حمداً لله، وشكراً
لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين
بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا، وشرور الأشرار
من حولنا، نتجه إليه، ونتوكل عليه، سائلينه رحمةً، ومغفرةً، وتوفيقاً.
عباد
الله: إن الحقيقة بيننا،
بين أيدينا، في آيات الله لنا، فيما نراه كل يومٍ في حياتنا، ولكننا قد لا نرى، وقد
لا نسمع، وقد لا نشهد، ما هو موجودٌ على أرضنا، وفي كتابنا، وفي حياتنا. وهذا، ما نتعلمه
من تاريخنا، ومن تاريخ العلوم على أرضنا.
فأسباب
الحياة وعلومها، موجودةٌ منذ خلق الله الأرض ومن عليها، ولكننا لازلنا إلى يومنا هذا،
نكتشف من هذه القوانين، وكلما اكتشفنا، كلما علمنا أن هناك أكثر وأكثر. كذلك الأمر،
في علوم معاشنا، باقتصادنا، وفيما يحكم مجتمعنا، في كل أمرٍ من أمور حياتنا.
حين
ننظر إلى خلق آدم، وابني آدم، "وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ..."[المائدة
27]،
وما حدث من صراعٍ بينهما، والصراع
لا يزال دائراً حتى اليوم، هذا الصراع قام ولازال يقوم، لأن أحدهما لم يتقبل الآخر،
ولم يستطع أن يُقدِّره.
وجاءت
كل الرسالات السماوية، لتعلمنا، أن هناك اختلافاً بيننا، وأن علينا أن نقبل هذا الاختلاف.
فنجد في سيرة كل الرسل والأنبياء، أنهم كل ما فعلوه، أنهم قدموا رؤيةً مختلفةً عما
كان عليه قومهم، ولم يقهروا قومهم على أن يتبعوا رؤيتهم، ولكنهم دعوهم إلى ما يعتقدون،
وقالوا لهم "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ
دِينِ"[الكافرون 6].
وكان
موقف كل الأقوام، كل أقوام الأنبياء والرسل، أنهم لم يقبلوا ذلك، لم يقبلوا "لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"،
ولكنهم أرادوا أن يقهروا هذه الدعوة الناشئة، لم يستطيعوا أن يختلفوا، كما فعل ابن
آدم الذي رفض قول أخيه "لَئِن بَسَطتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لَأَقْتُلَكَ..."[المائدة 28]، قبله،
حتى وهو يريد قتله.
وكما
جاء في سيرة نوحٍ ــ عليه السلام ــ وقد رفضه قومه، فلم يقهرهم، وإنما بنى سفينته،
وهي رمزٌ للنجاة على هذه الأرض، [مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن
تخلف عنها هلك](1). فالسفينة هنا، ليست مجرد سفينة تبحر، وإنما هو أسلوب حياة،
يدعو الجميع أن يركبوا هذه السفينة، سفينة النجاة، دون أن يقهرهم على ذلك.
ويضرب
الله لنا مثلاً، أن الدعوة تكون لأقرب الأقربين، وقد لا يقبلون هذه الدعوة. فها هو
نوح يدعو إبنه لأن يركب معه، فيرفض، فيُعلمه الله "...إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ..."[هود 46]. ويحدث الأمر مع إبراهيم ــ عليه السلام ــ والإبن يدعو
أباه، فلا يقبل دعوته، فيظل يدعو ويدعو قومه، فيرفضون دعوته، فيحاولون أن يحرقوه، والحرق
هنا، هو معنى أن الباطل يريد أن يقهر الحق.
وهكذا،
لو عددنا كل الرسالات السماوية، لوجدنا أنها القضية الدائمة ـ فالذي يدعو إلى الحق
يبين ما يعتقده، ولكن أهم نقطة، هي أنه لا يقهر الآخر، حتى لو كان هذا الآخر ـ في نظره
ـ لا يأخذ ولا يسلك الطريق السليم، للنجاة على هذه الأرض، ولأن يحيا حياةً ممتدة. فهذه،
ليست رسالته، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ
الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى،
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى" [الأعلى
11:9].
لذلك،
فإن الدعوة دائماً، هي أن تدعو إلى الحق، أن تُذكِّر، أن تقول ما تعتقده، أن تعبر عما
يجيش في صدرك، وفي عقلك من أفكارٍ، وما تؤمن به من أمورٍ في حياتك، وفي وجودك، وفي
رسالتك على هذه الأرض. ولكن لم تكن الدعوة يوماً، في أن تقهر الناس أن يتبعوا طريقاً
معيناً، أو أسلوباً معيناً في حياتهم.
لذلك،
فالمفاهيم التي تقوم على أن ظنك في أن الآخر كافرٌ، لا يبرر لك أن تقتله، ولكن أن تدعوه
"ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..."[النحل
125]، دون
قهرٍ، ودون فرض. والتوجيه الإلهيّ لرسول الله ــ عليه الصلاة والسلام ــ لنتعلم ذلك،
وهو يقول له: "...أَفَأَنتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ"[يونس
99]،
"لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..."[البقرة
256]، عليك
البيان(2).
حين
ننظر اليوم، نجد أن ليس هناك فريقين فقط، ولكن هناك فِرقاً كثيرة. ونستطيع أن نعمم
هذه الرؤية التي نقرأها في كل الرسالات، على كل هذه الفرق. إن كل فريق أو كل جماعة
أو كل مجموعة، تعتنق فكراً معيناً، أو فهماً في الحياة، أياً كان مصدره، عليها أن تدعو
إليه، هذا لا غُبار عليه، ولكن لا تقهر الآخرين على أن يتبعوا ما تعتقده.
وهذا،
ما يميز من هم على دين الفطرة ودين الحياة، أنهم لا يقهِرون، ولا يرهِبون، ولا يتسلطون،
ولا يَقتلون، ولا يُخرِّبون، وإنما يُذكِّرون، ويخفضون جناح الذل من الرحمة، ويتواضعون،
ويتحاورون، ويتجادلون بالتي هي أحسن، ويدعون إلى كلمةٍ سواء، ويمكن أن يكون هناك أيضاً،
من يفعلون كذلك بفهمٍ مختلف، وطالما أنهم يتبعون نفس الأسلوب، فلا مانع في ذلك.
فواقع
الحياة يعلمنا، أن الاختلاف واردٌ على هذه الأرض، وأن التعدد قائمٌ عليها، ولكن إذا
قَسَّمنا الناس إلى فريقين، لا نقسِّمهم على ما يعتقدونه، أو يفهمونه، ونضع مجموعةً
في جانب، ومجموعةً أخرى في جانبٍ آخر، وإنما نفعل ذلك فقط باستخدام صفةٍ واحدة، أن
تقبل الآخر، أو لا تقبل الآخر. فإن قبلت، فأنت أياً كان معتقدك، وأياً كانت تفكيراتك،
وأياً كان سلوكك، تكون في محاولةٍ لكسب الله، ولكسب الحياة، وتستطيع أن تقبل مفاهيم
متعددة، لتساعدك أن تختار طريقك.
فالتعدد
في المفاهيم وفي تطبيقها، لا عدد له، ولكن الفريق الذي يركب سفينة نوح، هو الذي يدعو
الآخرين "...بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..."، ويقبلهم، ويحبهم، ويريد لهم الخير، ويدعو لهم بالخير، ولا
يقهرهم، ولا يعنفهم، ولا يؤذيهم في أي صورةٍ من الصور، وإنما فقط يدعو "...بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ...".
والفريق
الآخر، أياً كان المعتقد الذي يعتقده، وأياً كانت الراية التي يرفعها، وأياً كانت الكلمات
التي يتشدق بها، إن لم يكن يقبل الآخرين، فهو في "الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا"[الكهف 104]، لأنهم
لم يتبعوا قانون الحياة، وهو أن الاختلاف واردٌ، وأن عليك أن تقبل الحياة كما هي، باختلافها،
وتعددها في صورٍ مختلفة.
هذا،
أمرٌ موجودٌ على الأرض منذ خِلقتها، كما أشرنا في آدم وأبنائه، وإبنيه بالذات، وظل
كذلك في كل الرسالات، ومع كل الأنبياء. ولكننا، لازال البعض منا لا يريد أن يستمع لهذا
الحديث، حتى وإن كان يرفع راية الإسلام، ويرفع راية أي دينٍ. هناك على هذه الأرض، من
لا يريدون أن يتقبلوا الآخرين، وهذا واردٌ، وهذا قائمٌ وسيظل قائماً.
ولكنا،
ندعو كل من يرفع راية دينٍ، أن يتعلم من دينه هذه القيمة الكبرى، وهي تقبل الآخرين
أياً كان معتقدهم، وأياً كان إيمانهم، وأياً كان ما نطلق عليه دينهم، عليه أن يقبل
هذا الوجود، وإذا تعامل معه، تعامل معه بالخير، ودعاه إلى "...كَلَمَةٍ
سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ..."[آل
عمران 64]، فإن
أعرض عن ذلك ولم يستجب، "...فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"[آل
عمران 64].
عباد
الله: علينا، أن نتعلم
هذا القانون، وأن نُذكِّر أنفسنا به، لأن في بعض الأحيان، ننسى. علينا أن نمارسه، وعلينا
أن نطبقه، وعلينا أن نتعامل به، فإن لم نفعل، فإننا سوف نكون من الذين يَصِمُون الآخرين
بالباطل، وينسون هذا القانون الأساسيّ، في معنى من يريد النجاة على هذه الأرض.
عباد
الله: نسأل الله: أن يوفقنا
لما فيه صلاحنا، وأن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن يجعلنا من الذين يتوبون إليه،
ويرجعون إليه.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_______________________
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا وتعلم ما عليه مجتمعنا.
اللهم
ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى
منك إلا إليك.
اللهم
ونحن نرى ما يحدث حولنا، وما صارت عليه أرضنا، نتعلم مما يحدث، ونجد في آياتك وفي رسالاتك،
ما يكشف لنا عن قانون الحياة، الذي يعلمنا، أننا لننجو بأنفسنا، ولنكون أحياءًا عند
ربنا نُرزق، وأن نتبع رسولك وهو يدعونا لما يحيينا ـ علينا أن ندعو بالخير، وأن نُذكِّر
بما نرى أنه الخير، وأن نُذكِّر بما هو أحسن، وأن يكون تذكيرنا بمقدار، فلا نزيد في
التذكير. كما نرى في حياتنا، أنك حين أكثرت من ري النبات والشجر، فقد تؤذيه، وكذلك،
إن حجبت عنه الماء، قد تؤذيه، فـ "...كُلُّ
شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ"[الرعد 8].
وهذا،
معنى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..."[العنكبوت
46]. فالأحسن،
هو المقدار السليم، وهو القدر اللازم، دون تَكبُّرٍ، وإنما بتواضعٍ، "وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..."[الإسراء
24].
فإن أكثرت من التذكير، فربما تضر
الآخر، وإن لم تُذكِّر مطلقاً، فأيضاً قد تضره.
لذلك،
فعلى الإنسان، أن يُقدِّر ذلك تقديراً، وأن يكون قائماً أمراً وسطاً، ومراقباً لنتيجة
تذكيره، وقوله، وفعله، وتأثيره على الآخر، فإذا وجد تأثيراً سلبياً، يتوقف فوراً، وكذلك،
ينظر إذا امتنع امتناعاً كاملاً، ما أثر ذلك، إذا وجد تأثيراً سلبياً، عليه أن يُقْدِم،
وأن يُذكِّر.
كل
إنسانٍ، مطالبٌ بأن يُفعِّل ما أعطاه الله من حواسٍ، وقدراتٍ، ومن قدرةٍ على النظر،
وعلى البصيرة، وعلى السمع، وعلى التفكير، ليتحكم في مقدار ما يقوله سلباً أو إيجاباً،
بالزيادة أو بالنقصان، وهكذا يقوم أمراً وسطاً.
الذي
يفعل ذلك، دون حكمٍ على الآخرين، ودون سبٍ لهم ووصْمٍ لهم بكل صفةٍ سيئةٍ، لمجرد أنهم
لا يتبعونه ـ فإنه يكون بذلك في أسفل سافلين ـ وإنما عليه، أن يفهم دائماً، أن العبرة
بمدى تقبل أي إنسانٍ لمخالفيه. وهذا، هو الذي يجعله في طريق الجادة.
وحتى
الذين لا يقبلون الآخرين، فأنت مطالبٌ بأن تتقبلهم من الناحية المعنوية، بمعنى أنك
تسأل الله لهم الهداية، وأن يقرأوا كتابهم، وأن يراجعوا تفكيرهم ومعتقدهم، وأنهم عليهم
دائماً، أن يراجعوا ذلك، فإن نبَّهتهم لذلك، فإن ذلك يكون من التذكير، بالقدر الذي
تراه مناسباً.
عباد
الله: نسأل الله: أن يوفقنا
لما فيه صلاحنا، ولما
فيه صلاح مجتمعنا.
اللهم
ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى
منك إلا إليك.
اللهم
فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها
رضاك إلا قضيتها.
اللهم
اجعلنا معك متعاملين، وعندك محتسبين.
اللهم
اجعلنا من الذين يتقبلون الناس أجمعين، ومن الذين يسألون الرحمة لهم جميعاً، وأن نكون
أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا، ولمجتمعنا، ولأرضنا، ولبلدنا.
اللهم
فاجعلنا عباداً لك خالصين، لوجهك قاصدين.
اللهم
ارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم
تب علينا يا تواب يا رحيم.
اللهم
اجعلنا في طريقك سالكين.
اللهم
"...فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل
عمران 193].
يا
أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
- خطبة الجمعة 8 ربيع الأول 1435هـ الموافق 10 يناير 2014م
_________________
(1) حديث
شريف أخرجه الحاكم في المستدرك بنص: " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ".
(2) -
"... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ"[النحل 44].
- "وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"[النحل
64].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق