الجمعة، 28 فبراير 2020

دورة الإنسان في هذا الكون من بدايته بأن يطرق أبواب السَّماء ليساعده الله في حياته، وفي كرَّته، وفي دورته


حديث الجمعة 
 4 رجب 1441هـ الموافق 28 فبراير 2020م
السيد/ علي رافع


حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: نحن نتذاكر بيننا بآيات الله، ونتأمَّل فيها لتلهمنا ما فيه خيرنا، وما فيه صلاحنا، آياتٌ تساعدنا على أن نقرأ ما أوجد الله في وجودنا من سرِّه، ومن فطرته، ومن قانونه.
"وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ"، حين نقرأ هذه الآيات، قد يقرؤها إنسانٌ، أو مُفسِّرٌ، أو عالمٌ على أنَّها مُجرَّد قَسَمٍ بالسَّماء وما فيها من نجوم، ويمكن ونحن نتأمَّلها يمكن أن نفهم فهمًا آخر، فالسَّماء هي رمزٌ للغيب، رمزٌ لما وراء الطَّبيعة، لما وراء هذه الأرض، والإنسان يحاول دائمًا أن يُوصَل بالغيب.
بل أنَّه يحاول ذلك، "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ"، وهنا أيضًا السَّماوات ليست مُجرَّد بعدٍ مكانيّ، فنحن نعلم الآن أنَّ السَّماوات تتَّسع، والكون يتَّسع، فالتأمُّل هنا أنَّ هذه السَّماوات ترمز إلى الغيب أيضًا بمراحله، وبمعارجه، وبمستوياته.
"عَلاَّمُ الْغُيُوبِ"، فأنت كلُّ ما لا تعلمه هو غيب، وما تعلمه اليوم كان غيبًا عليك في الأمس، وما تجهله اليوم ربَّما تعلمه غدًا، وربَّما لن تعلمه وأنت على هذه الأرض.
إنَّما أنت تطرق أبواب السَّماء، والطَّرْق هنا هو دعاء، إنَّك تدعو الغيب، وكلُّ دعاءٍ للإنسان هو دعاءٌ للغيب، بل أنَّك تدعو بما فيك من سِرٍّ، وبما فيك من حياةٍ، وبما فيك من قوَّةٍ، وبما فيك من فهمٍ، وفكرٍ، وإدراكٍ أنَّه ليس لك إلَّا السَّماء، ليس لك إلَّا أن تتَّجه إلى الغيب، ليس لك إلَّا أن تطرق أبواب الغيب.
 وأنت بذلك نجمٌ، أنت بذلك نورٌ، ما فيك من نور، ما فيك من نورٍ يطرق أبواب السَّماء، وهذه هي البداية، وستظلُّ دائمًا هذه هي البداية، وستظلُّ دائمًا أنت في بداية، فطريق الحقِّ كلُّه بدايات؛ لأنَّك كلَّما خطوت خطوةً تبدأ خطوةً أخرى، كما هو حالك على هذه الأرض، كلَّما تعلَّمت علمًا يكون بدايةً لعلمٍ آخر، لعلمٍ أعمق، وكلَّما أدركت أمرًا كلَّما بدأت في محاولة معرفة ما هو أعلى.
هكذا بداياتٌ دائمة، وهذه البدايات هي بداية دوراتٍ، فأنت تتَّجه إلى الغيب بما فيك من نورٍ لتأخذ قوَّةً تستطيع بها أن تنظر إلى حالك وقيامك.
"فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ"، هذه مرحلةٌ أخرى بعد طرق الأبواب، بعد الدُّعاء، أن تنظر إلى كيف خُلِقت، تنظر إلى وجودك، تنظر إلى بداياتك لوجودك في هذا الكوكب، وكيف أصبحت اليوم. "خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ" كنت نطفةً صغيرة نمت وكبرت، وخَرَجْتَ إلى هذا الكون صغيرًا، وكبرت عليه، وأصبحت على ما أنت عليه.
"إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ"، بدايةٌ جديدة، حياتك كلُّها على هذه الأرض هي دورةٌ في دورات، تخرج من هذه الأرض لتدخل في دورةٍ أخرى.
"وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ"، هذه الآيات ممكن أن تُفسَّر بصورٍ كثيرة ـ كما نقول دائمًا ـ فقد يظنُّ ظانٌّ أنَّ هذا قَسَمٌ آخر بماءٍ منهمرٍ من السَّماء، وأرضٍ تتصدّع لتتقبَّل هذا الماء. وقد يتأمَّل فيه متأمِّلٌ على أنَّه قيام الإنسان في حالٍ آخر، في دورةٍ أخرى، في عالمٍ آخر، في حياةٍ أخرى، في صورةٍ أخرى، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ".
هذه المعاني هي "قَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ"، ولكن كثيرًا من النّاس لا يعلمون، وفي المعاني لا يتأمَّلون، وفي الأعماق لا يتفكَّرون، وبهذا فهم يكيدون، لا يريدون لإنسانٍ أن يتعمَّق، وأن يتفكَّر، وأن يتأمّل في قول الحقِّ.
"يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"، "إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ"، أمره سيصل لمن يتعمَّق ويتأمَّل، سيصل رغم ما يكيدون، ما يُشوِّشون، ما يُفسِّرون، ما يحصرون، سوف يتلقَّى هذا العلم من هو له أهل، "اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ".
فيكيد الله هنا، هو تدبير الله، هو أمر الله البالغ، الواصل، الواقع، إنَّه القانون الذي قرأه الكثيرون في سابق، ويقرؤه الحاضرون في حاضر، وسيقرؤه المستقبلون في قادم، فطرة الله، وصبغة الله، وقانون الله، "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا".
وهنا هذه الآيات تُحدِّثنا عن البدايات، وتُحدِّثنا عن النِّهايات، وما قلنا أيضًا بالنِّسبة للبدايات هو للنِّهايات، فالنِّهايات لا نهاية لها، وكلُّ نهاية دورة هي بدايةٌ لدورة، لنهايةٍ فبداية، وهكذا في دوراتٍ متلاحقة.
ما بين البداية والنِّهاية على هذه الأرض هي كلُّ حياة الإنسان، وحياة الإنسان لها هدفٌ عليه أن يبحث عنه الإنسان، وهذا باتِّجاهه إلى الله، ودعائه لله، وبطرق أبواب السَّماء، بما فيه من نور، ليعرف له هدفًا، وليعرف له طريقًا.
وسوف يجد الإنسان أنَّ الهدف المباشر الذي يجب أن يصل إليه كلٌّ بدعائه ورجائه وتأمُّله، هو أن يُعمِل ما أعطاه الله من قوَّةٍ ومن قدرةٍ لخيره ولخير النَّاس، وأن يحاول دائمًا أن يُجدِّد إيمانه بهدفه، بالتأمُّل المُستمرِّ والتَّدبُّر في آيات الله، فهدف الإنسان ينمو مع الوقت، ويتغيَّر مع الوقت أيضًا من هدفٍ لهدف.
وهذا واقع الإنسان في حياته الأرضيَّة، فأهدافه المادِّيَّة تتغيَّر يومًا بعد يوم، وآماله تتغيَّر يومًا بعد يوم، وهذه الأهداف المادِّيَّة مرتبطةٌ بأهدافه الرُّوحيَّة، فهو يدرك أنَّ كلَّ هدفٍ مادِّيّ له شقٌّ روحيّ، ولهذا لا نفصل بين الدُّنيا والدِّين، بين الواقع المُعاش والآخرة، إنَّهما مرتبطان.
وهذا ما نتحدَّث فيه كثيرًا من معنى التَّعامل مع الله، فإذا تعامل الإنسان مع الله في كلّ معاملاته الأرضيَّة فهو في دعاءٍ مُستمرٍّ، وهو في كسبٍ لله مُستمرٍّ، يساعده على أن تتَّضح أهدافه أكثر، فيكون لحياته معنىً يحاول أن يُحقِّقه.
وهذا أمرٌ ضروريّ لاستمرار الحياة على هذه الأرض، والذي يفقد هذا الحافز يدخل في مرحلةٍ وفي حالٍ من الظَّلام لا يعرف له طريقًا، وقد لا يتحمَّل أن يعيش هذه الحياة، وهذا ما يدفع البعض إلى أن ينهوا حياتهم الأرضيَّة بأنفسهم.
فلذلك لا يجب أن نفصل بين حياتنا المادِّيَّة وبين حياتنا الرُّوحيَّة؛ لأنَّهما مرتبطتان، وبهذا نكمل حياتنا إلى أن يتوفَّانا الله، فنخرج من هذه الأرض. ولذلك نجد في الرِّسالة المُحمَّديَّة أنَّها تدعو أن يمارس الإنسان حياته المادِّيَّة بكلِّ ما فيها محتسبًا عند الله، متعاملًا مع الله، لا تُشجِّع الإنسان أن يهرب من هذه الدُّنيا، وإنَّما تُشجِّعه أن يكسب من هذه الدُّنيا.
وكما ـ أيضًا ـ أوضحنا سابقًا، أنَّ هذا لا يعني أنَّ الذين تركوا الدنُّيا بظاهرها على باطلٍ كما فعل بعض المتصوِّفة، أو بعض الذين زهدوا في هذه الدُّنيا، فهم وجدوا أنفسهم ليس لديهم ما يُقدِّمون لهذه الدُّنيا، فوجدوا أنَّ أفضل ما يُقدِّمونه هو أن يتَّجهوا إلى الله بالدُّعاء.
لذلك، فنحن نقول دائمًا أنَّ نسبة انشغال الإنسان بالدُّنيا، وانشغاله بالذِّكر القلبيّ مع عدم تعارضهما، إنَّما هو ظاهرٌ في الفعل وليس في باطنه، فكلٌّ تعاملٌ مع الله، ولكنَّها وسيلةٌ ووسيلة، وطريقةٌ وطريقة، النِّسبة بينهما ترجع إلى تقدير الإنسان، وإلى حكم الإنسان، ولا تعني تفضيل وسيلةٍ عن الأخرى، وإنَّما هي قدرةٌ من الإنسان على أن يذكر بقلبه، أو أن يعمل بجسده.
والتَّوازن، وعدم التَّفريط في أيِّهما هو أمرٌ مطلوب، فإذا كان الإنسان يعمل بجسده فليكن قلبه معه، قلبه يراقبه، قلبه يَحثُّه على أن يتقن عمله، وأن يتعامل مع الله في عمله، وإذا كان الإنسان يذكر بقلبه فربَّما أرشده قلبه إلى أنَّه يستطيع بجسده أن يُقدِّم خدمةً للبشريَّة، فيحوِّل مجهوده إلى تحقيق ما أوحى قلبه له به. وهكذا يتناغم الإنسان بأبعاضه وبمكوِّناته في تناغمٍ، وفي سلامٍ ليحقِّق هدفه على هذه الأرض.
عباد الله: نسأل الله: أن يساعدنا أن نُحقِّق هدفنا، وأن ندرك أنَّنا في دوام تَغيُّر من حالٍ إلى حال، ومن قيامٍ إلى قيام، ومن هدفٍ إلى هدف، ومن بدايةٍ إلى بداية، ومن نهايةٍ إلى نهاية، إنَّها حياةٌ مُستمرَّة.
نسأل الله: أن يساعدنا أن نُكمِل كرَّتنا، وأن نُكمِل طريقنا على هذه الأرض، حتَّى نغادر وقد أدَّينا الرِّسالة، وبلَّغنا الأمانة.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو دورة الإنسان في هذا الكون من بدايته بأن يطرق أبواب السَّماء ليتعلَّم، وليعرف، وليسأل أن يلهمه الله، وأن يُوفِّقه الله، وأن يساعده الله في حياته، وفي كرَّته، وفي دورته.
وأنَّه يُرجِع البصر إلى داخله لينظر في خَلْقه، وفي وجوده، كيف كان، وكيف أصبح، وكيف عليه أن يقرأ آيات الله، وأن يتعلَّم منها، وأن يتعمَّق فيها، وأنَّه وجودٌ إن كانت له بدايةٌ فإنَّ نهايته مفتوحة، وإن كان يدرك بدايته اليوم، فيعلم أنَّ له بداياتٍ قبل ذلك.
بدايةٌ قبل بداية، وبدايةٌ بعد بداية، ونهايةٌ قد يلحظها، ولكن ليست هي النِّهاية، لا يعرف بداياته ولا نهاياته، إنَّما يعرف حاضره، فعليه أن يجعل منه بداية صدق، ويعرف نهايته على هذه الأرض في كرَّته هذه، فليجعل منها نهاية صدق.
ولا يكون ذلك إلَّا بأن يجعل حياته كلَّها لله، أن يجعل عمله لله، وذكره لله، وقيامه لله، وسكونه لله، وركوعه لله، وسجوده لله، وأن يستمع لقانون الحياة في قلبه، وفي سِرِّ الله فيه، وفي عقله الذي وهبه إيَّاه.
لا يحول بينه وبين ذلك ما يقوله الآخرون، وما يَدَّعيه المُدَّعون، إنَّما يسمع لقلبه ولعقله، ويسمع للحكمة في الكون في آيات الله في الآفاق وفي نفسه، في حكمة الحكماء، في حديث الأتقياء، في علم العلماء، فيما قال الباحثون عن الحقيقة في كلِّ عصرٍ، وفي كلِّ زمان.
وأيضًا يَرجِع في كلِّ أمرٍ إلى فطرته وإلى قلبه ليُميِّز بين الطَّيب والخبيث، بين ما ينفعه وما لا ينفعه، وكلُّ إنسانٍ مسئول، وكلُّ إنسانٍ له قدرته وله سعته، وسوف يفهم كلُّ فردٍ بما هو له أهل، وبما ينفعه إذا أعمل عقله وقلبه.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون دائمًا مستقبلين لرسائل الله لنا، وأن نكون قارئين لآياته، مُتعمِّقين في معانيها، قائمين في مبانيها، مدركين وشاهدين أنَّ لا إله إلَّا الله، وأن مُحمَّدًا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واعف عنا، واغفر لنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.       

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق