الجمعة، 13 ديسمبر 2019

ستظل دائما باحثا عن الحقيقة، المهم أن تكون في اتجاهها ولا تفقد بوصلتك التي ترشدك


حديث الجمعة 
16 ربيع الثاني 1441هـ الموافق 13 ديسمبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاة وسلامًا عليك يا رسول الله.
"... الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ..."[الأعراف 43]، ونستغفر الله طلبًا لأعلى، وأملًا في أن نكون دائمًا في طريقه سالكين، طمعنا في الله لا نهاية له، فمهما حمدنا الله على ما هدانا إليه لا يزيدنا ذلك إلَّا طلبًا له، وإلَّا افتقارًا إليه، وإلَّا طمعًا في رحمته، وإلَّا خشيةً أن نكون مغرورين، [فما من كمالٍ إلَّا وعند الله أكمل منه](1)، وما من علمٍ إلَّا وهناك علمٌ أكبر.
هكذا نرجو أن نكون، أن نكون من المتَّقين، أن نكون من الذين يخشون ربَّهم، أن نكون من العلماء الذين يخشون الله، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ..."[فاطر 28]، والعلماء هنا لا تعني أنَّ العَالِم يحيط بكلِّ شيء، وإنَّما هو من عَلِم شيئًا، أو عرف شيئًا، أو قام في شيءٍ، فالعلم لا نهاية له، "... وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"[يوسف 76].
لذلك، فحين نقرأ الآية: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"[البقرة 2]، كلُّ كلمةٍ لها دلالةٌ ولها قضيَّةٌ، "الْكِتَابُ" قضيَّة، و"لاَ رَيْبَ فِيهِ" قضيَّةٌ أخرى، و"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" قضيَّةٌ ثالثة، كلُّ كلمةٍ في الكتاب لها دلالاتٌ عميقة.
فـ"الْكِتَابُ" ـ كما نشرح دائمًا ـ في مفهومنا هو قضيَّة الكون، وقانون الكون، هو القانون الذي يحكم كلَّ الخلائق، هو كلُّ ما تنزَّل على الرُّسل والأنبياء والأولياء، هو كلُّ آيات الكون، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53]، إنَّه كلُّ ما يحدث للإنسان، إنَّه كلُّ ما يحدث لكلِّ إنسان، ولكلِّ كائنٍ، ولكلِّ أمةٍ.
فكلُّ الذي يحدث سُطِر بالقلم، "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"[العلق 5:1]، "الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ"[الرحمن 4:1]، علَّمه كيف يقرأ.
"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ"، ما يحدث في الكون "لاَ رَيْبَ فِيهِ"، آيات الله في كلِّ صورها لا ريب فيها؛ لأنَّها ما كانت لتحدث لولا أنَّها آيات الله. فإذا وسوست لك نفسك أنَّ هذا من الله، وهذا من عند غير الله، فاذكر لها أنَّ "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ". إذا قرأت آياتٍ فوجدت فيها ما يُريب، بسوء علمك وسوء فهمك، فاتَّجه إلى الله؛ لأنَّ هذا "الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ"، تعمَّق في معانيها، وتأمَّل في مبانيها.
واعلم أنَّك مهما فهمت فإنَّ هناك فهمٌ أعمق، وفهمك مهما كان فهناك ريبٌ فيه، لأنَّك أنت الذي تفهم بسعتك وبقدرتك، أمَّا الآيات في محكمها وفي عمقها فلا ريب فيها، وسيظلُّ فهمك دائمًا أنت، فيه ريبٌ، وفيه شكٌ، لذلك يختلف النَّاس في مفاهيمهم، وفي رؤيتهم لمعاني الآيات ودلالاتها.
"... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ..."[آل عمران 7]، يؤمنون به كغيبٍ له طاقةٌ وله نور، يعلمون أنَّهم بقراءتهم للآيات يُعرِّضون أنفسهم لنورٍ ولطاقةٍ من الله، ولفضلٍ من الله، ولرحمةٍ من الله.
"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، كما ذكرنا في بداية الحديث عن ماهيَّة المتَّقين الذين يخشون ربَّهم، الذين يُكبِرون آيات الله لهم عن أيِّ مفهومٍ يفهمونه، فهناك مفهومٌ أكبر، لا يقولون كما يقول الكثيرون من المتكلِّمين باسم الدين هذا ما أراد الله ولا يقبلون برؤيةٍ أخرى، هذا حكم الله ويعتقدون أنَّ ما فهموه هو حكم الله المطلق، هذه إرادة الله ويعتقدون أنَّ ما فهموه من إرادةٍ حدثت أنَّها إرادة الله، بما رأوها، وبما عرفوها.
المتَّقون يُكبِرون حكم الله، ويُكبِرون إرادة الله، ويُكبِرون كلام الله عن أن يكون صورةً أو أن يكون شكلًا، المتَّقون يقولون هذا ما فهمناه، وهذا ما أدركناه بقدر سعتنا والله أعلم، فحين يريدون أن يُطبِّقوا شيئًا في حياتهم، يُطبِّقون ما فهموه كفهمٍ إنسانيّ، بحيث يفتحون الباب دائمًا لأن يُغيِّروا ما يُطبِّقونه إذا وجدوا ما هو أفضل.
أمَّا إذا حصروا أنفسهم وظنُّوا أنَّ ما يُطبِّقونه هو حكم الله، فمعنى ذلك أنَّهم لا يستطيعون أن يُغيِّروه، وهذه هي المشكلة التي يقع فيها الكثيرون؛ لأنَّهم غير متَّقين؛ لأنَّ المتَّقين ستكون آيات الله هدىً لهم، والهدى هو دلالةٌ لهم، إرشادٌ لهم، توجيهٌ لهم في اتِّجاه، لا يعني أنَّ مفهومهم هو مفهومٌ مطلق الصِّحة، وإنَّما هو هدىً لهم، يسترشدون به، يرون فيه الطَّريق الذي يتّجهون إليه.
وهذا الطَّريق له مراحل كثيرة، وله مستوياتٌ كثيرة، وله أبعادٌ كثيرة، فإذا عرفت الاتِّجاه فإنَّك تسير في هذا الاتِّجاه، لكن لا يعني أنَّك بدأت المسير، أنَّك وصلت إلى النِّهاية، وفي الواقع فلا نهاية للحقِّ، ولا نهاية للأفضل، فما من علمٍ ندركه نرى فيه أنَّه الحقُّ إلَّا وهناك علمٌ أكبر، وما من حقيقةٍ نعتقد أنَّنا وصلنا إليها إلَّا وهناك حقيقةٌ أكبر، المهمُّ أن تعرف الاتِّجاه، والاتِّجاه لا يعرفه إلَّا المتَّقون، "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، ومن هم المتَّقون؟ "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3].
والغيب هو ما أشرنا إليه أنَّك لا تستطيع أن تحيط بالحقيقة، تعلم أنَّ هناك ما لا تعلمه، وتعلم أنَّ هناك أفضل لا تعلمه، فتظلُّ الحقيقة غيبًا دائمًا عليك تطلبها، تطلبها بلا كللٍ ولا ملل، وما تطبيقك لما تراه أو تعتقده اليوم، إلَّا طلبًا لها.
وما تقوم به على هذه الأرض، هو دعاءٌ دائمٌ لأن تعلم أكثر، ولأن تفهم أكثر، ولأن تُطبِّق أفضل، وهذا هو معنى الذين "... يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ..."[البقرة 3]، يقيمون الدُّعاء، يدعون دائمًا، يصبح دعاؤهم في كلِّ ما يُطبِّقون، وفي كلِّ ما يفعلون، وفي كلِّ ما يُرزقون، "... مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"[البقرة 3]، وما إنفاقهم إلَّا دعاء، وما ذكرهم بقلوبهم وعقولهم وأجسادهم إلَّا دعاء.
فهم يدعون فيما يفعلون بأجسادهم وقلوبهم وعقولهم، فهذا الذي يفعلونه بوجودهم هو الصَّلاة، وما يفعلونه بمعاملاتهم مع غيرهم هو الإنفاق، فالذِّكر والدُّعاء هو فيما يقوم الإنسان بجوارحه وقلبه وعقله، وفيما يتعامل به مع من يحيطون به من عطاءٍ وإنفاقٍ بكلِّ الصُّور، والإنفاق عطاءٌ في العلم، وعطاءٌ في العمل، وعطاءٌ في الخدمة، وعطاءٌ في المال، وعطاءٌ في كلِّ شيء، "فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى"[الليل 7:5].
فأنت في وجودك وقيامك المشهود تكون في دعاءٍ دائم، وفي مفهومك وإدراكك تكون دائمًا طالبًا للغيب، ففي اتِّجاهك إلى الغيب دعاء، وفي فعلك المشهود دعاء، فأنت في دعاءٍ دائم سواء اتَّجهت إلى الغيب أو اتَّجهت إلى الشَّهادة، وهذا معنى من معاني العبوديَّة لله والافتقار إلى الله.
هكذا نتعلَّم من آية، نتعلَّم الكثير والكثير في كلِّ آيةٍ نقرؤها، يمكننا أن نفهم قضيَّةٌ كاملة، قضيَّةً من قضايا وجودنا، ومن قضايا سلوكنا، ومن قضايا استقامتنا. فلنقرأ آيات الله دائمًا بتعمُّقٍ وتأمُّلٍ وتدبُّر، ولا ننسى أيضًا أنَّنا مهما فهمنا، فإنَّنا ندرك أنَّ هناك ما هو أعلى وما هو أقوم، فنستغفر الله دائمًا أن نقول زورا، أو نغشى فجورا، أو أن نكون به مغرورين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاة وسلامًا عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو تأمُّلٌ في آيةٍ من آيات الله التي تُحدِّثنا عن الكتاب، "ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"[البقرة 3،2].
وهي آيةٌ ترشدنا ـ في العموم ـ إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان في علاقته بالغيب، وفي علاقته بالشَّهادة، وهي السُّؤال الدَّائم للإنسان، ماذا أفعل؟ كيف أقوم في استقامةٍ على هذه الأرض؟
فهذه الآية هي إجابةٌ لهذا السُّؤال، وهي إجابةٌ مفتوحةٌ وليست مغلقة؛ لأنَّها تهديك إلى الطَّريق، ولكن تظلُّ النِّهاية مفتوحةً أمامك، وحياتنا كلُّها على هذه الأرض لا نهاية لها، فكلُّ النِّهايات مفتوحة، لا تعرف كيف ستُنهي حياتك على هذه الأرض؛ لأنَّ حياتك مستمرَّةٌ بعدها؛ ولأنَّك في اللحظة التي أنت عليها اليوم، لا تعرف ما سيحدث لك غدًا، "... وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ..."[لقمان 34].
فالذي يتصوَّر أنَّه يريد أن يمسك الحقيقة بيديه فإنه واهمٌ، فالحقيقة لا تُمسك، ستظلَّ دائمًا باحثًا عنها، المهمُّ أن تكون في طريقها، وفي اتِّجاهها، لا أن تضلَّ الاتّجاه، أو أن تفقد بوصلتك التي ترشدك إلى الوُجهة وإلى القبلة.
والقبلة ما هي إلَّا معنى لهذا، فأنت باتِّجاهك إلى قبلةٍ وُضِعت لك، هي رمزٌ لذلك، وما اتِّجاهك بجسدك إليها إلَّا تعبيرًا عن طلبك الدَّائم أن تُصوَّب قبلتك، وأن تكون مستقبلًا إيَّاها بحقٍّ، فاستقبالك لها كمكانٍ لا يعني أنَّك مستقبلٌ لها كحقيقة، وما اتِّجاهك بجسدك إليها إلَّا تعبيرًا عن طلبك أن يوجِّهك الله إلى قبلتك بحقٍّ، وما كلُّ محاولات الإنسان للتَّفهُّم والتَّفُّكر والتَّدبُّر، إلَّا ليكون بذلك في الوُجهة وفي الاتِّجاه الذي يقوده إلى ما هو أعلى.
وعلامات الاتّجاه إلى الأعلى وإلى الحقيقة هي الإيمان بالغيب، والافتقار إليه في دوام، فإذا فقدت هذه العلامات فقدت بوصلتك، وفقدت وجهتك. فلتُذكِّر نفسك دائمًا بذلك، أن تكون مفتقرًا إلى الله، طالبًا الله، داعيًا الله في كلِّ حالٍ وفي كلِّ قيام.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا،
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.   
  
____________________

(1)  مقولة للإمام الجنيد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق