الثلاثاء، 16 يناير 2007

تنظيم المجتمع: الدين والتجربة الإنسانية

  • خطبة الجمعة  9 ربيع أول 1427هـ الموافق 7 أبريل 2006
خطبة الجمع  للسيد الإمام علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، و على طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
عباد الله: تدبروا آيات الله، وأقرءوا رسائل الله لكم في كل ما يدور حولكم، وفي أنفسكم
" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق.. " [فصلت 53]
انظروا ما يحدث حولكم في مجتمعاتكم، و في مجتمعات غيركم، وانظروا في تاريخكم، وفي تاريخ مجتمعاتٍ غيركم، حتى تتعلموا وحتى تدركوا ما أنتم عليه الآن، و ما يجب أن تفعلوه لتكونوا أفضل و لتكونوا أحسن. إن نظرتم إلى تاريخكم، فانظروا إليه نظرةً فاحصة متأملة، لا تنظروا نظرةً جامدة متجمدة، بحيث تريدون أن تُرجعوا مجتمعكم اليوم إلى ما كان المجتمع عليه بالأمس .فهناك متغيراتٌ كثيرة حدثت و تحدث كل يوم، و ما كان الفرد يدركه في قديم، أصبح متضائلاً لمتوسط ما يدركه الفرد اليوم، فلا تقيسوا حالكم و أفعالكم وأحوالكم، على ما كان في قديمٍ في مجتمعاتكم، قياسكم يجب أن يكون نابعاً من الرجوع إلى المقصد الذي من أجله قِيل حديث، وليس إلى الحروف فقط، و ليس إلى ما فسره السابقون، الذين كانوا أيضاً لهم ظروفهم و لهم إدراكهم.

 إن الفطرة السليمة التي نحتكم جميعاً إليها، والتي تستحسن أمراً وترفض آخراً، هي أساسٌ يجب أن نرجع إليه. إن كل عالمٍ و مجتهدٍ حاول أن ينتقد الماضي و ما فيه من سلبياتٍ، اتُّهِم بالخروج و المروق عن الدين، من فئةٍ لا تستطيع أن تتطور و لا تستطيع أن تنظر إلى ما هو في صالح المجتمع. إذا خرج عالـمٌ في يومٍ من الأيام، و انتقد ممارسات المجتمعات المسلمة في أنظمة حكمها، وفيما درجت عليه، و فيما اعتقدت أنه الحال الأمثل، وأنه من الدين، وأن شكلاً محدداً للحكم هو الذي يجب أن يُتبع، و أن هذا الشكل هو ما توارثه السلف من جيلٍ إلى جيل، بتأليه الأمير، بتأليه الخليفة، فهو المرجع الذي يُرجع إليه، والذي لا تُرد له كلمة، والذي لا يُخالف له أمر، هذا النموذج المتوارث و الذي ظن الناس أنه من الدين، ولم يدركوا أن الأساس في كل أمرٍ هو مصلحة المجتمع، وأن هذا النموذج و إن كان يصلح في وقتٍ ما، و لمجتمعٍ ما، فإنه قد لا يصلح لمجتمعٍ آخر، وفي وقتٍ آخر، و أن العبرة بأن يحاول الناس في مجتمعاتهم أن يجدوا الوسيلة، و أن يجدوا النموذج الذي يُصْلَحُ به حالهم.
 ولا يمكن أن يوجد هذا النموذج إلا إذا كان هناك تفاعل بين الناس، و التفاعل بين الناس هو التواصي بالحق و التواصي بالصبر
" وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " [العصر 1-3]
و التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا يعني فقط التواصي في أمورٍ تعبدية، أو في أمورٍ تخص الفرد في علاقته بربه، أو في معاملاته المحدودة، و إنما التواصي بالحق هو في كل ما يخص المجتمع، و يخص علاقات المجتمع بمجتمعاتٍ أخري. لذلك كان المجتمع المسلم هو مجتمعٌ يتواصي أفراده بينهم وبين بعض، فإذا وجدوا أسلوباً يعتقدوا أنه الأنسب لهم، عليهم أن ينفذوه، و يظل المرجع إلى الأمة، أن تغير هذا النظام أو أن تعدِّله أو أن تبدله، فلا يجيء حاكمٌ ويبقى إلى الأبد، و لا يُطبق نظامٌ ويبقى إلى الأبد، إنما يُراجَع لما فيه خير الناس و لما فيه خير المجتمع.
 والمعرفة الإنسانية هي ملكٌ لكل البشر، و التجربة الإنسانية هي ملكٌ لكل البشر، و ما وصل إليه مجتمعٌ من المجتمعات هو ملكٌ لكل المجتمعات، و لا يقلل من شأن مجتمعٍ إسلامي أن يأخذ من تجارب الآخرين، و أن يستفيد مما وصلوا إليه لصالح مجتمعه، فهذا أمرٌ بَدَهِيّ، و أمرٌ يستحسنه كل من عنده عقلٌ سليم. و لكن الناس في مرحلةٍ- حين ننظر في تاريخنا- نجد أنهم تناقشوا و تحاوروا و كَفَّروا بعضهم البعض، لمجرد أن يقول إنسانٌ أنه لا مانع أن نأخذ نظاماً غربياً، أو نستفيد من تجربةٍ غربية، و هل هذا يجوز أو لا يجوز في مجتمعنا و في ديننا؟ حين ننظر إلى هذا المستوي من الحديث ومن النقاش، نشعر إلى أي مدىً صارت إليه مجتمعاتنا. و كذلك حين ننظر في قضايا معاصرة لأمورٍ لا قيمة لها، يتحدث فيها كبار فقهائنا بلغةٍ لا تتناسب مع ما صرنا إليه، بظن إيمانٍ وبظن أن هذا من الدين، و هم غير قادرين على أن يُخرجوا أنفسهم ومجتمعاتهم من هذه العثرة التي يقع فيها الكثيرون، يوم يظنون أنهم يُكبرون الدين بحديثٍ قِيل لأمرٍ ما و لمقصدٍ ما، و لا يستطيعوا أن يتفهموه و يتعرفوا إليه بصورةٍ حقيَّة.
قال الفلاسفة في قديم - الفلاسفة المسلمون -  أنه إذا استمعت إلى  قولٍ لا يتناسب مع عقلك، و لا يتناسب مع ما هو مدرك لديك وفطري - ترى فيه أنه لا يُقبل - عليك أن تتعلم كيف تفحصه، و كيف تتعمق فيه، و كيف تستخرج منه حُكماً عاماً، بتأويل هذه الألفاظ إلى معانٍ عامة، و منها يمكنك أن تفهم المراد، لأنه لا يستقيم حديثٌ و لا آيةٌ تتعارض مع عقلٍ، و مع واقعٍ فيه صحةٌ واضحةٌ جلية. و الذين يريدون أن يرتكنون إلى منطقٍ آخر، و أن العقل هو محدودٌ، و أن ربما ما نؤوله اليوم يكون في إطار علمٍ محدود، و أن هناك علمٌ آخر قد يكون غير مدركٍ لنا الآن، فعلينا أن ننفذ الأمر دون فهمٍ و دون وعي، لأن هذا هو أمر الدين. هم بذلك يخرجون عن أصلٍ من أصول الدين، و هو أن ليس على الإنسان إلا ما يستطيع:
" لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.." [البقرة286]  
إذا ظهر العلم الآخر، الذي يجعلني أغير إلى شكلٍ آخر و إلى صورةٍ أخري، فسأغير في هذا الوقت و في هذه اللحظة، لا مانع من ذلك، وإنما طالما أنا أدرك اليوم إدراكاً معيناً، فلا يجب أن أكون قائماً في تطبيقٍ لشيءٍ أجهله، مع وجود شيءٍ أعلمه، شيءٌ فيه صلاحٌ للمجتمع، مع شيءٍ فيه طلاحٌ و فسادٌ  في المجتمع.
عباد الله: إن الدين هو تفاعلٌ مع النصوص و مع ما أُمرنا به، في إطار ما نعقله، وفي إطار ما ندركه، و في إطار ما نعلمه. الدين بمعناه الأساسي لا يتغير لأنه قانون الحياة، إنما إدراكنا نحن للدين يتغير مع تغيراتنا ومع تغيرات مجتمعنا، و لن يضير الإنسان شيء أن يفهم فهماً يتناسب مع قدرته، و ليس هناك فهماً مطلقاً يريده الله أن تنفذه أنت اليوم بشكلٍ ما، فالله أعلم دائماً بمراده، و مراده كما وضحه لنا، هو أن نكون عاملين و أن نكون عابدين:
" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذارايات50]  
و العبادة كما نشرح دائماً، هو أن نَصْدُق فيما نحن فيه قائمون، و فيما نحن له عالمون، و فيما نحن معه متعاملون، فهذا هو معنى العبادة الحقيقي.
عباد الله: علينا أن نتعلم، و علينا أن نتفاعل مع ديننا، و علينا ألا نخشى شيئاً في ما تصل إليه عقولنا، لأن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن نرقى به، إن أخطأنا رجعنا عن خطئنا، وإن أصبنا بأن لم يُكشف لنا خطأُ ما اعتقدنا، حمدنا الله على ما وصلنا إليه، ونستغفره أيضاً أن نكون غير مدركين لخطئنا، و لكن نسير فيما نرى أنه الصواب، حتى يُكشف لنا أنه خطأ، فإذا كُشف لنا الصواب عن خطأٍ في إدراكنا، و عرفنا أن هناك ما هو أصوب، اتبعنا ما هو أصوب،  الرجوع إلى الحق فضيلة دائماً، وهذا هو واقع علوم أرضنا، فما يعتقده الإنسان في قضيةٍ ما، قد يعرف بعد ذلك أنه خطأ، و من الطبيعي أن ينفذ ما هو صواب - لأن ليس من العقل في شيء أن يُكشَف لك خطأ أمرٍ ما، و تظل في إتباع الخطأ، و أنت تدرك صواب الأمر - هذا أمرٌ طبيعي و فطري.
و إنما قضية الناس في الدين، أنهم يتعاملون في أمورٍ حياتية، مع مفاهيم غيبية، و يعتقدون أن هذا هو الدين، و هذه هي مشكلة الإنسان، فالدين ليس ظن و ليس غيباً فقط، الغيب هو إدراكك بأن تطلب قوةً مما ترى، وهذا يتمثل في كل عباداتك، إنما إذا اتخذت أمراً في دنياك، فيجب أن يكون قائماً على أمرٍ تشهده و أمرٍ تعرفه، ليس أمراً ظنياً يحتمل أشكالاً كثيرة، علاقتك بالغيب هي علاقةُ دعاء، هي علاقةُ رجاء، هي علاقةُ أمل، هي علاقةٌ ترجو من خلالها أن تكون أكثر قدرةً على رؤية الأمور، و أكثر قدرةً على تنفيذها، و ليس هناك أمرٌ ماديٌ تقوم به، تقوم به على أساسٍ ظني، إنما كل ما تقوم به على أرضك يجب أن يقوم على أساسٍ قطعي، ترى فيه أنه الخير وأنه الحق و أنه الصواب.
عباد الله: نسأل الله أن يجعلنا نفيق من هذه الحالة التي نحن فيها، و أن يهدي أمتنا إلى الرشاد، وأن يجعلنا أهلاً لرحمته، وأهلاً لعلمه وحكمته.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاة وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نتجه إلى الله، ونستعين بالله ونستنصره، في كل ما نقوله، و في كل ما نفعله، نرجع إليه، و نتوب إليه، نستغفره عن كل أمرٍ، و نحمده على كل أمرٍ، نحمده إن رأينا أمراً فيه صواب وفيه صلاح لمجتمعنا، و نستغفره يوم نرجع إلى داخلنا ويتكشف لنا ما أخطأنا فيه، نستغفره ونتوب إليه، و نرجع إليه.
ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أن ديننا، هو أن قانون الحياة، هو أن فطرة الحياة، هو أن الدين الذي عند الله، قانون الله الذي به أمرنا وكشف لنا:
" لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.." [البقرة286]
تعلمنا هذه الآية أن ليس علينا إلا ما تسعه نفوسنا، ما تدركه عقولنا، ما تستحسنه فطرتنا، ما ترضى به قلوبنا. أما إذا نظرنا إلى ديننا، فعلينا أن ننظر إليه من خلال ما أوجد الله فينا من فطرته، و ما أنعم به علينا من نِعَمه، فنفعل ما نرى فيه صلاحنا، وما نرى فيه نجاتنا، وما نرى فيه الأفضل لنا، و نبتعد عما نرى فيه فسادنا وظلامنا. و نقرأ نصوص ديننا بقلوبٍ طاهرة، و بعقولٍ متفتحة، حتى نعلم ما وراء الكلمات و ما وراء الحروف، فلا ننفذ أمراً لا تقبله عقولنا، ولا ترضى به قلوبنا ، بظن دينٍ، و إنما نسأل أهل الذكر، و نرجع إلى قلوبنا وعقولنا.
 فإذا لم نجد أهل ذكرٍ ترضى بهم قلوبنا وعقولنا، اتجهنا إلى الله بالدعاء و بالرجاء، و بذلنا كل جهدٍ من جانبنا، لنقرأ الآيات بقلوبٍ طاهرة، مستعينين بالله، بالدعاء، بالرجاء، حتى نتفهم هذه الكلمات و هذه الآيات بصورةٍ يمكننا أن نطبقها في دنيانا، لأننا إذا طبقنا أمراً،  ونحن لا نقتنع به بعقولنا ولا نرضى عنه بقلوبنا، نكون من المنافقين الذين يفعلون ما لا يعتقدون:
" فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏ " [ الماعون 4- 7] .
عباد الله: نسأل الله أن يوفقنا لخير أنفسنا، ولخير مجتمعنا، و أن يجعلنا أهلاً لرحمته، وأهلاً لعلمه وحكمته.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ألف بين قلوبنا            اللهم احيي قلوبنا.
اللهم ألف بين أرواحنا          اللهم طهر أرواحنا .
اللهم زكي نفوسنا             اللهم أثلج صدورنا.                
اللهم كن لنا في الصغير والكبير من شأننا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، و لا هماً إلا فرجته، و لا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
" رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ " [آل عمران 8].