الأربعاء، 20 يوليو 2016

إذا تُرِكت لحالك بحالك فإنك ستتقاذفك قوى الحياة على هذه الأرض

حديث الجمعة 
15 رجب 1437هـ الموافق 22 أبريل 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً لله، والصلاة والسلام دائماً على رسول الله.
عباد الله: ما نُذكِّر أنفسنا به دائماً، وما جاءت به آيات الله لتعلّمنا عن أنفسنا، "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"[الشمس 10:7]، وتصف لنا ما ستقوم به هذه النفس على هذه الأرض، "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى،  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى"[الليل 11:5].
آياتٌ كثيرة تتكلّم عن الإنسان، ونفسه، وصفاته، وأعماله، تُذكِّرنا أيضاً، "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ"[الفجر 16،15]، آياتٌ وآيات، تصف لنا حال نفوسنا، وتصف لنا كيف نعالج هذه النفوس.
النفس فيها الخير وفيها الشرّ، فيها الحقّ وفيها الباطل، فيها النور وفيها الظلام، وهناك درجاتٌ في كلّ إنسان من هذه الصفات، فتجيئ الآيات لتعبر عما يجب أن يفعله الإنسان، "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"[الشمس 9]، تزكية النفس. ثم يجيئ تفصيلٌ في تزكية النفس، "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى"، العطاء والتقوى.
والعطاء هو إحساس الإنسان بانتمائه إلى عالمه، وأن كلّ كائنٍ على هذا العالم هو مرتبطٌ به بصورةٍ أو بأخرى. لذلك، فإن واجب الإنسان أن يقوم بما يستطيع ليساعد أي كائنٍ على هذه الأرض ـ ليساعد أخاه الإنسان، ليساعد النبات والحيوان، ليساعد كلّ كيانٍ وكلّ شيءٍ يستطيع أن يساعده وأن يعطيه، وأن يشعر بأن هذا العطاء هو من الله.
فلا يمُنّ على من يعطيه، "...لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى..."[البقرة 264]، لا تبطلوا أي عطاءٍ بمَنٍّ أو أذى. هذا دور الإنسان تجاه الآخرين، وهناك دورٌ للآخرين تجاهه، [عاملوا الناس كما تحبوا أن يعاملوكم به](1)، فإن أعطيت استقبلت، وإن استقبلت أعطيت، وفي عطائك واستقبالك تتعامل مع الله.
وهذا معنى "مَن أَعْطَى وَاتَّقَى"، فالتقوى هنا هي خشية الله، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، وهذا هو الأسلوب الذي تكون فيه مزكياً لنفسك. إن السلوك في الطريق ليس أمراً خاصاً بالصوفية، وإنما هو أساس الدين، وأساس السلوك الذي يُمَكِّنك من أن تُغلِّب ما فيك من خيرٍ، وأن تُعلي ما فيك من حقٍّ، وأن تكسب الحياة.
إنا نستطيع أن نعدد أموراً كثيرة من آياتٍ بينات توضح وتبين كيف يكون سلوك الإنسان، وقد تعطيك التوجيه بأن تُظهِر لك ما فيك من سوء، كما الآية التي ذكرناها، "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ".
هذه الآية توضح للإنسان سلوكاً يجب أن يتنبه إليه، فيكون دائماً شاعراً بكرم الله في كلّ صورةٍ وفي كلّ حال، وأن يكون شاعراً في كلّ حالٍ أيضاً بنتيجة عمله، وأن ما يحدث له في الحياة إنما هو تنبيهٌ له ليرجع إلى الطريق القويم. فإذا شعر بضيقٍ، أو بتقتير رزقٍ، أو بمرضٍ، أو بصعوبةٍ أياً كانت في حياته ـ لا يشعر بأن ذلك إهانةٌ من الله له لمجرد الإهانة.
وهذا هو الفارق بين أن تتذكر وتتأمل فيما يصيبك، وتربط بينه وبين علاقتك بالله، إنما يُذكِّرك ذلك بأن عليك أن تتفكّر فيما تفعله وفيما تقوم به، وأن تراجع نفسك، وأن تتوب إلى الله، وأن تستغفر الله، وأن تدعو الله أن يرفع هذه الغمة. ربما يكون ذلك حتى تنشغل بذكر الله، "...فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ"[الأنعام 42]، "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"[العنكبوت 2].
فشعورك إذاً حين تكون في هذا الحال من الضيق ومن صعاب الحياة بصورها المختلفة، تذكر الله أكثر، وتدعو الله أكثر، وتلجأ إلى الله أكثر، وتجأر إلى الله أكثر ـ وهذا سلوكٌ يطهّرك، ويزكّيك، ويُعليك، ويطوّرك إلى أفضل وأحسن وأقوم.
وأنك حين تشعر بنعمة الله عليك، لا تعتقد أنك منعمٌ عليك لأنك وصلت أو أحسنت، وإنما هو فضله عليك وكرمه بك. فقولك في الآية "...رَبِّي أَكْرَمَنِ..."، في هذا الإطار وفي هذا السياق، هو أمرٌ يجب ألا تقوم فيه من منطلق أنك تعتقد أنك أهلٌ لهذه النعمة لذاتك، وإنما تشعر برحمة الله وبكرم الله وفضل الله، "...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"[لقمان 18]، [من تواضع لله رفعه](2)، ومن افتقر إلى الله أغناه، ومن سأل الله أجابه، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60].
آياتٌ وآيات لا تنتهي، علينا ونحن نقرأ آيات القرآن أن نتدبرها، وأن نستمع لها وإلى توجيهها وإلى إرشادها، فلا نرددها دون وعيٍ ودون فهم، ولا نقرؤها دون تمَعُّنٍ ودون نظر. إن كلّ آيةٍ مذكورةٍ في القرآن فيها رسالةٌ للقارئ وللتالي وللمردد.
حتى إذا كان الحديث عن قصص الأولين، إنه حديثٌ موجّهٌ إليك، أو كان عما وراء هذه الأرض، إنه حديثٌ موجّهٌ لك لتشعر دائماً بأن الله يحدّثك، يخبرك عن القديم ويخبرك عن القادم، يخبرك عن قديمك ويخبرك عن قادمك، كما يخبرك عن حاضرك فيما يجب أن تقوم به على أرضك، ويحفّزك دائماً لتفعل ذلك، وألا تقنط من رحمة الله، "...لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"[يوسف 87].
لا تيأس من رحمة الله، ومن مغفرة الله، "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا..."[الزمر 53]، "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..."[النساء 48].
والشرك بالله هو استغناؤك عن الله، فإذا استغنيت عن الله بما فيك، تُرِكت لما فيك، "وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى". والبخل هو عدم العطاء، والاستغناء هو عدم الافتقار وعدم التقوى. فإذا تُرِكت لحالك بحالك فإنك ستتقاذفك قوى الحياة على هذه الأرض، فإما أن تقذف بك على الظلام فتزداد ظلاماً على ظلام، أو أن تقذفك على النور فتفيق إلى هذه الحال الذي تشعر فيه بمعنى الافتقار وبمعنى الاحتياج وبمعنى السؤال، وهذا هو حال "...فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ".
فأنت على هذه الأرض، وأنت في هذا التقاذف، وقد تُرِكت لقوى الحياة بظلامها ونورها، فقد يزداد الظلام عليك، فلا تجد ملجأً إلا أن ترجع إلى الله. وإذا تقاذفتك قوى النور، فأنت إن لم تتقِ الله، فقد يكون النور هذا سبباً في غفلتك، "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، فتنة الإنسان في النور هي أن يفتقد إلى تقوى الله، "...رَبِّي أَكْرَمَنِ..."، ربي أعطاني لأنني أهلٌ لذلك، ويعيش في هذا الحال دون أن يراقب نفسه وهي تأخذه بعيداً عن النور الحقّ.
والإنسان وهو في ظلام، وما يحدث له على هذه الحياة، ربما يشتد به الظلام، فيشعر من كثرة هذا الظلام باحتياجٍ إلى قوةٍ تُخرِجه منه، فتكون هذه نقطة نجاته وخروجه، وهذا كله بفضل ما أقام الله في الإنسان من نورٍ وظلام، من فجورٍ وتقوى، من خيرٍ وشرّ.
هذا الخير الموجود في الإنسان يظلّ معه، قد يَضعف، ولكن في لحظةٍ قد يظهر مرةً أخرى فيقوده إلى الخير. والظلام قد يخفت، ولكن لا يزال موجوداً، وقد يخرج مرةً أخرى فيقوده إلى الشرّ. فتقوى الله هي ما يساعد الإنسان على أن يكون في دعاءٍ دائم، وفي استغفارٍ دائم، وفي ذكرٍ دائم، وفي تجمّعٍ على ذكر الله دائم، حتى يخرج من هذه الأرض وهو من أهل النور، وهو من أهل الخير، وهو من أهل الحقّ.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان على هذه الأرض كما وصفه الحقّ، يحمل بين جوانحه الخير والشر، النور والظلام، الحقّ والباطل، آياتٌ كثيرة وصفت لنا ذلك، كما وصفت لنا آيات الله صفات الإنسان في الخير وفي الشرّ، في الفرج وفي الضيق.
وعلّمتنا حال من هو غافلٌ عن الحقيقة. كما وصفت لنا حال عباد الله الصالحين، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]، كما وصفت لنا كيف نتعامل مع نفوسنا، وكيف نزكّيها، فعلّمتنا معنى العطاء، ومعنى التقوى.
علّمتنا أموراً كثيرة. علّمتنا أن نكون من "..الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ..."[البقرة 25]، وعلّمتنا ألا نغترّ بما أعطانا الله، وعلّمتنا ألا نجحد إذا مررنا بضيقٍ أو بأزمةٍ أو بأي صعابٍ في حياتنا، لا نيأس، وإنما نطمع في رحمة الله، علّمتنا أن ندعو، وأن نحمد الله، وأن نستغفر الله.
ندعو الله في كلّ حالٍ أن يساعدنا في حياتنا وفي سلوكنا وفي معاملتنا، وأن نحمده في عطائنا يوم يعطينا ويوم نشعر بعطائه، وأن نحمده يوم نشعر بضيقٍ أو بتقتيرٍ في عطائه ـ بظنٍّ منا أنه كذلك ـ نحمده لأنه يعلّمنا في عطائه وفي منعه، نحمده في كلّ حال، ونستغفره في كلّ حال.
لا ننسى أن نستغفره ونحن في عطاء، ولا ننسى أن نستغفره أيضاً ونحن في ضيق ـ بهذا نُهذِّب أنفسنا ونُقَوِّمها ونزكّيها، فنكون من الفالحين، "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"، ولا نكون من الخائبين، "وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"، وهذا يعني أن نبخل وأن نستغني، أن ننسى أن نحمد الله، وأن نستغفر الله، أن ننسى أن ندعو الله، "...وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف 28]، هذا من دسَّاها، من غفل عن ذكر الله.
هكذا نتعلّم لعلّنا ننفّذ ما نتعلّمه، وما نقرؤه، وما نتلوه ليل نهار، وما نردده في صلواتنا، وما نردده في أحاديثنا ـ لعلّنا نقوم فيه حقّاً ونقوم فيه صدقاً، فنكون من الفالحين .
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].        
________________________

(1)  مقولة للسيد المسيح ـ عليه السلام ـ : "عاملوا الناس بمثل ما تريدون أن يعاملوكم. إن كنتم تحبون من يحبكم، فهل لكم فضل في هذا؟ حتى الأشرار يحبون من يحبهم". (بشارة لوقا 6 :32،31)

(2)    حديث شريف نصه: "من تواضع لله رفعه الله". الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق