حديث الجمعة
3 رجب
1435هـ الموافق 2 مايو 2014م
السيد/ علي رافع
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، نسأله هدايةً ورحمةً، وأن نكون من عباده الصالحين، "...مَن يَهْدِ
اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا
مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
عباد الله: إن كل إنسانٍ
على هذه الأرض، هو كيانٌ قائمٌ بذاته، له إرادته، وعنده ملكاته وطاقاته وقدراته،
لا يعرف أحدٌ ما يخفيه الآخر، ولا يعرف أحدٌ إرادة الله بالنسبة له أو بالنسبة
للآخرين.
كل ما يعلمه كل إنسانٍ، هو ما يريده هو وما يستطيعه هو، كإنسان قائمٍ على
هذه الأرض. لذلك، لا يستطيع إنسانٌ أن يقول: أن الله لم يهدني، أو أن يقول أنه فيمن
يقع عليه القول: "مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ
لَهُ..."[الأعراف 186].
فإذا كنا نقرأ آياتٍ كثيرة، تتحدث عن قانون الله الكليّ، الذي هو من وراء
كل شيء، فهذا ما نؤمن به تجريداً ــ كما نشرح ذلك دائماً ــ ولكننا في واقعنا، لا
نملك إلا ما تعقله عقولنا، وما تستريح له قلوبنا، وما تريده إرادتنا، وما ترتاح له
ضمائرنا.
لا نستطيع أن نقول ما هو مصيرنا، وما هي إرادة الله بنا ولنا. وهذا، ما
علمنا إياه رسول الله بقوله: [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](1)، و[ها أنا رسول الله بينكم
ولا أدري ما يُفعَل بي غدا](2)، وما علمتنا الآية ذلك في قوله تعالى: "...إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28].
فهذا، تقرير واقع، وليس ادعاء أو تأدب. هو واقعٌ، أن كل إنسان على هذه
الأرض، لا يعرف ما يريد الله به، ولا يستطيع أن يحدد ما يريد الله بالآخرين. لذلك،
أُمِرنا بأن نشهد للناس بما نراه منهم في واقع الحياة، [إذا رأيتم الرجل يدخل
المسجد، فاشهدوا له بالإيمان](3). وهذا، لا يعني أنه مؤمن في الإطلاق، فهذا ما لا نعرفه، ولكننا لا نستطيع
أن نشهد إلا بما نراه
بظاهر عيوننا على هذه الأرض.
لذلك، فإن كل ما هو على هذه الأرض، يُحكَم عليه بقوانين هذه الأرض، وبما
نستطيع أن نقيسه على هذه الأرض. ولا يستطيع أن يدعي أحد، بأن باطلاً يظهر على هذه
الأرض، أو يُطبَّق على هذه الأرض، بظن أن ظاهره باطل، وداخله وجوهره الحق. لا يمكن
لأي إنسانٍ يخشى الله حقاً، أن يقول ذلك، أو أن يُطبِّق ذلك.
وهذه قواعدٌ أساسية، جاء بها ديننا، مكبراً ما أودع الله فينا من قدرةٍ على
التمييز، ومن قدرةٍ على الحكم، ومن قدرةٍ على التعلم لنستطيع أن نحكم أفضل، ومن
قدرةٍ على التواصل لنستطيع أن نتوافق على ما تستحسنه عقولنا، ومن قدرةٍ على
التغيير لنستطيع أن نغير الباطل إلى ما نراه حقاً.
فالدين واقع الحياة، وكل ما جاء به الدين من أوامر ونواهٍ وأحكام، ما جاء
إلا ليساعد الإنسان أن يكون أكثر قدرةً في توجيه إرادته، وفي تفعيل طاقاته، وفي
تغيير واقعه إلى الأفضل. وهذا، فهمٌ أساسيّ ـ من وجهة نظرنا ـ في القيام بكل
العبادات.
فرسول الله ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ يقول: "...إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ..."[العنكبوت
45]، و[من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](4). فالصلاة لها وظيفة، أنها تساعد الإنسان أن يغير ما يراه باطلاً في وجوده،
وأن تجعله أكثر استقامةً في تعامله مع الآخرين. وأن العبرة في قوانين الحياة كلها،
هي في نتيجة الفعل.
فأنت يمكن أن تبذل مجهوداً في مشروعٍ ما، ولكنك لا تنجز شيئاً، لأنك لا
تعرف العلم المُنظِّم لما تقوم به، فتظل تبني وتهدم، وتبذل جهداً جباراً، ولكن لا
طائل من وراء عملك، "...أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا
وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ..."[النور 39]، الذين "...يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا"[الكهف 104]، ولكن لا نتيجة لما يصنعون، ولما يفعلون.
فالصلاة، إن لم تحقق هدفها في تغييرك، فما صليت. والذين يُحوِّلون الصلاة
إلى قيامٍ وقعود، هم يظنون أنهم يحسنون صنعا، ولكن عليهم أن يحاولوا ـ في محافظتهم
هذه ـ أن يصلوا صلاةً حقة، وأن يعلموا أن صلاتهم إذا لم تتحول إلى طاقةٍ إيجابية
في تغيير نفوسهم، وفي تغيير معاملاتهم مع غيرهم، لا تكون صلاةً حقة. فيخشون الله
أكثر، ويستغفرون الله أكثر، ويدعون الله أن يتقبل منهم، وأن يساعدهم أن يقيموا صلاتهم
إقامةً صحيحة، فلا يستكبرون بصلاتهم، ولا يستكبرون بعباداتهم، ولا يستكبرون
بصدقاتهم، وإنما يكونون أكثر تواضعاً، وأكثر خشيةً.
ونحن نقول دائماً: اللهم تقبل، لأننا قد تشوب أعمالنا نفوسٌ مظلمة، ونياتٌ
غير خالصة. فالإنسان الذي يسلك طريق الله، يخشى الله دائماً، ويستغفر الله دائماً،
ولا يتكبر على الناس، ولا يتصور أنه هو الذي على حق، وأن الآخرين كفارٌ غير مؤمنين
وغير صالحين.
لو حاسب كل إنسانٍ نفسه، سوف يكون أكثر تواضعاً، وسوف يتراجع على أن يحكم
على أي إنسان، وإنما سيكون هدفه دائماً، هو أن يُصلِح نفسه أفضل وأحسن، وأن يكون
حكمه قائماً على ظاهر الأمور، وأن يجتمع مع إخوانٍ له في مجتمعه، على أن يضعوا
ميثاقاً وقانوناً يحكم بينهم، يُوَصِّف الباطل على أرضهم، ويُوَصِّف كيف يُقوِّم
هذا الباطل بمقاييس أرضهم.
وهذا، ما نطلق عليه بلغة اليوم، دولة القانون، التي أساسها تعريف ما هو
جريمة، ما هو باطل، ما هو خارجٌ عن السياق، ما هو مؤثرٌ بالسلب على أفراد المجتمع،
وكيف يٌقوَّم من قام بذلك، وكيف يكون عبرةً للآخرين حتى لا يتكرر الفعل. وإذا كان
هذا بسبب خللٍ مجتمعيّ، كيف يُصلَح هذا الخلل، وإذا كان هذا بسبب سياساتٍ خاطئة،
فكيف تُقوَّم هذه السياسات، وإذا كان هذا بسبب قانونٍ سابق غير صالحٍ في التطبيق،
كيف يُعدَّل هذا القانون.
وجود هذا المجتمع، الذي يحكم بظاهر الأمور، ولا يَطَّلع على الأفئدة وعلى
النوايا، هو الذي يقيم دولة أفضل، دولةً تساعد أفرادها على النمو والصلاح والفلاح،
على التكافل والتلاحم، على العيشة الكريمة، وعلى إقامة العدل بين أفرادها، وعلى
شهادة أن لا إله إلا الله أكثر.
لأنك كلما شهدت أن لا إله إلا الله، كلما كنت أكثر مراقبةً لله فيما هو
ظاهرٌ لك، لا ترى رباً غير الله، ولا ترى هدفاً إلا الله، ولا تقصد وجهاً إلا وجه
الله، ولا تؤمن إلا بالله، "...فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا..."[البقرة 256].
إن إتقان العمل فيما هو مشهودٌ لك، والتعامل فيما هو مشهودٌ لك، ومعاملة
الناس فيما هو مشهودٌ لك، هو في واقع الأمر، أيضاً إيمان بالغيب، لأن إيمانك
بالغيب سوف يجعلك تُعلِيه عن أن تدخل ظنوناً في حكمك على الناس، أو في معاملتك،
وإنما سوف تُكبِر الله عن أي ظن، وعن أي حكمٍ غير مشهودٍ لك.
لا يعني أننا نتعامل بالظاهر، أن هذا يجعلنا لا نؤمن بالباطن وبالغيب، بل
أننا سنكون أكثر إيماناً بالغيب، لأننا نُكبِره عن ظنونٍ وعن أحكامٍ ليس لنا عليها
دليل، بذلك، نتذكر شهادة أن لا إله إلا الله.
لذلك، فإن القول بإن الذين يأخذون الظاهر والعلم والواقع، في ترتيب أمور
حياتهم، أنهم بذلك لا يؤمنون بالله، هذا غير صحيح، لمن يعرف معنى ما يقول، لأن هذا،
هو منتهى الإيمان بالله، لأنه لا يريد أن يُدخِل الله وما يريد، طرفاً، فيجعله في
جانبه ضد الآخرين، ودائماً ما يستخدم الناس ذلك، لأنه بإيمانه الحقيّ، يُكبِر الله
عن ذلك، ويَصدُق في أنه يؤمن بأن الله تعالى عن أي وصفٍ، وعن أي صورةٍ، وعن أي فهمٍ.
فأي فهمٍ أصل إليه هو فهمي، لأن الله أكبر من ذلك، وأي صورةٍ أتصورها عن
الله ليست هي، لأنه أكبر من ذلك. فلذلك، كل ما أصل إليه هو منسوبٌ إليّ، وإلى
قدراتي، وإلى علمي، وإلى واقعي. فإيماني بذلك، هو منتهى الإيمان بالله.
والذين يُدخِلون الله في سياساتهم، وفي أقوالهم، ويريدون أن يقيموا حجة بما
يقولون، هم يخالفون ما تعلموه، من أن الله أكبر، والله أكبر، والله أكبر. فلا
يستطيع أي إنسان يخشى الله، أن يُدخِل الله في كلمةٍ ويقول: يريد الله ذلك، أو هذا
هو رأي الله في ذلك ـ يستغفر الله عن ذلك.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون عباداً
لله صالحين، وأن نتعامل بما هو أحسن وأقوم، وأن نُكبِر الله عن أي شكلٍ، وعن أي
صورةٍ، وأن نتعامل بما نرى أنه الأفضل والأحسن لمجتمعنا، ولإقامة العدل على أرضنا،
وللتكافل بيننا وبين إخواننا، لنكون أكثر صلاحاً، وأكثر فلاحاً، وأكثر خشيةً،
وأكثر مراقبةً لله في أعمالنا، بواقعنا، وبظاهر الأمور لنا، لنكون حقاً مقيمين
لديننا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_____________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: هو أن ديننا، يعلمنا أن نتعامل على أرضنا بما هو ظاهرٌ لنا، من باطلٍ
أو من حق، وأن نُكبِر إرادة الله عن أي صورةٍ، وعن أي شكلٍ، فالله أكبر، والله
أعلم، عن أن نحيط بإرادته وبعلمه.
لا يستطيع إنسانٌ أن يقول: أن الله أراد أن يُضلني، أو أراد أن يُضل الآخر،
فهذا غيبٌ عليه، والعقل والحكمة، هي أن يفعل ما يرى هو أنه الحق، وأن يبذل أقصى ما
يستطيع ليكون أداة خيرٍ لنفسه وللآخرين، وهذا، هو منتهى إيمانه بالله.
ولا يستطيع أيضاً أن يحكم على أي إنسان، بأن الله يريد به ذلك، فهو لا يعلم
الغيب، "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ
بِمَا شَاء..."[البقرة 255]، وقد شاء الله لنا أن نتعلم قوانين هذه الأرض، ولم نتعلم كل قوانينها، وإنما
جزءٌ ضئيلٌ منها، فما بالنا بما هو غيب، فمنتهى الإيمان بالغيب، هو أن نكون أكثر
استقامةً في الشهادة.
وإذا أدرك الناس ذلك، ما ادعى أي فريقٍ أنه الأكثر صدقاً في طريق الله،
لأنه يتبع ما أراد الله، وإنما سيكون الناس جميعا أكثر تواضعاً، وأكثر خشيةً،
يحاولون أن يتوافقوا بينهم على ما يجتمعون أنه باطل وما هو حق، وأن يضعوا من
الأساليب والقوانين ما يُقوِّم الباطل وما يحق الحق، كمجتمعٍ، وكرؤيةٍ مشهودةٍ
بمقاييس ومعايير أرضية، يستطيع الجميع أن يتوافق عليها. وإذا اختلفت الرؤى، فيكون
التجريب الذي يُقوَّم بعد ذلك، سواء بإقراره إذا كان أفضل، أو بتغييره إذا كان
أسوأ.
عباد الله: فليخش كلٌّ
أن يتجرأ ويقول: هذا ما يريد الله. وإنما يقول: هذا ما فهمته من آيات الله، أخطئ
وأصيب. والخطأ والصواب، واردٌ بمقاييس أرضية. لذلك، فإن الحديث الذي يقول: [من
اجتهد فأخطأ فله أجر](5)، لأن الخطأ خطأٌ أرضي، وتعلم منه الإنسان، وأجره أنه تعلم، وأن الآخرين
تعلموا منه، [ومن اجتهد فأصاب فله أجران](6)، لأنه تعلم أن هذا يُصلِح، وأنه أَصلَح أيضاً.
وقد يرى بعد ذلك، أن هذا الذي رآه صلاحاً، أنه كان خطأ، فيرجع عنه، فيكسب
أيضاً برجوعه عن هذا الصواب الذي ثبت خطؤه بعد ذلك. فهي دائرةٌ متصلة من التجريب
على هذه الأرض، يحاول بها الإنسان أن يصل إلى حالٍ أفضل. وكل حالٍ، هناك ما هو
أفضل منه، وإلى لا نهاية.
فنحن دائماً على هذه الأرض، نبحث عن الأفضل، وسنظل نبحث عنه دائماً، [فما
من كمالٍ إلا وعند الله أكمل منه](7). وهكذا، في كل ما نستطيع أن ندركه على هذه الأرض، وهذا ما نراه في
كل المجتمعات، فلا يوجد مجتمعٌ فيه الكمال كله، وإنما هناك مجتمعٌ أفضل من مجتمع
نسبياً، وسيظل البحث عن الأفضل مستمراً مادام الإنسان على هذه الأرض.
عباد الله: نسأل الله:
أن يوفقنا لما فيه صلاحنا، ولما فيه نجاتنا، وأن يجعلنا أكثر قدرةً على أن نغير
أنفسنا، وأن نغير ما حولنا إلى أفضلٍ نراه، وهكذا دائماً.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين
ارحمنا.
_______________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق