حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين
بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن شرور
الأشرار حولنا، نتجه إليه، ونتوكل عليه، ونوكل ظهورنا إليه، ونسلم وجوهنا إليه، لا
ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
عباد
الله: إنا في هذه
الأيام، نتذكر عاشوراء، نتذكرها لنتعلم منها درساً. درسٌ يعلمنا قانوناً من قوانين
الله على هذه الأرض، قانون العلاقة بين الغيب والشهادة.
في
أحداثٍ كثيرة في تاريخنا، نجد الغيب يتدخل لنُصرة الحق بصورةٍ واضحةٍ جلية. نرى
ذلك في نُصرته لموسى ــ عليه السلام ــ وهو مطاردٌ من فرعون. ونراها في هجرة رسول
الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ من مكة إلى المدينة. ونراها أيضاً في موقعة بدر.
كما
أننا نجد أيضاً، أحداثاً ـ في نظرنا ـ كان الحق واضحاً وجلياً، ولكن لم يحدث تدخل
من الغيب، تاركاً القوى الأرضية تتفاعل بأسباب الحياة الأرضية والمادية. نرى ذلك،
في دعوة رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ قبل الهجرة وهو يُحارَب في أهله،
وبين أهله، وبعد الهجرة في موقعة أحد. وبعد ذلك أيضاً، مع الحسين ــ عليه السلام ــ
وهو يُحارِب قوى الظلام، فيستشهد في كربلاء، وقد التفت قوى الظلام حوله، وكان من
معه قليل، فتُرِك الأمر أيضاً لآليات هذه الأرض، بما فيها من أسبابٍ للقوة والضعف،
كقوى مادية أرضية.
في
عاشوراء، حدث الأمران، لنتعلم أن القانون الإلهيّ له مقاييسه ومعاييره الغيبية،
حتى لا يقول أحد: أن الله يجب عليه أن يفعل كذا وكذا. حاشا لله، فليس المطلوب هو
نصرٌ ماديٌّ دائم، فقد يكون المطلوب هو أن يظهر الحق وقد انهزم أمام الباطل في وقتٍ
ما، بمعايير أرضية.
وقد
يُراد أن يظهر الحق منتصراً في وقتٍ ما، مع قلته ومع ضعفه، بإرادةٍ حقية. "...وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ..."[يوسف 21] دائماً، فالقضية، ليست هي نصرٌ مادي، أو هزيمةٌ مادية، إنما القضية، هي
رسالةٌ للبشرية والإنسانية.
لذلك،
فإنا نجد أن في كل الأحداث التي ظهر الحق فيها منهزماً، من وجهة نظرنا: ما كان هذا
الانهزام إلا مرحلة، وإلا شكلاَ، وإلا درساً، وإلا وسيلةً للتعلم والتدبر لمن
يتذكر ويتدبر، فيعود أقوى مما كان.
فمع
كل ما حدث من أحداثٍ في حياة الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ من انتصاراتٍ
لأهل الظلام ـ في ظاهر الأمر ـ إلا أن الرسول قد حولها إلى نصرٍ، وإلى معرفةٍ،
وإلى تَعلُّمٍ وتدبر.
أدرك
أن كل شيءٍ يمر فيه الإنسان، إنما هو درسٌ له. فخاطب ربه، وشكى إليه ضعفه، وقلة
حيلته، وهوانه على الناس، وقال له: "...إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي..."(1)، تَعلَّم أن عليه أن يرجع إلى الله، وأن يدعو الله، وأن
يسأل الله قوةً، وأن يسأل الله نصراً، وأن يسأل الله أن يكون عبداً متعلماً، مُتفهِّماً،
قارئاً، راجعاً، مستعيناً بالله دائماً.
ويوم
أُحدٍ أيضاً، كان هذا درساً ليتعلم منه المسلمون ألا يتكالبوا على الدنيا، وألا
يتركوا مواقعهم. وهذا، ليس درساً حربياً عسكرياً فقط، ولكنه درسٌ أخلاقيّ في حياة
الإنسان، أن عليه ألا يتكالب على الدنيا، وألا يترك موقعه الذي هو عليه، يؤدي خدمةً
ويعمل عملاً، من أجل الدنيا، وإنما يدرك أن عمله أكبر من كل شيء، وأفضل من كل شيء،
وأن الدنيا ستجيئ إليه، لا يذهب هو إليها، وأن لا يشتري بآيات الله ثمناً قليلا.
فيعلم
أنه إذا حدث تعارض بين عمله الذي هو عليه وبين موقعه الذي هو فيه، وبين دنيا
يصيبها، عليه ألا يتزحزح عن موقعه، أما إذا جاءت له الدنيا وهو لم يتزحزح عن موقعه،
فهذا فضلٌ من الله ونعمة، "...وَاللّهُ
يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ"[البقرة
212].
وما
كانت كربلاء وموقعة استشهاد الحسين ـ عليه السلام ـ إلا درساً باقياً للبشرية،
لمعنى الفداء والتضحية، ولعدم التراجع في مواجهة الظلم، خاصةً وأن الواقعة قد وقعت،
والمواجهة قد حدثت، والتراجع لا فائدة منه، فالحسين لم يكن متهوراً، كما يفعل
البعض الآن ـ في نظرهم أنهم يقتدون بالحسين ـ بظنٍ منهم أنهم يحاربون الظلم، دون
وعيٍ ودون فهم.
فالحسين،
يوم خرج من المدينة ذاهباً إلى كربلاء، ذهب بناءً على دعوةٍ، لم يكن يستطيع أن
ينكرها أو أن يتخاذل عن تلبيتها، والناس يدعونه، لأن يقودهم في معركةٍ ضد الظلم
والظلام. لم يكن ليفعل ذلك أبداً، فالواقعة قد وقعت، وقد ذهب إلى العراق، فتخلّى
عنه الأنصار، وما كان ليستطيع أن يتراجع، لأن تراجعه لا فائدة منه.
فقوى
الظلام، قد عزمت على قتله، وعلى محاربته، فهل يختفي ويهرب؟، لم يكن ليستطيع ذلك،
وإنما أراد أن يُثبِت أن وجهته هي محاربة الظلم أياً كان. وطالما قد وقعت الواقعة،
فلابد أن يُكمِل للنهاية. هذا ما قام في وجدانه، وما استفتى به قلبه، وما وصل إليه
عقله، ليكون بذلك وليقدم بذلك، رسالةً، أنه إذا كُتب عليك ذلك، وكُتب عليك أن تكون
في هذا الموقف، فلابد أن تَثبُت وأن تحارب إلى النهاية.
فالظلام،
لا يستطيع إلا أن يقضي هذه الحياة الدنيا. والمؤمن، لا يخشى أن يغادر هذه الدنيا،
ولكن يخشى أن يكون متخاذلاً، وأن يَبعَث برسالةٍ متخاذلة، رسالةٍ ليس فيها ثبات،
وليس فيها إيمان، وليس فيها استشهاد، وليس فيها مجابهة في اللحظة الفاصلة.
وقد
انتصر الحسين على أعدائه، فظلت رسالته حية، وماتت رسالة أعدائه، وظلوا يُذكرون في
التاريخ بأنهم قتلة حفيد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، وأنهم بداية مُلكٍ
عضوض، سَنُّوا سُنَّةً سيئة في تاريخ البشرية، يوم جعلوا من الإسلام وسيلةً لحكمٍ
ماديّ، وتحول الأمر إلى صراعٍ سياسيّ.
وقد
فعلوها قبل ذلك، في محاربة معاوية لعليّ بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ وثَبَّتها
يزيد بقتله للحسين، بأن أصبح الأمر سياسةً وإمارةً ودنيا، كهدفٍ، ولم تصبح الدنيا
وسيلة كما جاءت رسالة محمدٍ ــ عليه الصلاة والسلام ــ لتُعلِّم الناس، كيف يجعلون
من دنياهم مزرعةً لآخرتهم، ومن سياستهم لأمور دنياهم وسيلةً لإحياء قلوبهم،
بمراعاة الله في أعمالهم، بالإيثار وليس الأنانية، "...يُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..."[الحشر
9]،
بالتمسك بدورهم في الحياة،
لدورهم لخدمتهم لإخوانهم، لا لسعيهم لدنيا يصيبونها ويخسرون قلوبهم، ويخسرون
عقولهم، ويخسرون إيمانهم بالحياة وامتدادها.
هكذا،
كانت كل اللحظات وكل المعارك، التي ظهر فيها الحق منهزماً، كانت في باطنها رسالةً
منتصرة، ظلت حية على مر العصور والأيام. وهذا هو المقياس، الرسالة الدائمة. وفي ـ أيضاً
ـ المعارك التي انتصر فيها الحق، ظلت رسالة الانتصار قائمة، تحمل نفس الرسالة
بأداءٍ آخر مختلف.
ففي
هجرة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وقد نصره الله بآياتٍ غيبية، حتى يُكمِل
هجرته في أمانٍ وفي سلام، ظلت الرسالة، هي كيف ينصر الله عبده، وكيف يُتِم رسالته،
وكيف يؤلف قلوب قومٍ حوله، وكيف يعينه أن يقيم دولةً صالحة في المدينة، ليعود مرةً
أخرى فاتحاً مكة.
وحين
انتصر في بدرٍ أيضاً، بتأييد الغيب له، ظلت الرسالة قائمة، "...كَم
مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ..."[البقرة
249]. ففي كل الأحوال التي إنتصر فيها الحق بتأييد الغيب، ظلت
رسالة هذه الموقعة أو هذا الحدث، باقية دائمة.
ويوم
عبر موسى بأهله البحر وغرق فرعون، بآيةٍ واضحةٍ جليةٍ من الغيب، ظلت رسالة موسى
وانتصار الغيب له، رسالةً دائمةً باقية.
فرسالة
الحق دائمةٌ باقية، سواء كان ذلك بظاهر انتصارٍ أو بظاهر هزيمة، فالحق لا يُهزَم
أبداً، في باطنه، وفي جوهره، وفي رسالته، وما يظهر لنا على هذه الأرض من ظاهر
هزيمةٍ، ما هو إلا أمرٌ مؤقت.
فالقضية،
ليست في انتصار هذا أو في هزيمة ذاك، ولكن القضية، أن العمل وأن الحدث وأن المعركة،
تحمل رسالةً باقيةً على هذه الأرض، بدلالتها الحقيقية، حتى لا ييأس إنسانٌ يجاهد
في الحق، فهو يعلم أنه منتصرٌ بإذن الله، أياً كان الشكل الذي يُقابَل به على هذه
الأرض.
وفي
نفس الوقت، يعلم ويبحث عن الحقيقة دائماً، فلا يستطيع أن ينسب لنفسه أنه على الحق،
وهو الذي ينتصر دائماً في الظاهر أو في الباطن، إنما يخشى الله، لأن المعيار الذي
يقيس به، يحتمل الأمرين.
فالمعيار
الماديّ، لا يمكن اعتباره لذاته، والمعيار الباطنيّ أيضاً، لا يعلمه إلا الله، فلا تستطيع أن تقول مثلاً: أنني قد هُزمت اليوم وأنا
الحق، فأنا منتصرٌ في النهاية، ورسالتي باقية. هذا أمرٌ، لا يعلمه إلا الله. ولا
تستطيع أن تقول: أنني على الحق، لذلك انتصرت ـ يوم تنتصر في ظاهر الأمر، لأن كثيراً
من الطغاة قد انتصروا في ظاهر الأمر.
لذلك،
فالإنسان، عليه أن يكون خاشعاً خاشياً "...إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر
28]، [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](2). فهنا، يصبح الإنسان مؤمناً حقاً بالغيب، "...فَلَا
تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"[النجم
32]،
خشيةٌ حقيقية، والإنسان الذي
هو كذلك، لا يبذل مجهوداً ظالماً غاشماً في اتجاهٍ ما، بظن أنه الحق، لأنه لا
يستطيع أن يقول ذلك.
عباد
الله: فلننظر إلى ما
آلت إليه أمورنا وحياتنا، وننظر إلى أي مدىً هي الغفلة التي يعيش كثيرون منها
وفيها ـ التي يعيش كثيرون فيها بغفلتهم عن أن يخشوا الله، وأن يتجهوا إلى الله،
وأن يعلموا أن الحق لا يُبرِّر لهم أن يستخدموا أي وسيلة.
وإنما
الحق، يستخدم وسائل النبلاء، والأصفياء، والصادقين، والخاشين ربهم، والمتقين،
الذين يؤمنون بأن أي اعتداءٍ على أي إنسانٍ، هو قتلٌ للناس جميعاً، "...مَن
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا..."[المائدة 32].
عباد
الله: نسأل الله: أن
نكون أكثر صلاحاً، وأكثر فلاحاً، وأكثر خشيةً، وأكثر تقوىً، وأكثر علماً، وأكثر
ذكراً، وأكثر عملاً صالحاً.
نسأل
الله: أن يجعلنا كذلك، ويحقق لنا ذلك.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: أن اجتماع الحدثين في هذا اليوم، حدث انتصار موسى ــ عليه السلام ــ،
وحدث معركة كربلاء، وما حدث فيها، وهما يحملان في ظاهرهما، رسالتين مختلفتين، إلا
أنهما في باطنهما، يحملان رسالةً واحدة، وهي: أنك مهما كان الشكل الظاهريّ لنهاية
الصراع، فإن رسالة الحق باقية، ودائمة، ومنتشرة، عابرة للعصور، وعابرة للأماكن،
وعابرة للأجيال، ورسالة الباطل لن تعيش زمناً طويلا، وإنما سوف تُقتَل في مهدها،
لن يبقى منها إلا حدث تاريخي لا يحمل أي شيء، ولا يحمل أي رسالة إيجابية. إن كان
يحمل، فهو يحمل رسالةً سلبية للظالمين ونهايتهم، وللغافلين ونهايتهم.
عباد
الله: نسأل الله: أن
نقرأ رسالة الحق، التي تُعيننا على حياتنا، وعلى سلوكنا، وعلى أن نكون في حالٍ
أفضل، وفي تعاملٍ أكمل، وأن نكون حقاً عباداً له صالحين، وإخواناً على ذكره
مجتمعين، ولوجهه قاصدين.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم
ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا
منجى منك إلا إليك.
اللهم
فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا
فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
______________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق