السبت، 1 فبراير 2020

كلَّ إنسانٍ مخاطبٌ بآيات الله، وكلُّ إنسانٍ سوف يتلقَّى هذا الخطاب بأهليَّته واستعداده


حديث الجمعة 
6 جماد الثاني 1441هـ الموافق 31 يناير 2020م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: فلتتدبَّروا في آيات الله بعقولٍ منيرة، وقلوبٍ طاهرة، لتصل إليكم رسائل الحقِّ ترشدكم وتُوجِّهكم إلى ما فيه صلاحكم، وإلى ما فيه خيركم، وإلى ما فيه نجاتكم.
إن آيات الحقِّ تخاطب كلَّ إنسان، وكلُّ إنسانٍ قادرٌ أن يتقبَّل ما تحمله هذه الآيات من معانٍ ومن طاقةٍ روحيَّةٍ تُحيي قلبه، وتُزكِّي نفسه، وتُطهِّر روحه. كتاب الله هدايةٌ لكلِّ إنسان، كلُّ إنسانٍ يأخذ منه بقدر سعته، وبقدر استطاعته، كلٌّ يأخذ بما هو له أهل، ليتذاكر بما تلقَّاه مع إخوانه بما تلقُّوه، بما هم له أهل.
"وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ"، فكلٌّ يدعو إلى الله بما تعلَّم، وبما عَلِم، "مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، من الذين أدركوا قانون الحياة، وعَلِموا أنَّ الله قد أودع فيهم أمانة الحياة، فجعلهم يعرفون ويُفرِّقون بين الحقِّ والباطل، وبين النُّور والظَّلام، وبين الحياة والموت، فقالوا إنَّنا من المسلمين.
فالإسلام ليس مُجرَّد لفظ، أو لقب، أو كلمة نطلقها على أسلوب حياةٍ فقط، وإنَّما هو منهجٌ كاملٌ لكلِّ حياة الإنسان في أبعادها المختلفة، في بُعدها الدَّاخليّ في تعامله مع نفسه، وفي بُعدها الخارجيّ في تعامله مع النَّاس. "قَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، عرف الحسنة والسَّيِّئة، عرف الحقَّ والباطل، عرف النُّور والظَّلام، "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ".
وهذا موجودٌ في كلِّ إنسان، موجودٌ فيه بالفطرة، فـ"ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وهنا نتعلَّم أدب الحوار، وأدب التّواصي. والأحسن ـ كما نقول دائمًا ـ هو ما نستحسنه جميعًا، وما نتعارف عليه جميعًا، فإذا ذكر إنسانٌ إنسانًا بما هو أحسن، "فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".
هذا أسلوبٌ عامٌّ في التَّواصي، وفي الحوار، وفي التَّذكير، في كلِّ قضايا الحياة، في مفهومك في آيات الله، في آيات الله التي تُوجِّهك في جميع مناحي الحياة، فيما يخصُّك كإنسان، وفيما يخصُّ مجتمعك. ما يخصُّ حال الإنسان، "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، في مفهومك في آيات الله، فآيات الله تحمل الأحسن دائمًا.
ولذلك علَّمتنا الآيات أنَّ هناك آياتٍ متشابهات، وهذه الآيات المتشابهات هي التي يقرؤها كلُّ إنسانٍ ويفهمها بما يراه وبما يستحسنه، وهذا مطلوبٌ؛ لأنَّ هذه الآيات موجودةٌ ليقرأها الإنسان في دوام، وهي تحمل الأحسن للإنسان في كلِّ بيئةٍ، وفي كلِّ عصرٍ، وفي كلِّ حالٍ، فإذا أراد البعض أن يحصروا معانيها في معنىً واحدٍ، فهم بذلك يحدُّون انتشارها، واتساعها للنَّاس جميعًا.
ولهذا نفهم "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"؛ لأنَّها لها علاقةٌ بالمجتمع، وبالبيئة، وبالحال الذي يعيشه جماعةٌ ما من النَّاس، هذا الحال الذي يدفع فيه الإنسان بالتي هي أحسن، "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا"؛ لأنَّ هذا يحتاج إلى تدريبٍ للإنسان، تدريبٌ يجعله قابلًا لكلِّ صورةٍ، لكلِّ صورةٍ فيها أحسن؛ لأنَّ طبيعة النَّفس البشريَّة تريد أن تُحدِّد صورةً واحدة، لا تريد أن تتعامل مع مفاهيم كثيرة. "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"؛ لأنَّ التَّدريب والصَّبر هو إعدادٌ لنفحةٍ من الله، ولاصطفاءٍ من الله، ولا يُلقَّاها إلَّا ذو حظٍّ عظيم.
إنَّنا نرى اليوم أنَّ كلَّ من فهم أمرًا، ظنَّ أنَّه الحقُّ المطلق، وهذه طبيعة النَّفس البشريَّة، لذلك فإنَّ تقبُّل كلِّ صورةٍ هو نتاج تفكُّرٍ، وتأمُّلٍ، وتدبُّرٍ، وذكرٍ، ودعاءٍ، وممارسةٍ، وتدريبٍ، حتى يصبح الإنسان كذلك.
[لقد أصبح قلبي قابلًا لكلِّ صورةٍ، وقد كان قبلًا لا يقبل إلَّا من هو لديني دان](1)، كلَّ صورةٍ فيها شيءٌ من الحقِّ، فالطبيعة وما فيها، فيها حقٌّ، [فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبان](2)، فكلُّ جماعةٍ، وكلُّ من نقول أنَّهم على دينٍ ما، فيهم شيءٌ من الحقِّ والحقيقة.
حتَّى الذين يؤمنون بالمادَّة عندهم شيءٌ من الحقيقة، إذ أنَّهم لا يَجرُون وراء الخيال، ووراء الوهم والظنِّ، وإنَّما يُطبِّقون قانون العلم المشهود، والواقع المحسوس، وهذا حقٌّ وواجبٌ على كلِّ إنسان، ففيهم شيءٌ من الحقِّ، فإذا جادل أحدهم، ودفع بهذا مع إنسانٍ آخر لا يؤمن بالعلم المادِّيّ، أو بأن يحترم الإنسان القانون المشهود، فتكون دعوته أفضل من هذا الذي يقول أنَّه مؤمنٌ بالغيب، ويُنكِر الشَّهادة.
وإذا دفع الذي يؤمن بالغيب بأنَّ هناك ما لا ندركه، مع إنسانٍ لا يؤمن بالغيب ويؤمن بأنَّ كلَّ شيءٍ مشهود، كانت دعوة الذي يؤمن بالغيب هي الأحسن؛ لأنَّها حقيقة، فنحن جميعًا لنا جانبٌ غيبيّ لا ندركه، وكلُّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو إيمانٌ غيبيّ.
لذلك، فليس كلُّ إنسانٍ هو خيرٌ أو شر، هو حقٌّ أو باطل، هو نورٌ أو ظلام، ولكن في كلِّ إنسانٍ نورٌ، وفي كلِّ إنسانٍ ظلامٌ، والإنسان في جهاده مع نفسه يبحث عن أن يكون أكثر نورًا وأقلَّ ظلامًا.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذين يدعون إلى الله ويعملون صالحًا، ويقولون أنَّهم من المسلمين، ومن الذين يدفعون بالحسنة والأحسن، ليكونوا في توافقٍ مع إخوانهم في البشريَّة.
نسأل الله: أن يحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنَّ كلَّ إنسانٍ مخاطبٌ بآيات الله، وكلُّ إنسانٍ سوف يتلقَّى هذا الخطاب بأهليَّته واستعداده، وأنَّ الإنسان الذي يُدرِّب نفسه على ذلك، ويُدرِّب نفسه على أن يستمع إلى الآخر، وأن يدفع بالتي هي أحسن، وأن يستقبل أن يدفع الآخر بما هو أحسن، فيصلا إلى ما هو أحسن بينهما، فيتلاقيا ولا يتخاصما، لا تكون بينهما عداوةٌ، وإنَّما تكون بينهما ألفة.
هذا ما نفهمه في الآية: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، هذا فهمٌ يتخطَّى بعض التَّفاسير التي تنظر إلى الكلمات بظاهرها، فتجعل هذه الآية محصورةً في عداواتٍ شخصيَّة، أو في عداواتٍ مادِّيَّة، أو في معاملاتٍ ماليَّة، هذه الآية في فهمنا وفي تأمُّلنا تتخطَّى هذا كلَّه لتكون أسلوب حياة، وأسلوب فهمٍ في كلِّ معاني الحياة.
وهذا مثالٌ على كيفيَّة تلقِّي آيات الله، والتَّأمُّل فيها، والتَّدبُّر فيها، فنحن نتذاكر بما وجدناه، ونقبل ما وجد الآخرون أيضًا، لا نختلف، ولا نقول أنَّ هناك معنىً واحد، ولكن هناك معانٍ كثيرة، وأبعادًا كثيرة للآية الواحدة.
قدرتنا على تقبُّل ما يفهمه الآخرون هي مقياسٌ على سماحتنا، وعلى إدراكنا للاختلاف في المفاهيم، وأنَّنا يجب أن نتواصى بيننا بما نفهمه وندركه، قد نصل إلى معنىً واحد نقبله ليكون هو الذي نسير عليه، ويمكن أيضًا أن نتلاقى حتَّى ولو سار كلٌّ منَّا على مسارٍ مختلف، وإن كان هو مسارٌ متوازٍ مع المسار الآخر، لا يتصادم معه ولكن يتآلف معه، حتَّى ولو توازى معه بمعنى أنَّه ليس نفس المسار.
هكذا يُعلِّمنا ديننا أن نكون في تحابٍّ وفي تآلفٍ مع كلِّ البشر، نأخذ منهم ويأخذوا منَّا، وهذا أمرٌ يحتاج إلى تواصٍ، وإلى تدريبٍ، وإلى ذكرٍ دائمٍ، حتَّى يُؤهَّل الإنسان لذلك.
قد لا نستطيع أن نتعامل مع كلِّ النَّاس بهذا المعنى؛ لأنَّهم غير مُؤهَّلين، ولكن مع ذلك، علينا أن نُؤهِّل أنفسنا أن نأخذ منهم أيًّا ما كانوا يعتقدون، فهذا دورنا أن نكون مستقبلين، وذاكرين، متذاكرين، مُذكِّرين أيضًا بما عندنا.
نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا، وأن يجعلنا أهلًا لرحمته، وأهلًا لنعمته.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
__________________________

(1)    ، (2) من أشعار محيي الدين ابن عربي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي                إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

وقد صار قلبي قابلا كل صورة                 فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف                      وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت                    ركائبه فالحب ديني وإيماني



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق