنيةٌ على واقعٍ يتكرّر.
      وإذا نظرنا إلى الحياة حولنا، لوجدنا أن جميع الظواهر الكونية تتكرّر بصورةٍ منتظمة،  "...كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"[الأنبياء 33]. الشمس تشرق كل يوم، وتغرب كل يوم، وهي مستمرّةٌ على ذلك من يوم أن خلق الله الأرض ومن عليها. فإذا أردت أن تقول قولاً، أو أن تنتج فكراً قابلاً لأن يَحدُث باستمرار بصورةٍ يمكنك أن تلاحظها، فأنت بذلك تقترب من معرفتك لقوانين هذه الأرض، وهذا ما يُطلق عليه أنه منهجٌ علميّ.
      أما إذا أعطيت للظنون وللأفكار العنان، بحيث أنك تقول أي شيء وتدَّعي أي شيء، لأنك لاحظت ملاحظةً أو حدث أمرٌ، فعممته وقلت أنه أمرٌ حقيقيّ، فهذا ليس حقيقيّ بقانون الحياة؛ لأنه قائمٌ على ملاحظةٍ واحدة لا تتكرّر، أو تكرّرت قليلاً. قد يكون هذا معتقدك، وربما تحتاج إلى وقتٍ أطول حتى تراه يتحقق بصورةٍ منتظمة، إنما إلى أن يحدث ذلك، فلا يجب أن تدَّعي العلم.
      إن ما حدث على هذه الأرض قائمٌ على معرفةٍ حقيقية بقوانينها، وهذه المعرفة لا تجيئ لإنسانٍ لم يُعدّ نفسه لها، بالتعلُّم، والتفكُّر، والتدبُّر ـ فإذا كان كذلك، فإنه قد يتعرض لإلهامٍ أو توفيقٍ من الله، يساعده على معرفة هذه الحقيقة الكونية. "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء..."[البقرة 255]، ولكن أنت عليك أن تُعدّ نفسك لمشيئته، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60].
      فالإنسان إن لم يكن مهيأً لأن يتقبّل علماً، فلن يحدث أن يتعلمه. وهذا ما نقوله دائماً، أن الإنسان في بحثه عن الحقيقة إنما هو يحاول أن يُعدّ نفسه لاستقبالها، إنما هي تجيئ في النهاية بتوفيق الله، وبفيض الله، وبعلم الله، وهذا هو قانون الحياة في كل شيء.
      وقد كشف لنا رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ذلك، [ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يفعل بي غدا](2)، [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله، حتى أنا، ما لم يتغمدن الله برحمته](3). ولنكون أهلاً لرحمة الله، فإن علينا أن نُعدّ أنفسنا لها، وهذا هو معنى المجاهدة ومعنى السلوك. فإذا كان ذلك في معنى الرحمة وفي إعداد النفس لمواصلة الحياة، فإن الأمر كذلك في العلم أيضاً وفي كل شيء، وهذا معنى "...وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ..."[هود 88].
     فالإنسان يعمل ليكون أهلاً لتوفيق الله، ويبحث ليكون أهلاً لتوفيق الله، ويذكر ليكون أهلاً لتوفيق الله، ويتأمّل ويتدبّر ليكون أهلاً لتوفيق الله. فرحمة الله دائماً موجودة، وعلم الله دائماً موجود، وتوفيق الله دائماً قائم، ولكن هل نحن أهلٌ له؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا.
      قانون الله قائمٌ وثابتٌ في الكون، لا يعرف أبيضاً أو أسود، مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو بوذياً أو كونفوشيوسياً، أو أي إنسانٍ بأي دينٍ كان، فيما نُطلق عليه من لفظ الأديان، لا يفرّق بين شمالٍ وجنوب، وبين شرقٍ وغرب. فالإنسان هو الإنسان، والقانون هو القانون.
    القانون "...مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ..."[المائدة 69]. القانون لا يفرّق، وهذا هو المعنى الكامن في الرسالة المحمدية التي جاءت للناس جميعاً، للأبيض، والأسود، والأحمر، والأصفر، لكل جنسٍ، ولكل لونٍ، ولكل حضارةٍ، ولكل إنسانٍ على هذه الأرض.
      ليس بالفكر المحدود الذي ظنّه المتابعون لهذه الرسالة بالإسم، وإنما بمعناها الأشمل، الذي يُحدّث الناس جميعاً، يحدّثهم بمعاني ومفاهيم وقوانين، لا يحدّثهم بأشكالٍ أو بصورٍ أو بتجمدٍ أو بوثنيةٍ، إنما يحدّثهم عن قانون الحياة، وهذا هو معنى، أو ما نفهمه من الآية "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ...."[آل عمران 19]، الإسلام بمعناه الشامل، وليس بمعناه المحدود الذي يظنّه البعض.
      عباد الله: بدأنا حديثنا عن الإنسان، وأنه القوة المحرّكة لهذا الوجود الأرضي بعمله، وتفكُّره، وتأمُّله، وتدبُّره، إنه بذلك يصل إلى أمورٍ بفضل الله وتوفيقه، تغيّره وتغيّر ما حوله، وهذه القدرة على العمل وعلى العلم وعلى الذكر، هي ما يميز الإنسان.
      فعلينا أن نكون كذلك، أن نعمل بقدر ما نستطيع، وأن نبحث بقدر ما نستطيع، وأن نذكر بقدر ما نستطيع، وأن نتأمّل ونتدبّر بقدر ما نستطيع. بذلك يُمَكِّننا الله بفضله وعلمه وكرمه، من أن نغيّر أنفسنا ونغيّر ما حولنا، يُمَكِّننا الله أن نكون صالحين، أن نكون أهلاً للحياة، أن نكون أهلاً لرحمته، أن نكون أهلاً لنعمته، أن نكون أهلاً لحكمته.
      عباد الله: فلنحاول أن نكون كذلك، وأن نُفعِّل كل ما أعطانا الله، فلم يُعطِنا الله ما أعطانا إلا لنُفعِّله، وإلا لنستخدمه، وإلا لنكون به في معنى الخلافة على هذه الأرض.
      نسأل الله: أن نكون كذلك، وأن يهيئنا لذلك.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان على هذه الأرض هو الكائن الوحيد عليها الذي يستطيع أن يتأمّل ويتفكّر ويتدبّر، وأن يحلّل ويستنتج ويستنبط ويستدلِل ـ بهذه القدرة يهيئ نفسه ووجوده لاكتشاف قوانين الحياة بفضل الله وبتوفيق الله، فيغيّر بذلك حياته الأرضية، ويستطيع أيضاً بذلك أن يغيّر حياته الروحيّة.
      تغيير حياته الأرضية يكون باكتشاف قوانين الحياة المادية، فيستخدمها فيما يغيّر به من معيشته، ومن أسباب الحياة الأرضية، بكل ما يحتاجه لهذا الوجود الماديّ أن يبقى عليها من طعامٍ، أو شرابٍ، أو مسكنٍ، أو ملبسٍ، أو تنقُّلٍ، أو اتصالٍ، أو تدبير قوانين أرضية مجتمعية تفيده في الحياة وفي المناحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
      أما حياته الروحيّة، فإن تأمّله، وتدبّره في أحواله المعنويّة والسلوكية، تجعله يغيّر من سلوكه لأن يكون إنساناً في سلامٍ في داخله وفي خارجه. سلامه الداخليّ يجعله قابلاً لكل صورةٍ بفضل الله ورحمته. وسلامه الخارجيّ يجعله أداة خيرٍ لجميع الناس، فلا يكون مصدر إيذاء بأي صورةٍ من الصور. وهو في سلامٍ مع الناس، وفي سلامٍ مع نفسه، بذلك يكون أهلاً لرحمة الله، فيكون بذلك في حالٍ أفضل في حياته الروحيّة الأخرويّة.
      لا يكون ذلك إلا بأن يُفعِّل الإنسان كل طاقاته الماديّة والروحيّة. طاقاته الماديّة التي تتمثل في قدرته على أن ينظر في كل ما يحدث حوله، وفي تحليله، وفي قدرته على تغييره. وطاقاته الروحيّة التي تتمثل في قدرته على أن يذكر، أن يتّجه إلى الغيب، أن يتّجه بالدعاء، أن يقيم صلةً، أن يقيم صلاةً، أن يجاهد نفسه، أن يتكاتف مع إخوانه على هذه الأرض، أن يتعاون معهم، أن يخدمهم، أن يساعدهم بدافعٍ روحيّ، بدافعٍ معنويّ. هذه القدرة التي أوجدها الله في الإنسان، إذا فَعَّلها الإنسان، رجعت عليه بسلامٍ وأمان.
      اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً  لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا. 
   
_____________________

(1)   مقولة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

(2)           حديث شريف ، نصه (قال صلى الله عليه وسلم :"هذا أنا رسول الله , والله ما أدرى ما يصنع بي") ، وفى رواية أخرى " قال صلى الله عليه وسلم :ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى ولا بكم" .(أخرجه احمد ابن حنبل- مسند احمد بن حنبل).

(3) "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

 


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق