الأربعاء، 24 يناير 2018

آيات الله التي تُحدّثنا عن خَلقنا لنرى الله كغيبٍ، في وجودنا كشهادة

حديث الجمعة 
14 صفر 1438هـ الموافق 3 نوفمبر 2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ..."[ الأعراف 43].
الحمد لله الذي جعلنا نتأمّل في آياته في السّماوات، وفي الأرض، وفي أنفسنا، وفي كتابه الكريم، وفيما جاء به رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لنتعلّم طريقنا، ولنطلب دائماً الهداية إلى الصّراط المستقيم، ونتعلّم كيف نسلك حياتنا وطريقنا، متّجهين إلى الحقّ وإلى الحياة، مستعينين بآياته التي يشرح لنا فيها طريقنا ويوجّهنا إلى ما يحيينا.
"إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ"[الانفطار 1 ـ 5]. "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ"، توضيحٌ لحياة الإنسان وما يحصّله فيها، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8].
الإنسان محصّلة أفعاله، وفي لحظةٍ فارقة، سوف ينظر ويعكس البصر إلى داخله فيرى كلّ شيءٍ فيه، لحظة فصلٍ في حياته وفي وجوده، لحظةٌ يتغيّر فيها كلّ شيء، فالسّماء تنفطر، والكواكب تنتثر، والبحار تُفجَّر وتنفجر، والقبور تُبعثر، لحظةٌ فارقةٌ فاصلة.
وهذا معنىً قد لن يكون شكلاً أو صورةً، فنحن نقول دائماً، أنّنا لا نستطيع أن نتصوّر شكلاً أو صورةً ليوم الفصل، إنّما نؤمن بالمعنى، ونؤمن بأنّ كلّ إنسانٍ سوف يمرّ في هذا المعنى، وفي هذه اللحظة، وفي هذا الحال.
الآية تضع لنا الهدف أو الحال الذي سوف نصل إليه، ثم تحدّثنا عن حياتنا وعن وجودنا، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ"[الانفطار 1 ـ 5]، توجيهٌ وتساؤلٌ للإنسان، أن يفكّر، وأن يحاول أن يجيب على هذا السؤال: "... مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"؟
ماذا تظنّ في ربِّك الكريم؟ ماذا تظن في وجودك الذي خلقك فيه والذي سوّاك فيه؟ " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس 8،7]، ماذا تظنّ في هذه التّسوية التي سوّاك الله عليها، وقد سوّاك في هذه الصّورة، وركّبك في هذه الصّورة، وكان يمكن أن تكون في صورةٍ أخرى، أو في صورٍ أخرى، بل أنّك مررت من صورةٍ إلى صورة، ومن حالٍ إلى حال، إلى أن استقررت في هذا الحال وفي هذه الصورة.
إذا نظرت إلى الكائنات حولك، لوجدت صوراً كثيرة، من نباتٍ حيّ لا يتحرك، ومن حيواناتٍ حولك لا تستطيع أن تفكّر أو تعقل أو تغيّر.
حين يحدّثنا الحقّ عن خلق الإنسان بخلق آدم، "... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ..."[البقرة 30] ، هذا التّساؤل من الملائكة، تساؤلٌ كاشفٌ لحال الخلق قبل أن يَبعث آدم.
"إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"[الأعراف 72] ، فحال البشر قبل تلقّي الأمانة، أنّه كان في معنى الظّلوم الجهول، لا يعرف طريقه ولا يعرف حياته، ولا يمكنه أن يتصوّر حالاً غير هذا الحال، مثل باقي الكائنات لا يستطيع أن يتعلّم، ولا يستطيع أن يغيّر مثل باقي الكائنات.
فخَلق آدم كان تغييراً نوعيّاً لحال الإنسان، وقيام الإنسان، وخَلق الإنسان، "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ"، فماذا كان حالك بعد أن أصبحت في هذه الصّورة؟ هنا وصفٌ للإنسان وقد نسي هدف خلقه، "كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ"[الانفطار 9] ، يكذّبون بقانون الحياة، يكذّبون بالهدف الذي خُلِقوا من أجله. فالدّين هنا إشارةٌ إلى هذا القانون الإلهيّ، الذي خُلِق الإنسان في إطاره، أنّه كائنٌ وُجِد للحياة، وُجِد ليعرف، وُجِد ليذكر، وُجِد ليعمل، وُجِد ليغيّر.
الغالبيّة العظمى نسيت هذا المعنى وهذا الهدف، وانشغلت بأجسادها وبمتطلباتها، ونسيت الهدف من خلقها، ظنّت أنّها متروكة، ليس هناك من يحيط بها، وأنّ هناك من يحيط بكلّ أفعالها وحركاتها، لمساعدتها، ولحفظ كلّ ما ينتج عنها، "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ"[الانفطار 10 ـ 12]، وقد أوجد الله في الإنسان هؤلاء الحفظة، محيطين به من خارجه وداخله، "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"[غافر 19]، إنّه الخَلق الإلهيّ الذي جعل الإنسان محصّلة ما يفعل.
إنك لو تأمّلت في جسدك وفي صحة هذا البدن، سوف تجد أنّ هذا البدن يسجّل كلّ ما تفعله، وكلّ ما تُدخله إليه من طعامٍ أو شراب. وكلّ طعامٍ له أثرٌ على هذا الجسد، سواء كان هذا الأثر أثراً جيّداً إيجابيّاً، أو أثراً سلبيّاً. وكذلك نيّة الإنسان، تترك أثراً في روحه وفي جسده المادّيّ والرّوحيّ. وأعمال الإنسان كذلك.
وتصلنا الآيات بالبداية التي بدأت منها، "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ"[الانفطار 13 ـ 17] ، وهنا إشارةٌ لنتعلّم فيمَ نفكّر في يوم الدّين، أنفكّر فيه كصورةٍ أو كشكل؟ ـ كما بدأنا حديثنا ـ لا نستطيع أن نفعل ذلك. فكلّ صورةٍ نتصوّرها، ما يحدث لنا فيما بعد هذه الحياة، هو غيبٌ لا نستطيع أن نتصوّره، ولكن نجد التّعريف الذي توضّحه لنا الآية: "يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ"[الانفطار 19].
إنّها لحظةٌ. المقصود هنا بـ "... لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ..."، أنّك قد وصلت إلى نقطةٍ تُوجِب أن يُفصَل في أمرك، [ينقطع عمل ابن آدم إلّا من ثلاث، ولدٌ صالحٌ يدعو له، أو صدقةٌ جارية، أو علمٌ يُنتفع به](1)، في لحظةٍ، "... لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ..."، لحظة انتقالٍ إلى عالمٍ آخر، وإلى وجودٍ آخر، لا يصدع في قوانين هذه الأرض، إنّما قانونٌ آخر، إمّا أن يواصل الإنسان رحلته في هذا العالم الآخر، أو يتوقّف عن ذلك.
نتحدّث عن هذا كمعنىً مجرّد، لا يجب أن ترسم أذهاننا صورةً للتّقدّم أو التوقّف، إنّما هو أمرٌ مجرّد، يعرف فيه الإنسان ما قدّم وأخّر، ويعرف موقفه من الحياة ككلّ.
هكذا تُعلّمنا الآيات عن حياتنا وعن وجودنا، وفي نفس الوقت تذكّرنا بمعنى الغيب لنا، من البداية، "... مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"، الذي هو غيبٌ عليك، ولكن يمكنك أن تشهده في آلائه، وفي خَلقك الذي خلقك عليه، وفي صورتك التي سوّاك عليها والتي ركّبك فيها ـ ترى خَلقه في خَلقك وخَلق الكائنات حولك، في وجودك وفي وجود الكون كلّه.هكذا تصبح إنساناً يعيش بين الغيب والشّهادة، على الصّراط المستقيم، وفي الطّريق القويم.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون كذلك، وأن يهدنا الصّراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم. اللهم فاجمعنا دائماً وأبداً على الخير.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أنّ علينا التفكّر في آيات الله التي تُحدّثنا عن وجودنا وعن خَلقنا، لنرى الله كغيبٍ في وجودنا كشهادة، نؤمن به غيباً لا صورة له ولا شكل له، تعالى عن أيّ صورةٍ أو شكل ـ ونؤمن به شهادةً متجلّياً في آلائه، وفي خَلقنا، وفيما تحمل لنا هذه الحياة من آياتٍ وإرشاداتٍ، تعلّمنا وتوجّهنا، مصداقاً لقوله: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53].
وأنّنا لم نُترك سُدَى، وإنّما نحن محاطون بحَفظة، ليس فقط بمعنى: "كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ"، فهذا موجودٌ فيما خلقنا الله عليه، وإنّما بمعنى: "... حَافِظِينَ، كِرَامًا ..."، هذا المعنى يحمل معنى الحفظ، ومعنى الرّعاية، ومعنى الكرم الإلهيّ. هذا معنى من معاني: "... وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"[ق 16] ، بوجود هؤلاء الحَفظة الكرام، الذين هم في واقع الأمر، سرّ الحياة فيك، ونور الله فيك، والحياة التي أوجدها الله فيك.
فتعلّم كيف تتواصل مع هؤلاء الكرام، بأن تدعو الله، وأن تتّجه إلى الله، وأن تذكر الله. إنّك يوم تتعامل مع الله، مع أسبابه التي يتجلّي بها عليك في حياتك الدّنيويّة، فإنّ لله أسباباً يتجلّى بها عليك في حياتك الروحيّة، وهي ما أحاطك به بالكرام الكاتبين.
عباد الله: تأمّلوا في آيات الله، واذكروا الله كثيراً، واعملوا عملاً صالحاً، وادعوا الله دائماً أن يهديكم الصّراط المستقيم. اللهم اهدنا الصّراط المستقيم.
هكذا تكون حياتنا في طلبٍ دائمٍ لهذه الهداية، نعيش بين الغيب والشّهادة، على رجاء كسبٍ في الله، وعلى رجاء حياةٍ في الله، وعلى رجاء أن نكون أهلاً لنور الله، ولرحمة الله، ولفضل الله، ولكرم الله.
وحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.          
___________________

(1)  حديث شريف نصه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له." الراوي: - المحدث: ابن تيمية المصدر: مجموع الفتاوى.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق