السبت، 15 سبتمبر 2018

إذا لم يفعّل الإنسان ما أعطاه الله من أمانة الحياة فهو خاسر


حديث الجمعة 
4 محرم 1440هـ الموافق 14 سبتمبر  2018م
السيد/ علي رافع


حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائمًا لله، والشّكر دائمًا لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّ حديثنا يدور دائمًا حول الإنسان، وعلاقة هذا الإنسان بكلّ ما يحيط به. وآيات القرآن تحدّثنا عن الإنسان، "إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ"[العاديات 8:6]، "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ"[التين 5،4]، "وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3:1]، وآياتٌ أخرى كثيرة.
وما نريد أن نتحدّث عنه اليوم، هو وصف الإنسان على هذه الأرض، واقع الإنسان، حال الإنسان، "الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" كيف يكون، والإنسان في "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" كيف يكون.
"الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، بما أودع الله فيه من فطرة، " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، خلقنا فيه من القدرة ما يُمكّنه من أن يحوّل ما فيه من ظلامٍ إلى نور، وما فيه من جهلٍ إلى معرفة، وما فيه من باطلٍ إلى حقّ، وهذا معنى ـ أيضًا ـ للآية "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ..."[الأحزاب 72]، [ما ظهر الله في شيءٍ مثل ظهوره في الإنسان](1).
فالإنسان كأحسن تقويم، أو "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، هو فيما يحمله من أمانة الحياة، ومن فطرة الله التي فطره عليها. فإذا نظرنا إلى الإنسان من هذه الزّاوية، قلنا أنّه "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ". فلماذا تقول الآية: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ"؟ ولماذا تقول الآية: "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ"؟ ولماذا تقول الآية: "إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ"؟
إذا نظرنا إلى الإنسان في ظاهر وجوده، وفي طبائعه، وفي رغباته، وفي تثاقله إلى أرضه بذاته ـ لو نظرنا له من هذه الزّوايا، فهذا هو الإنسان في "أَسْفَلَ سَافِلِينَ"، هذا هو الإنسان الذي قد يخسر حياته، هذا هو الإنسان الذي هو "لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ".
فالإنسان كحال الدّنيا، وكحال المجتمع، وكحال الكون كلّه، يحمل في جنباته ما يُعلِيه، وما يُدنيه، ما يُبقيه "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، وما يردّه إلى"أَسْفَلَ سَافِلِينَ".
لو تُرِك الإنسان في حاله، دون أن يُفعِّل ما فيه من فطرةٍ حقيّة، فإنّه سوف يُردّ إلى "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" بطبيعته البشريّة، وبطبيعته الدنيويّة، وبتثاقله إلى أرضه.
لذلك، نجد الآيات تصف حال الفئة المستثناة، التي لن تتدنّى وتنجذب إلى الأسفل، "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"، "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ"[التين 6]، إلّا الذين قالوا: "... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191]، إلّا الذين قالوا: "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ..."[آل عمران 193].
هكذا ننظر إلى الآيات، لنتعلّم كيف نُفعِّل ما أودع الله فينا من فطرة الحياة، وألّا نتثاقل إلى أدنى وإلى أسفل. "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، و "آمَنُوا"، يسبقها "إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا".
فالإيمان، تسبقه دعوة الدّاعي إلى الإيمان، "...وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً"[الإسراء  15]، فالدّاعي والرّسول موجودٌ في كلّ إنسانٍ بفطرة الحياة فيه، وموجودٌ على الأرض في كلّ رسالةٍ نزلت إليها، وفي كلّ نبيٍّ ظهر في قومه، وفي كلّ وليٍّ دعا قومه، وفي كلّ آيةٍ تُحدّثنا في كلّ زمانٍ وفي كلّ مكان، مصداقًا لقوله: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53].  
فطرة الإنسان التي هي أساس قيامه "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، تجعله يطلب ويحاول أن يسمع، ويحاول أن يرى، كما فعل كلّ الأنبياء والرّسل، وكما فعل عباد الله الصّالحين، وكما فعل أولياء الله في كلّ عصر. إنّهم يبحثون، ويستمعون، ويرون، ويشاهدون، ويفكّرون، ويتدبّرون، ويذكرون، يبحثون عن الدّاعي ليستمعوا إليه، يعكسون البصر إلى داخلهم باحثين عمّا فيهم من سرّ الله، ومن رسوله لهم في قيامهم.
فإذا بحثوا، وإذا دعوا، أُجِيبوا، واستمعوا وسمعوا داعِيَ الإيمان. فإذا سمعوا داعِيَ الإيمان واستجابوا لدعوته، قالوا آمنّا، آمنّا بوجودنا، آمنّا أنّنا مخلوقون لرسالةٍ أكبر، ولوجودٍ أعظم، إنّا لسنا أجسادًا تسير على الأرض ثمّ تفنى، إنّا أرواحٌ تبحث عن الحياة، تبحث عن البقاء، آمنّا بالغيب، آمنّا بأنّنا لا نستطيع في هذا الجلباب أن نرى كلّ شيء، ولكنّنا نستطيع أن ندرك بما أودع الله فينا، أنّ هناك غيبًا، "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3].
"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ..."[البقرة 285]، فالرّسول وهو أهلٌ لتلقّي كلمات الله، وآياته، ونوره، آمن بما أُنزِل إليه، وما أُنزِل إليه هنا، هو مجملٌ، هو قوانين الحياة، هو معنى الحياة.
أمّا ما استطاع المؤمنون أن يتلقّوه، فهو معنى الغيب، "... وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّه ِ..."[البقرة 285] كغيب، وآمنوا بأنّ هناك قوانين وراء هذا الكون، في تعبيرهم عن إيمانهم بـ"... مَلآئِكَتِهِ ..."[البقرة 285]، وآمنوا بأنّ هناك قانونٌ لهذا الوجود وللإنسان فيه، في "... كُتُبِهِ ..."[البقرة 285]، وآمنوا بـ"... رُسُلِهِ ..."[البقرة 285]، الذين أرسل الله لهذه البشريّة، سواء فيما هو معروفٌ من الرّسالات السّماوية، أو كلّ ما جاء به أولياء الله، الذين تتناغم كلماتهم مع هذا الوحي الإلهيّ، ومع ما فيهم ـ أيضًا ـ من معنى رسولٍ من الله فيهم وفي وجودهم، في سرّ الله بهم، فقد خلقهم "فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ".
إيمان الإنسان بكلّ ذلك، هو أساسيٌّ، ليستطيع أن يتحرّك الإنسان على هذه الأرض، ليعمل صالحًا. والعمل الصّالح هو كلّ ما يستطيع أن يعمله الإنسان ليغيّر وجوده إلى أفضل، وليغيّر بيئته إلى أحسن، وهذا يستلزم من الإنسان أن يكون مؤمنًا برسالته. سوف يؤدّي هذا العمل الصّالح إلى تغيير الإنسان، ولكن كلّ شيءٍ على هذه الأرض يحدث بتدرّجٍ، فلن تستطيع أن تصل في لحظةٍ واحدة إلى كلّ شيء.
حتّى إذا نظرنا إلى قول الصّوفيّة أنّه [في  لحظةٍ تحدث الصّلحة](2) ـ كما يقولون ـ فهو تغييرٌ في جانبٍ معيّن، لا يعني أنّه قد يكون تغييرًا شاملًا، هناك تدرّجٌ في التّغيير، فلا تتعجّل، [هذا الدّين القيّم أوغل فيه برفق، فإنّ المنبتّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى] (3)، أي لا تتعجّل. لذلك، نجد الآية تُكمِل معنى: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ".
والحقّ، هو ما شهدتَه، وقد تشهد أنّك مظلمٌ، وأنّك لم تتغيّر، فهذا حقّ، لأنّك شهدتَه. وقد ترى أنّك تغيّرت في شيءٍ، وتبدّلت من حالٍ إلى حال، وهذا حقٌّ لأنّك شهدتَه. فالتّواصي بالحقّ هو أن تكون صادقًا فيما تُخبر به إخوانك، تُخبرهم بنجاحاتك وبفشلك، لتصل إلى مساعدةٍ فيما فشلت فيه، وليصل إخوانك إلى استفادةٍ مما نجحت فيه، فقد يساعدهم ذلك على ما فشلوا فيه.
والتّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر، هو الحديث عن تجاربٍ فعليّة، وعن واقعٍ يعيشه الإنسان، ويعرفه، ويشهده، ويعلم أنّ عليه أن يصابر، فكلٌّ يشدّ من أزر الآخر بأن يصبر ولا يتعجّل، يتكاتفون أن يصبروا، وأن "...يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..."[الأنعام 52]، ولا يتعجّلون. فليس الهدف أن تصل إلى شكلٍ معيّن، ولكن الهدف أن تظلّ مُصابرًا، ومُثابرًا، وداعيًا، وذاكرًا، ومُغيّرًا، ومُحاولًا، وهذا هو ما نطلبه وما نرجوه.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من "..الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"، وأن نكون دائمًا مجتمعين على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
_____________________
        الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ الإنسان إذا لم يُفعِّل ما أعطاه الله من أمانة الحياة، فهو خاسرٌ، وهو مرتدٌّ إلى أسفل، بطبيعة القوانين التي تحكم هذه الأرض، وأنّه ليخرج من جاذبيّة الأرض، أو تثاقله إليها، عليه أن يملك قوّةً دافعة تدفعه إلى أعلى.
وهذه القوّة الدّافعة، هي ما هو موجودٌ فيه من فطرة الحياة، التي تُمكّنه من أن يتفكّر، وأن يتذكّر، ومن أن يذكر ويعمل. تُمكّنه من أن يدعو إذا وجد أنّه لا يعلم، وأن يبحث ويجدّ، فيما يستطيع أن يراه، ليتعلّم ما هو موجودٌ على أرضه، فيساعده ذلك على أن يكون أكثر قدرةً على التّفكّر، والتّدبّر، والتّذكّر. 
والآيات تصف لنا هذه المراحل، "وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ"، مرحلة، أن يكون الإنسان بلا قوّةٍ دافعة. "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ..."، إلّا الذين فَعَّلوا ما هو فيهم من طاقاتٍ روحيّةٍ، ومعنويّةٍ، وعقليّة، تُمكّنهم من أن يبحثوا، وأن يسألوا، وأن يتقبّلوا الإجابة، وأن يستمعوا إليها، والذين يتواصون بينهم بما وصلوا إليه، حتّى يساعدوا بعضهم بعضًا، ويواصلوا حياتهم دون يأسٍ، بل بصبرٍ جميل، آملين في الله، داعين الله في كلّ وقتٍ وحين.
فالآيات تعبّر عن أحوال الإنسان المختلفة، وعلينا أن نتعلّم منها، وأن نعكس فهمنا لها على أنفسنا، فنُفعِّل هذا الفهم فيما نقوم به وفيما نفعله.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا دائمًا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
________________

(1)     "ما ظهر الله في شيء مثل ظهوره في الإنسان" مقولة صوفية.

(2)     "في لمحة تقع الصلحة" مقولة صوفية.

(3)     حديث شريف أخرجه البزار عن جابر في الجامع الصغير للسيوطي ضعيف " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، ويقويه حديث صحيح عن أحمد بن حنبل بلفظ :"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق " صحيح .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق