الخميس، 5 سبتمبر 2019

ظاهرة الإسراء ليست مجرَّد حادثةٍ في قديمٍ، وإنَّما هي تعبيرٌ دائم عن حال الإنسان في مراحل عبوديَّتة لله.


حديث الجمعة
29 رجب 1440هـ الموافق 5 أبريل 2019م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: إنَّا نذاكر أنفسنا دائمًا، بأن نتدبَّر في كلِّ أحداث الحياة، قديمها وحديثها، وأنَّ كلَّ حدثٍ يحمل رسالةً، وإرشادًا، وتوجيهًا، وليس مجرَّد حدثٍ لنحتفل به أو لنتذكَّره، خاصَّةً كلُّ الأحداث التي جاءت في إطار تبليغٍ سماويّ، وإرشادٍ حقيّ، يُعلِّمنا عن أنفسنا، وعن وجودنا، وعن أحوالنا، وعن طريقنا ورحلتنا على هذه الأرض.
ونحن نتذكَّر في هذه الأيَّام، ظاهرة الإسراء والمعراج، نتذكَّرها لنتعلَّم منها، لا نتذكَّرها لمجرَّد الذِّكرى وأنَّها حدثٌ عظيم، وإنَّما لنتعلَّم، ولنقرأ ما فيها من رسائل.
وإذا كان توقيت هذه الظَّاهرة، جاء بعد أن مرَّ محمَّدٌ رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه ـ بأحداثٍ ـ في ظاهرها ـ قد حرمته من دعمٍ إنسانيّ، وبالطَّبع، فإنَّه كرسولٍ من أنفسنا، ويحمل معنى البشر في وجوده، "..إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ..."[الكهف 110]، حزن كثيرًا لما فقده.
لذلك، ذهب كثيرون إلى أنَّ هذه الظاهرة جاءت للتَّخفيف عن حزنه، بأن يمر بتجربةٍ روحيَّة غير مسبوقةٍ بالنِّسبة له، وهذا أمرٌ فيه بشرى للإنسان بوجهٍ عام، بقرب الله منه، وبتدخُّل الغيب ليُخفِّف عن الإنسان في حزنه، وفي فقده لمن يُحبُّهم من النَّاس، ومن أهله، ومن صحبه ـ هي بشرى لكلِّ إنسانٍ أعدَّ نفسه لهذا المعنى الحقِّيّ.
لذلك، كان التَّعبير القرآني: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ..."[الإسراء 1]، فهنا، صفة العبوديَّة هي التي جاءت في سياق هذه الآية، ولأنَّنا نتعلَّم أنَّ العبوديَّة لله هي حالٌ، وهي قيامٌ، وهي أملٌ يتدرَّج فيه الإنسان من حالٍ إلى حال. فالعبوديَّة لله، ليس لها تعريفٌ واحدٌ، وإنَّما هي مراحل متعدِّدة، والرُّقيُّ فيها لا نهائيّ.
في وجودنا في هذا الكون، وُصِفت كلُّ الكائنات بأنَّها في معنى العبوديَّة لله، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"[مريم 93]، فإذًا، كلُّ إنسانٍ وكلُّ كائنٍ، هو في هذا المعنى، ولكن، هل كلُّ النَّاس في معنى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"[الفرقان 63]؟ ليس كلُّ النَّاس كذلك، مع أنَّهم في المعنى السَّابق، كلُّهم عبادٌ لله.
هل كلُّ النَّاس يستوون مع عبوديَّة رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - وهو يقول: "... إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ"[الزخرف 81]؟ فهل أوَّل العابدين هنا، مثل معنى أنَّ كلَّ النَّاس عبادٌ لله.
العبوديَّة لله مقامات، ومعارج، ومستويات، ودرجات، "... وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ..."[الزخرف 32]، "... هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ..."[الزمر 9]، "... هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ..."[الأنعام 50]، هل تستوي كلُّ الكائنات؟
فمعنى عبده هنا، تُعرَّف من خلال المكان الموصوف في الآية: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ..."[الإسراء 1]، فالعبوديَّة لله في هذا الإطار، يمكن أن نتأمَّل فيها في معنى تواجده في المسجد الحرام.
والمسجد الحرام، هو تعبيرٌ عن وجود الإنسان في إحرامٍ. والإحرام، هو ما تعلَّمناه في مناسك الحجِّ، بالقيام بما في الإنسان من حياة، واحترام الحياة في كلِّ صورها، وفي التَّخلي عن الذَّات البشريَّة في كلِّ أفعالها، إلَّا ما يُبقيها حيَّةً على هذه الأرض، ويظهر ذلك في مناسك الإحرام، دلالةً على أنَّ الإنسان لا يتثاقل إلى أرض ذاته.
وإن كان هذا منسكٌ مادِّيّ يُطبَّق بحذافيره في أمورٍ محدَّدة، إلَّا أنَّه في معناه الحقيّ، تعبيرٌ أنَّ الإنسان قد انطلق بروحه من جسده إراديًّا، وعقليًّا، وإدراكيًّا، وقلبيًّا، لو أنَّ الإنسان صدق في إدراكه لما بُلِّغ به من إحرامٍ مادِّيّ.
وانطلاق الإنسان من جسده، هي ظاهرةٌ قائمةٌ في كلِّ ليلةٍ يمرُّ الإنسان فيها بمرحلة ما نعرفه من نومٍ، "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ..."[الزمر 42].
فانطلاق الأنفس من الأجساد، قائمٌ في كلِّ ليلةٍ بصورةٍ طبيعيَّةٍ، وليست إراديَّة، إنَّما في الإحرام فهي مفهومٌ، وهي إرادةٌ، وهي إدراكٌ، وهي وعيٌ، وهي طلبٌ، وهي دعاءٌ، وهي ممارسةٌ يحاولها الإنسان؛ لأنَّ الإنسان وهو ملتصقٌ بذاته، وبشهواته، وبرغباته، لا تنطلق نفسه حقيًّا. لذلك، فهو في حاجةٍ إلى فكِّ هذا الارتباط بينه وبين ذاته.
ولا يكون ذلك، إلَّا بالذِّكر، ولا يكون الذِّكر إلَّا بالخشية، ولا تكون الخشية إلَّا بإحساس الإنسان بافتقاره لله، وإلَّا بإحساس الإنسان بأنَّ لا حول له ولا قوَّة، وإلَّا بأن يكون الإنسان دائمًا في دعاء، ودائمًا في صلاة، ودائمًا في رجاء.
فكان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - تعبيرًا عن هذا القيام، وعن معنى العبوديَّة الحقَّة، فكان أهلًا لأن ينطلق في رحلةٍ يرى فيها من آياته، من آيات ربِّه الكبرى، "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ..."[الإسراء 1]. "الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ"، هو تعبيرٌ عن حالٍ وقيامٍ آخر، هو آيةٌ كبرى في حدِّ ذاته.
فكما أشرنا، أنَّ العبوديَّة مراحل، وأنَّها معارج، وأنَّ الإنسان إذا أعدَّ نفسه ـ كما أشرنا في معنى الإحرام ـ وفكَّ الارتباط بينه وبين ذاته، فإنَّه يكون أهلًا لدفعةٍ من الله، ولرحمةٍ من الله، ولنفحةٍ من الله، تأخذه في معراجٍ آخر، وفي انطلاقٍ آخر، إلى قيامٍ أعلى، وأقصى، وأرقى. فما كان المسجد الأقصى هنا، إلَّا تعبيرٌ عن انطلاقةٍ أخرى لرسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - في ارتقائه على هذه الأرض. 
فهذه رسالةٌ للإنسان، أن يدعو الله، وأن يذكر الله، وأن يحاول أن يتفهَّم معنى وجوده، ليكون أهلًا لرحمة الله، ولنفحة الله، فيأخذ الله بيده، ويجعله يتغيَّر من حالٍ إلى حال، ومن قيامٍ إلى قيام.
هذا ما نفهمه، وما نتأمَّله من رحلة الإسراء، لو أنَّها مجرَّد ظاهرةٍ تخصُّ رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - ما ذُكِرت في القرآن، ولا حدَّثنا عنها رسول الله، إنَّما هي حدثت لتكون رسالةً دائمةً لنا، وهذا ما نفهمه، ونحاول أن نتأمَّله ونقرأه، في كلِّ حَدَثٍ حَدَثَ في أيِّ رسالةٍ سماويَّة، بل في كلِّ حَدَثٍ يحدُث لنا على هذه الأرض.
نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه نجاتنا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
___________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنَّ علينا أن نقرأ ما جاءت به ظاهرة الإسراء لنا، وأنَّها ليست مجرَّد حادثةٍ حدثت في قديمٍ نتذكَّرها، وإنَّما هي رسالةٌ دائمة، وتعبيرٌ دائم عن حال الإنسان في مراحل عبوديَّتة لله، وأنَّ كلَّ إنسانٍ هو مُهيَّأٌ لأن يرتقي في معنى عبوديَّته، بتفهُّمه، وباستشعاره لافتقاره لله، وبدعائه الدَّائم، وبصلاته الدَّائمة، وبمجاهدة نفسه دائمًا، وتلبية دعوة الحقِّ دائمًا، بعدم التَّثاقل إلى هذه الأرض، "... مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ..."[التوبة 38].
فهي دعوةٌ دائمة لأن لا نتثاقل إلى الأرض، نبقى بذواتنا عليها، ولكن دائمًا نلبِّي نداء ربِّنا وهو يدعونا إلى الحياة، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ..."[الأنفال 24]، وما يُحيينا، أن نذكر الله دائمًا، وأن نتَّجه إليه دائمًا، وأن نستحضره في وجودنا دائمًا، وأن نلجأ إليه دائمًا، وأن نشعر بافتقارنا إليه دائمًا، وأنَّ لا حول لنا ولا قوَّة إلَّا به، وأنَّ ما توفيقنا إلَّا بالله، وأنَّ لا إله إلَّا الله.
نذكر ذلك دائمًا، في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياتنا، وفي كلِّ عبادةٍ من عباداتنا، وفي كلِّ منسكٍ من مناسكنا، وفي كلِّ معاملةٍ من معاملاتنا، حتَّى نُغيِّر ما بأنفسنا، فيساعدنا الله أن نُغيِّر ما بنا.
هكذا نتعلَّم دائمًا، ونتذاكر دائمًا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.           


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق