إذا أردنا أن نكون على منهج الإسلام لأصبح التطهر عملية دائمة، وذلك حتي نكون مهيئين لاستقبال فيوضات الله. يتم التطهر باللجوء الصادق الذي يرتبط دائماً بالتقوى التي تفرضها حالة المراقبة الذاتية. تلك التقوى التي تشعل في الإنسان رغبة عارمة في البحث عن الحق والتخلص من الزيف، وتفرض عليه أن يكون في حالة من الدعاء والرجاء.
إذا قرأنا القرآن سنجد أن كل نبي عاش تجربته الخاصة، وتلقى من الله علماً يتميز به عن سائر الأنبياء. كان الإعداد لتلقي الرسالة هاماً للغاية. فيه ندرك أن الرسل كانوا مدركين لقدراتهم المحدودة، متهيئين للطلب والدعاء من قوة أعلى وأكبر، هكذا قال سيدنا إبراهيم عليه السلام:
"لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ" (الأنعام:77).
هذه الآية تشير إلى أن إبراهيم في رحلة البحث عن مصدر الوجود وأصله، أدرك أن له حدوداً لا يستطيع أن يتجاوزها، وأدرك أيضاً أن هناك "رباً" هو في حاجة إليه، واستمر في بحثه عن ربه "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" (الأنعام:78)، تولد في قلبه اليقين بالخالق الأعظم مصدر كل شيء، ومن هو وراء كل شيء، ومن ليس كمثله شيء، ومن ليس معه شيء، لا موجود بحق إلا هو، وجود حاضر قائم، لا تأخذه سنة ولا نوم، فنادى قائلاً: "إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الأنعام:79). لم يخفي على قومه يقينه الذي تفجر من رؤيته القلبية وتجربته المضنية.
"وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ" (الأنعام:80)
لهذا خاطبنا القرآن
"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ"
"ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا" (سورة النساء: 125)
الإرشاد القرآني يبين لنا أن سيدنا محمد (صلعم) قد سار في نفس الطريق الذي سار عليه إبراهيم (عليه السلام):
"قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (سورة الأنعام:161)
كان إبراهيم (عليه السلام) رسولاً، تبعه مؤمنون، ولذا يذكرنا القرآن أن أسوتنا في إبراهيم والذين معه.
ما المقصود بالذين معه؟
العبارة تحتمل أن الذين معه ليسوا فقط من عاصروه، ولكن أيضاً الأنبياء الذين اتبعوه من بعد. "وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" (البقرة 132)
ويقول يوسف عليه السلام:
"وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُون" (يوسف12: 38)
"الذين معه" تحتمل أيضاً كل من اتبع منهجه من البشر في أي مكان وفي أي زمان. ويؤكد القرآن أن من اتبعوا منهج سيدنا محمد (صلعم) قد أصبحوا متبعين لسيدنا إبراهيم (عليه السلام)، وأنه قد عرّفهم "بالمسلمين". "مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (الحج 87).
سيظل البشر أبداً يتلقون رسالة إبراهيم من خلال من يتواصل معها، مثلما تواصل الرسول معه، وأصبح المتابعون للرسول متابعين لرسالة إبراهيم حنيفاً. هذا تأكيد على أن الدين واحد.
إن من اتبع ملة إبراهيم حنيفاً، هو من اتبع طريق السلام والتسليم، وأصبح "بريئاً من الشرك بالله".
التعبير القرآني يقول على لسان سيدنا إبراهيم (عليه السلام) "إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله؟"
"منكم" هذا التعبير يشير إلى أن سيدنا إبراهيم قد تبرأ من الفعل ومن أصحاب الفعل، تأكيد على أن الإنسان هو ما يعمل. يمكننا توجيه هذا الخطاب اليوم إلى كل من يتاجرون بالدين ويريدون أن يقتلوا ويتجبروا في الأرض باسم الله، أستغفر الله، فأنا كفرت بكم. وعندما يتضح الفرق بين الحق والباطل والنور والظلام، فإن الظلام يأبى إلا أن يطفئ النور، ولن يتواجد نور مع ظلام أبداً، وهكذا لن يتصالحا.
ينبغي أن ندرك هنا أن المؤمنين لا يفرضون حالة العداوة والبغضاء على من يخالفهم الرؤية أو العقيدة، ولكن هؤلاء يشنون عليهم حرباً شعواء عندما يشعرون أن قوتهم في خطر وسطوتهم إلى زوال. ذلك أن المؤمنين حقاً لا يخافون في الحق لومة لائم، وقد تحرروا من العبودية لإنسان أو لنظام أو لقوة ما، وأصبحوا على طريق التطهر واللجوء إلى الله سائرين.
هذا المنهج الذي يبدو تعبدياً مطلقاً ينعكس على كل سلوكيات الحياة، ينعكس على مواقفنا السياسية وعلى قدراتنا على التفكر والتأمل، على الكيفية التي نؤدي بها أعمالنا وعلى علاقاتنا مع الناس، على كل فكرة نفكر فيها، فهو منهج حياة كامل وليس كلاماً يردد. وهكذا أراد إبراهيم (عليه السلام) أن يتواصى بما علم مع أبيه وأهله، يبين لهم هذا المنهج:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" ﴿سورة الأنعام ٧٤﴾
"إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا" ﴿سورة مريم ٤٢﴾
نحن نقول إنه لا توجد أصنام الآن، ولكننا نعبد في كثير من الأحيان "ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنا شيئاً". على كل منا أن يبحث عن أصنامه التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنه شيئاً.
"الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ" (إبراهيم:3)
علينا أن نبحث عما نقدسه، وهو ليس مقدساً، بما في ذلك من أفكار عتيقة وجدنا عليها آباءنا، فأبينا أن نفكر تفكيراً حراً، وآثرنا أن نسير وراءهم خائفين مذعورين أن نخطئ، هكذا قال القدماء كلما جاءهم رسول أو هدي. وهكذا نحن اليوم أيضاً، نخشى من أي فكرة جديدة، أو رؤية تختلف عما ألفناه، أوقفنا الزمان، وأصبح حالنا مثل غيرنا من السابقين، نقول:
"إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ" (الزخرف43: 22)
ولأننا دائماً تحت خطر عبادة الأصنام، أصبح الاستغفار قريناً مستمراً للمؤمن، وتلازم الاستغفار مع التقوى والخشية واللجوء والدعاء. دائماً هناك وازع داخلي يجعلنا نريد أن نتطهر ونريد أن نكون خالصين لله. هذا الشعور بالفقر إلى الله هو أحد الآليات التي تعصمنا من فكرة التصنيم، وتدعونا إلى التسليم.
"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗوَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا" (سورة النساء 125)
الإحسان شعور تلقائي وطبيعي لأن الإنسان الذي امتلأ بنور الله وأسلم وجهه لله، يفيض نوراً. يقول الرسول: "اعبد الله كأنك تراه"، أي أن وعي المؤمن بالحضور الإلهي يجعله وكأنه يرى الله، ولكن تعالى الله، فينتقل إلى اليقين بأن الله يراه "فإن لم تكن تراه، فهو يراك". هذا الارتباط بين الإنسان والله في كل لحظة يرفع الإنسان إلى مقام الإحسان.
وتبدأ الآية بقوله تعالى: "ومن أحسن ديناً"، في إشارة إلى تعريف شامل للمنهجية التي تجسدت في حياة سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، حيث إنه "أسلم وجهه لله وهو محسن". هذه هي المحبة والرحمة التي تغمر قلب من أسلم وجهه لله، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
لنتذكر إذن:
الإسلام منهج نعرفه فطرياً كما نقرأه في حياة الرسل الذين كانوا يبحثون عن الحقيقة. و"كان لكم في إبراهيم أسوة حسنة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق