السبت، 29 سبتمبر 2018

المعراج في الله لا نهاية له، وما أودع الله في الإنسان من ظلام هو لنفس الهدف الذي أوجد فيه من النور


حديث الجمعة 
18 محرم 1440هـ الموافق 28 سبتمبر  2018م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشّيطان الرّجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، ونستعين بما وهبنا من نعمة الحياة، فكان فضله علينا عظيما، أن جعل لنا عقولًا نفكّر بها، وقلوبًا نذكر بها، وقوّةً نستعين بها على شرور أنفسنا وظلامها.
فالإنسان فيه ما يُحييه، وفيه ما يُميته، فيه ما يعلو به إلى أعلى علّيّين، وفيه ما يجعله يرتدّ إلى أسفل سافلين، وما أوجد الله في الإنسان من ظلامٍ إلّا لهدفٍ، وما أوجد فيه من نورٍ إلّا لهدفٍ، هو هدفٌ واحد في واقع الأمر، وهو مساعدة الإنسان أن يعرج إلى أعلى. 
قد نفهم نعمة ما أودع الله في الإنسان من نور، ولكنّنا كثيرًا ما نقف متسائلين أمام ما هو موجودٌ في الإنسان من ظلام، وهذه قضيّة الإنسان في وجوده، وأيضًا في مجتمعه، بل في الكون كلّه.
ونجد في الآيات القرآنيّة، حين يرسل إلينا الحقّ رسالةً كونيّةً قانونيّةً إلهيّة، في خلق آدم وإبليس، أنْ "...اهْبِطَا مِنْهَا..."[طه 123]، من الجنّة إلى هذه الأرض "...بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ..."[طه 123]، هي قضيّة النّور والظّلام، قضيّة الحقّ والباطل، قضيّة الخير والشّرّ، الموجود في الدّنيا، والموجود في الإنسان.
إنّ وجود الظّلام في الإنسان، هو ليذكّره دائمًا أنّه لم يصل إلى أعلى علّيّين، وهذا ـ في حدّ ذاته ـ أمرٌ أساسيّ، وهذه هي رسالة الظّلام في واقع الأمر، ومشكلة الإنسان، أنّه قد لا يستمع إلى هذه الرّسالة، ويظنّ نفسه في أحسن تقويم، وفي أعلى علّيّين.
هذا الإنسان، الذي لا يستمع لرسالة الظّلام فيه، هو كجسد إنسانٍ فقد قدرته على أن يميّز بين ما هو فيه خيرٌ له، وما فيه شّرٌّ له، جهازه المناعيّ فقد القدرة على التّمييز، وهذا ما نراه فيما يصيب الإنسان من أمراضٍ مستعصية، هو ضعف الجهاز المناعيّ، هذا لا يعني أنّ هذا الضّعف في الجسد، هو شيءٌ يَصِم الإنسان بشيء، فهذا قانون الخلق. وإنّما ممكن أن نقرأ منه، ما يصيب الإنسان من النّاحية المعنويّة.
فالجهاز المناعيّ الأساسيّ في الإنسان، هو جهازه الرّوحي المعنويّ، الذي يستمع إلى ما يصيبه من ظلام، ويتعرّف عليه أنّه الظّلام، ويجتهد أن يقاوم هذا الظّلام، فيَقوَى أكثر، وينطلق إلى أعلى أكثر.
وجود هذا المُكَوَّن الظّلاميّ في الإنسان، هو ما نفهمه في حديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [كان لي شيطان، ولكنّ الله أعانني عليه فأسلم، فهو لا يأمرني إلّا بخير](1)،  فيوم يكون وجود الإنسان مستعدًّا لمجابهة الظّلام، فإنّ الظّلام يكون حافزًا لأن يَقوَى الجهاز المناعيّ أكثر.
فهذا المعنى، له علاقةٌ أيضًا بمعنى رقيّ الإنسان اللا نهائيّ، وأنّ [ما من كمالٍ إلّا وعند الله أكمل منه](2)، وما نراه في أحاديث رسول الله عن خشية الله، وعن أنْ [لا يدخل الجنّة أحدكم بعمله، حتّى أنت يا رسول الله؟ حتّى أنا، ما لم يتغمدن الله برحمته](3)، وعن معنى: [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](4).
بل أنّ الآيات التي تشير إلى حال الذين مع رسول الله، "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ..."[الفتح 29]، من يكون أفضل من أن يكون مع رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؟ وهو يصفهم "... تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ..."[الفتح 29]، ويصفهم بالزّرع الذي "... أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ..."[الفتح 29].
والزّراع هنا، هم الذين أدركوا معنى الإنسان، وكيف يزرعون كلمة الله في أرض ناسوتهم، وكيف يُحيون قلوبهم بذكر الله، [إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإنّ جلاءها لذكر الله](5)، هؤلاء الزّراع حين نظروا إلى من مع رسول الله، وجدوا فيهم معنى الذين يذكرون الله، و"... الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..."[الأنعام 52]، الذين يصبر رسول الله نفسه معهم.
والكفّار هنا في التّشبيه البلاغيّ، أنّهم من يحاولون الزّراعة بتغطية البذور، فكلمة كفّار ـ  كما نرى في اللغة ـ أنّها تُستخدم على الذين يغطّون شيئًا، الذين لا يريدون أن يُظهِروا الحقيقة، وهم في تغطيتهم للحقيقة، يظنون أنّهم سوف يكونون أفضل، وسوف يكون زرعهم أفضل، فيجدون زرعًا أفضل من زرعهم، وهذا تعبيرٌ نفهمه، "لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ".
في الحياة، قد يرى البعض من النّاس في أنّ هؤلاء "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ..."[عمران 191]، في أنّ هؤلاء الذين يؤمنون بربّهم ويعملون عملًا صالحًا، أنّ هؤلاء الذين يراقبون الله في أعمالهم، ولا يجعلون الدّنيا همّهم وربّهم ـ هؤلاء الكفّار، الذين لا يرون في هؤلاء المجتهدين أنّهم أفضل.
بل يرون أنّ في وجودهم الذي يعبد الدّنيا، والذي لا يتورّع عن فعل أيّ شيءٍ ليكسب الدّنيا، والذي لا يُعطي أيّ اعتبارٍ للغيب، ولا للتّعامل مع الغيب، ولا مراقبة الغيب، هم يحجبون الحقيقة، لا يريدون أن ينظروا إلى الحقيقة في وجودهم، يحجبونها بحيث يستطيعون أن يفعلوا مثل هذه الأفعال ـ حين يروا أنّ الذين زرعوا بحقّ، والذين جاهدوا في الله بحقّ، أفضل حالًا، وأفضل قيامًا، وأفضل كسبًا، وأن حِيَلهم وعدم مراقبتهم لربّهم، لم تؤدّ بهم إلى شيء.
مع كلّ هذا التّصوير والتّعبير والتّوضيح، عن حال الذين هم مع رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نجد أنّ هناك تخصيصًا لبعضٍ من هؤلاء وليس كلّهم، "... وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"[الفتح 29].
هنا تعبيرٌ نقف عنده، "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم"، إذًا، ليس كلّ الذين هم مع رسول الله في هذا المعنى المشار إليه بـ "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم"، إذًا، هناك بعضٌ من هذه الصّحبة لهم وضعٌ مُميّز، وما هو الوعد الذي وُعِدوا به؟ "مَّغْفِرَةً".
فهنا، المغفرة تعني وجود شيءٍ مظلمٍ أو ذنب، ولكن يتحوّل هذا الذّنب إلى طاقةٍ حقيّةٍ نورانيّة بمغفرة الله، [أتبع السّيّئة بالحسنة تمحها](6)، "... فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ..."[الفرقان 70]؛ لأنّه ـ كما نتكّلم دائمًا في هذا المعنى ـ أنّ السّيّئة يوم تدفعك إلى أن تكون أكثر قدرةً، وأكثر قوّةً، فلا تتمكّن منك، ولا تستمرّ معك، تكون بذلك قد ساعدتك على أن تكون أفضل، وهذا ما نشاهده في الظّاهر، يوم يتغلّب الإنسان على مرضٍ مّا، فإنّه يكتسب مناعةً ضدّ هذا المرض بعد ذلك، في بعض الأحيان، وهذا مكسبٌ للإنسان.
فهؤلاء الذين هم في هذا الحال، لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم، ممّا يعني أنّ هناك دائمًا مجالًا للتّطور وللمعراج، وأنّ الإنسان قد يكون في حالٍ جميلٍ وكريم، إلّا أنّه ليس أهلًا لأن يكون من "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، في مقامهم الذي يُوصف في هذه الآيات.
يُعطي هذا الأمل للإنسان، أن يرغب في أن يكون من هؤلاء، ويجعله يعلم أنّ هذا هو حال الإنسان في دوام، أنّه يرنو إلى الأعلى، وإلى أن يعرج في الله أكبر، وأنّ المعراج في الله لا نهاية له، وأنّ الكمال في الله لا نهاية له، وأنّ هذه الصّحبة  التي هيّأت البعض لأن يكونوا في هذا المعنى، سوف تُهيّئهم في قادم، وأنّ هذه هي البداية التي قال عنها القوم: [الطّريق إلى الله له نهاية، والطّريق في الله لا نهاية له].
فالطّريق إلى الله، هو بدايةٌ للطّريق في الله، وهؤلاء الذين صاحبوا رسول الله، وكانوا في معنى: "وَالَّذِينَ مَعَهُ"، هذه هي البداية، ولكن هذه ليست نهاية، وليست هناك نهاية في طريق الله، بل أنّ كلّ نهايةٍ لمرحلةٍ هي بدايةٌ لمرحلةٍ أخرى، وإذا تكلّمنا، فإنّ هناك دائمًا بدايات، وأنّ أيّ نهايةٍ لا توصف بالمطلق بالنّهاية، ولكنّها بدايةٌ لمرحلةٍ أخرى.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذين مع رسول الله، وأن نكون من "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، وأن نطلب ذلك دائمًا، وأن نطلب رقيًّا دائمًا، ومعراجًا دائمًا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أنّ المعراج في الله لا نهاية له، وأنّ ما أودع الله في الإنسان من ظلامٍ، هو لنفس الهدف الذي أوجد فيه من النّور، وأن للنّور رسالة، وأن للظّلام رسالة.
وكما نرى الليل والنّهار وتعاقبهما، وأنّ هكذا تكون الحياة، فلا حياة لك إن لم يكن هناك النّور والظّلام، إن لم يكن هناك الليل والنّهار. وفي الحقّ أيضًا، لن تكون لك حياة كإنسانٍ إلّا بما فيك من نورٍ ومن ظلام، وأن يلعب الظّلام دوره، وأن يلعب النّور دوره.
وبهذا، يحيا الإنسان، ويرقى الإنسان، ويتعلّم أنّه في أيّ مرحلةٍ من مراحل حياته، هو في نهاية مرحلةٍ وبداية مرحلةٍ أخرى، وأنّه دائمًا سيكون في بدايةٍ؛ لأنّ أيّ نهايةٍ هي بداية، ومن يتصوّر أنّه في نهاية النّهاية، وأنّه [ليس في الإمكان أبدع ممّا كان](7)، وأنّه لن يرقى أكثر من ذلك، وأنّه وصل إلى أقصى ما يمكنه أن يصل إليه، فهو لم يعرف معنى الإنسان، ولا قانون الإنسان، ولا معنى حياة الإنسان. إنّنا في طريقٍ لا نهائيّ، وفي معراجٍ لا نهائيّ.
نسأل الله: أن يوفّقنا أن نعرج فيه، وأن نسلك طريق الحقّ والحياة.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا .
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.    
________________

(1)     جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم " . وأيضاً " ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير" وكذلك : " فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم " كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي والدرامي .

(2)     مقولة الامام الجنيد.

(3)     "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(4)     حديث شريف: "إني أتقاكم لله وأخشاكم له". أخرجه مسلم في صحيحه، كما ورد في موطأ مالك ومسند أحمد بصيغ مختلفة.

(5)   حديث شريف أخرجه الطبراني بنص :"إن للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار".  

(6)     حديث شريف نصه: " اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن". الراوي: أبو ذر الغفاري، المحدث: ابن العربي، صحيح .

(7)     مقولة منسوبة للإمام أبي حامد الغزالي.


 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق