الأحد، 2 مارس 2014

العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى: قوانين تحتاج إلى علم وعمل وتربية لإقامة مجتمع مستقر




حديث الجمعة 
28 ربيع الثاني 1435هـ الموافق 28 فبراير 2014م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا وشرور الأشرار حولنا، نسأله أن نكون ممن هُدُوا إلى الصراط المستقيم، وأن نكون من غير المغضوب عليهم، حتى نكسب كَرَّتنا، ونكون من الأحياء عند ربنا نُرزق في الأرض وفي السماء.
عباد الله: إن لهذه الأرض، قوانينها التي تحكم ما يحدث عليها. ونحن نتعلم ذلك، في كل العلم التجريبيّ الماديّ، الذي يحاول أن يتفَهَّم ظواهر الحياة المختلفة، وكيف تحدث هذه الظواهر. يفعل ذلك، ليستطيع أن يتعامل مع كل ما يحدث على هذه الأرض.
وكذلك، فإن تَدافُع الناس بعضهم ببعض له قوانينٌ، وتعامل الناس بعضهم لبعض له قوانينٌ تحكمه. وأول قانونٍ، هو قانون العدل، "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..."[النحل 90]. فحتى يستقر الناس في حياتهم، يريدون أن يشعروا بالعدل بينهم. وليس العدل مجرد شعارات يطلقها البعض، وإنما هي أفعالٌ على أرض الواقع.
وليس الأمر سهلاً، ليست إقامة العدل سهلةً، وإنما في حاجةٍ إلى تدبيرٍ، وإدارةٍ، وعلمٍ، وتَفَهُّمٍ، واستخدامٍ لكل مصادر الثروة الموجودة في بلدٍ ما، وفي مجتمعٍ ما. إنها ليست مجرد محاكمٌ تُقام، وأحكامٌ تصدر، وعقوباتٌ تُنفَّذ. فهذا، جانبٌ واحدٌ من قضية العدل، التي هي أساس الحكم.
وليست قضية العدل مجرد أموالٍ تُنفَق، أو تُوزع دون ضابطٍ أو رابطٍ، وإنما لها أبعادٌ مختلفة، ترتبط بقدرة الإنسان على أن يعمل عملاً نافعاً، وترتبط بتأهيل الإنسان أن يكون قادراً أن يقوم بهذا العمل، وترتبط بعدم قدرة إنسانٍ على أن يُؤهَّل، أو أن يكون قادراً أن يعمل عملاً نافعاً. وترتبط بالحس الإنسانيّ بالتكافل بين أفراد المجتمع. وترتبط بمراقبة الله فيما تفعله، وفيما تقدمه، وفيما تأخذه. وهذا، هو الركن الثاني فيما كشفه الله لنا، من قانون التعامل بين الناس على هذه الأرض. فإذا كان أمرنا في الركن الأول أن نقيم العدل، فهو في الركن الثاني قد أمرنا بالإحسان.
والأمر لا يقوم بنفسه، ولكن يقوم بأن يكون هناك من يدعون له، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104]، والخير يشمل العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى*.
لذلك، فإن إقامة هذه الأركان، العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى ـ يحتاج إلى علمٍ، وإلى عمل. فالعدل ــ كما أشرنا إليه ــ له أبعادٌ مختلفة. والإحسان ــ كما أشرنا إليه ــ له بعدٌ أساسيّ، وهو التعامل مع الله، ومراقبة النفس في الأخذ، وفي العطاء. وإيتاء ذي القربى، هو شعورٌ بأن الإنسانية نفسٌ واحدة، "خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ..."[الزمر 6]. فتدرك، أن عليك أن تتعامل مع الكل من هذا المنطلق.
والعطاء، لا يكون فقط في بذل مالٍ، إنما هو في كل عطاءٍ يمكن أن تقدمه، في علمٍ، أو في خدمةٍ، أو في تأدية وظيفةٍ دُرِّبت لها ودُرِّبت عليها، في دعاءٍ، في محبةٍ، في تراحمٍ، في فضلٍ، في إيثارٍ، "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..."[الحشر 9].
لذلك، فلإقامة هذا المجتمع، نحن في حاجةٍ إلى علمٍ، لنتعلم كيف نقيم كل هذه الأركان، ونحن في حاجةٍ إلى تربيةٍ، حتى يتدرب الناس على هذه الصفات وعلى هذه التعاملات، ونحن في حاجةٍ إلى عملٍ، حتى يستطيع الكل أن يعيش على هذه الأرض، وأن يحافظ على حياته عليها.
ولا تستقيم أمةٌ بمجرد رفع شعارات، مهما كانت هذه الشعارات، ولا تستقيم أمة بخروج الثورات مرددةً كلمات، وإنما تستقيم الأمم بالعلم، والعمل، والتربية.
فإذا كان الذين يرددون الكلمات لا يعلمون، فلن يستطيعوا أن يقيموا أمةً. ولكن الذين يستطيعون أن يقيموا أمةً، هم من يمتلكون رؤى في إقامة أركان الحياة المستقرة على هذه الأرض، من يملكون علماً، من هم قادرون على أن يدفعوا الناس إلى العمل، وإلى من يُكبِرون أهل العلم، الذين يستطيعون أن ينيروا للناس طريقهم، بتدريبهم، وتعليمهم، وتربيتهم.
وما نهض المسلمون الأوائل، إلا بعد أن تربوا في مدرسة رسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ فعرفوا قيمة العدل، وقيمة الإحسان، وقيمة إيتاء ذي القربى، فانتشروا في الأرض، فظهر منهم العلماء والفقهاء، وأناروا للبشرية كلها طريقها. ويوم تخلوا عن قيمهم، وتمسكوا بأصنامٍ خلقوها، ظهر غيرهم ممن تمسكوا بهذه القيم التي عَلَّموها، وخفتوا هم وتواروا، عن طريق الريادة والقيادة.
إنها قوانين الحياة العاملة الفاعلة، التي لا تعرف الشعارات والكلمات الرنانة الجوفاء، إنما تعرف العلم، والعمل، والتعلم، والتربية.
ولنا فيما يحدث في بلدنا وفي بلدانٍ غيرنا، عظةً وتعلماً، أن القضية في وجود أناسٍ عقلاء حكماء، يستطيعون أن يديروا أمور بلادهم بعلمٍ، وعملٍ، وتعلمٍ، وتربيةٍ، لمن يعيشون على أرضٍ ما.
عباد الله: نسأل الله: أن نقرأ ما جاء به ديننا، قراءةً صحيحةً عميقةً، قراءةً متفاعلةً مع الواقع، متناغمةً مع قوانين الحياة، ومع سنن الحياة، ومع ما رأيناه من ممارساتٍ في تاريخنا، ومن أحداثٍ في أرضنا، لنتعلم من هذه الأحداث كيف نقرأ آيات الله لنا، قراءةً تُصلِحنا، وتوجهنا، وتعلمنا طريق الصلاح والفلاح، لنكون دعاةً ندعو إلى الخير لأنه خير، ولأننا نستطيع أن نقول أنه خير.
لا ندعو بظن دينٍ، أو باستخدام آياتٍ لتحقيق مآرب لنا، أو أهدافٍ وقتيةٍ، زمنيةٍ، ماديةٍ، وإنما ندعو للعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، لأنهم يمثلون الخير كما نراه على أرضنا، فإذا دعونا إليه، فإننا ندعو به لأنه الخير كما نراه، وكما يراه الآخرون، ونستطيع أن نتواصى بذلك، وأن نجتمع عليه.
إن الدين يلهمنا معاني الخير والصلاح والفلاح. ولكن إذا تواصينا، نتواصى بالحق والصبر، لأن هذا هوالمطلوب في حياتنا، وفي وجودنا، ليس لمجرد أن آيةً قالت كذا وكذا، ولكن لأن قول الآية ومعنى الآية، فيه خيرٌ نراه، وفيه حق نراه، وفيه صلاحنا وفلاحنا نراه، فنتواصى به من هذا المنطلق.
ولذلك، كان الأمر للناس أن يدعوا إلى الخير، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. هم الذي يدعون، وهم الذين يأمرون، وهم الذين ينهون، بعد أن يكونوا قد تفهموا آيات الله لهم، وتفهموا قوانين هذه الأرض، وتفهموا كيف يتفاعل الناس بعضهم ببعض، بعلمٍ ودراسةٍ لا مجرد كلماتٍ أو شعاراتٍ جوفاء. 
نسأل الله: أن يجعلنا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_______________________

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان قد يندفع طالباً أموراً حقية، يشعر بها ويرددها، فيكون شعوره هذا، وتجمع الناس عليه، تجمعهم على إحساسٍ ما، بطلب الحرية، والعدالة، والإحسان، والتكافل ـ هذه الأحاسيس، التي قد يندفع الإنسان مردداً لها، بإحساسٍ يعتريه، فيتجمع الناس جميعاً على هذه الأحاسيس وهذه المعاني، فيكونون قوةً دافعةً للتغيير.
ولكن هذا لا يكفي لإقامة استقرارٍ، وإقامة أمةٍ، وإقامة دولةٍ، وإقامة مجتمعٍ عادلٍ، يتواصى فيه الناس بالحق وبالصبر. لا تعني هذه القوى المُغيِّرة، أنها تستطيع أن تُقِيم بناءاً صالحاً. فالقوة قد تستطيع أن تهدم بنياناً مُشوَّهاً، ظالماً، طاغياً، غير مستوٍ، الكل يراه قبيحاً يجب هدمه، ولكن هذه القوة الهادمة، لا تستطيع أن تبني مكانه بناءاً سليماً، صحيحاً، جميلاً، متناسقاً، متوازنا.
فالبناء، يحتاج إلى علمٍ، وإلى عملٍ، وإلى تربيةٍ، أما الهدم فإنه يحتاج مجرد قوة دافعة. وإذا كان هناك علمٌ في الهدم، فإنه أقل كثيراً من العلم في البناء. وهذا، واضحٌ في أحداث الحياة التي توالت علينا.
فالقضية الدائمة، هي كيف يُفرِز المجتمع قوةً قادرةً على التغيير إلى الأفضل، قوة عاقلةً، عاملةً، مربيةً، حكيمةً، تستطيع أن تُقِيم بنياناً سليماً، صحيحاً، جميلاً، متناسقاً، متناغماً مع قوانين الحياة.
بقوانين الحياة ـ كما شهدناها ونشهدها في تاريخنا وفي تاريخ الأمم حولنا ـ فإن هذا لا يحدث في يومٍ وليلة، وإنما يحتاج لوقتٍ من تفاعلٍ مستمر، حتى تُفرَز هذه القدرات القادرة على أن تغير تغييراً صحيحاً، وأن تبني بناءاً سليماً. نعلم أن هذا يحتاج وقتاً، وأملنا في الله، أن نكون أهلاً لتلقي نفحاته، لنكون من خلال قانونه قادرين أن نُفرِز قوةً صالحة منا، بفضله وتوفيقه، في مدةٍ أقصر مما يحدث.
فهذا، طمعنا في الله، وأملنا في الله، أن يوفقنا أن نكون أداة خيرٍ جميعاً، لأن نُخرِج أفضل ما فينا، وأن يظهر بيننا من هو أفضل وأصلح، ولا يظهر منا من هو أسوأ وأضل سبيلا، ولا يكون ذلك إلا بالدعاء والرجاء، وبالعمل، كلٌّ بما يستطيعه، وأن نجاهد أنفسنا جميعاً كلٌّ في مجاله، أن يكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة.
نسأل الله: أن يحقق لنا ذلك، وأن يوفقنا لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك.
اللهم ونحن نطمع في رحمتك، ونطمع في جودك ونعمتك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم ولِّ أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولاهماً إلا فرجته، ولا ظالماً إلا كسرته.
اللهم فاجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..."[البقرة 286].
"...رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].

____________________

* "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل90].


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق