حديث الجمعة
29 شعبان 1435هـ الموافق
27 يونيو 2014م
السيد/ علي رافع
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان
الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، نسأله هدايةً وتوفيقاً ورحمةً
ومغفرةً واستقامةً، وأن نكون أكثر ذكراً وأكثر فكراً وأكثر عملاً صالحاً.
عباد الله: إنا نستقبل شهراً كريماً، شهراً "...أُنزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ..."[البقرة 185]، شهراً نقوم
فيه بمنسك الصوم، نصوم نهاره ونقوم ليله. رسالةٌ من الله ورسوله، لنتعلم درساً في
معنى حياتنا وفي معنى وجودنا على أرضنا.
فقد جئنا إلى هذه الأرض، لنؤدي رسالةً
ولنحقق هدفاً. جئنا من خلال ذاتٍ لها متطلباتٌ على هذه الأرض، من مأكلٍ، ومشربٍ،
ومسكنٍ، وملبسٍ. هكذا خلق الله هذه الأرض ومن عليها، حَمَّلهم الأمانة، "..خَلَقَ فَسَوَّى"[الأعلى 2]، "...قَدَّرَ فَهَدَى"[الأعلى 3]، "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس 8،7]، "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا
شَاء رَكَّبَكَ"[الإنفطار 8].
وقد أوجدنا الله على هذه الأرض في هذه
الصورة التي نعرفها، صورة الإنسان الذي يسعى على هذه الأرض، الذي يُعمِل عقله
ليواصل حياته عليها، ويُعمِل جسده ليغير ما على هذه الأرض ليناسب حياته، ويُعمِل
قلبه ليجتمع على من يحب وليتواجد مع من يسكن إليه.
قد يكتفي البعض بهذا الحال، يُعمِل كل
أدواته لتستمر معيشته وحياته على هذه الأرض، هدفه الاستمرار عليها، والبقاء عليها،
والحياة عليها ـ إلا من اصطفى الله، وجعله يتفكر ويتأمل فيما بعد هذه الحياة،
وفيما قبل هذه الحياة.
فكان الأنبياء والرسل، يمثلون هؤلاء الذين
اصطفى الله، يفكرون في وجودهم، وما بعد وجودهم، وما قبل وجودهم، يفكرون في هذا
الكون الفسيح الذي يعيشون فيه، ويفكرون في خلقهم، وفي الصورة التي هم موجودون
عليها.
وكانت الرسالات السماوية، لتُذكِّر الإنسان
برسالته الحقية، لأن الإنسان منشغلٌ بحياته المادية، بعاجل أمره. ونحن نرى ذلك في
حياتنا وفي أنفسنا. فإذا كان الإنسان لا يجد طعامه، ففيمَ يفكر؟ إن كل تفكيره سوف
ينحصر في كيفية حصوله على ما يُطعِمه. وإذا كان الإنسان مريضاً، فإن كل تفكيره سوف
ينحصر في كيف يُعالَج.
ونحن نرى ذلك، في مجتمعنا وفي مجتمعاتٍ
كثيرةٍ حولنا، ونراه في أنفسنا يوم نكون كذلك، يوم نكون في احتياجٍ شديدٍ لما يُبقينا
على هذه الأرض. فطرةٌ موجودةٌ في كل إنسانٍ بخلق الله، ليجعله يحافظ على حياته على
هذه الأرض.
فالبعد الروحيّ، يحتاج إلى فكرٍ وإلى ذكرٍ،
حتى يستطيع الإنسان أن يعرف هدفه، يحتاج إلى حالٍ ينفصل فيه عن احتياجاته الأرضية،
فلا يفكر فيها، ولا يبحث عنها. لذلك كان الصوم. الصوم، يجعل الإنسان يعيش في حالةٍ لا يبحث فيها عن متطلباته
المادية ـ إنه تدريبٌ على ذلك.
وبالوجود في هذه الحالة الروحية، تصفو نفسه،
ويفكر في ماهية وجوده، وفيمن هو القائم على هذه الأرض، ما هو هدفه وما هو مقصوده؟
ما هو مستقبله الذي يريده؟ إن الإنسان يحتاج إلى هذه الحالة، حتى يستطيع أن يتواصل
مع فطرته الروحية النقية المعنوية.
يحتاج إلى هذه الحالة، التي ينفصل فيها عن
احتياجاته المادية لساعاتٍ، تُمَكِّنه من هذا التواصل، بحيث إذا رجع سيرته الأولى
في تعامله مع احتياجاته المادية، فإنه يرجع بصورةٍ أفضل، لا تجعله ينشغل عن حياته
الروحية، إنما يجد فيها وسيلةً لأن يتأمل فيما أعطاه الله من نعمٍ وفيما منحه من
حالٍ، يُمكِنه أن يعيش وهو يؤدي كل وظائفه المادية في ذكرٍ وفي عبادة.
فيكون قيام الليل، هو تعبير عن ذلك، أنك وإن
كنت قد رجعت إلى حياتك المادية، فإنك تستطيع بصلاتك وقيامك، أن تعيش أيضاً بعض
الوقت في تواصلٍ بمعناك الروحيّ والمعنويّ. وفي الواقع، فإن كل عبادةٍ، لو نظرنا
إليها، لوجدنا أنها تعطينا وقتاً نتواصل فيه مع داخلنا.
فالصلوات في اليوم، هي أوقاتٌ لنعيش فيها
لحظاتٍ نبتعد فيها عن حياتنا الأرضية، ونتواصل فيها مع مصدر الحياة على هذه الأرض،
ونأخذ مدداً يعيننا على أن نواصل حياتنا بصورةٍ أفضل وأعمق.
والحج كذلك، إنه يعطينا أياماً نعيش فيها في
هذا الحال، الذي يكون شاغلنا كله، أن نكون في علاقةٍ مع غيبنا ومع داخلنا، في حالٍ
من التوائم والترانم والتناغم، بين ما في داخلنا من حقيقة، وبين ما هو قائمٌ علينا
من حقٍ لا نراه.
هذه العبادات، الصلاة والصوم والحج، هي وسائلٌ لنعيش لحظاتٍ في
تواصلٍ مع داخلنا، في حياةٍ وعيشٍ بما فينا من معنى، لنكون مدركين لمعنى وجودنا،
ومعنى حياتنا. كل عبادةٍ من هذه العبادات، تحمل رسالةً من زاويةٍ معينة،
ولها وقتها، ولها تأثيرها.
والصوم الذي نتحدث عنه اليوم، له وقته الذي
يبدأ من الفجر إلى الغروب، فهو يستمر لمدة ساعاتٍ من اليوم، يعطينا فرصةً كافية،
لأن نراجع أنفسنا في هذه الساعات، ولنعلم أن سعينا في الأرض، والذي يمثل النهار، "وَجَعَلْنَا
النَّهَارَ مَعَاشًا"[النبأ 11]، يجب أن يكون في سبيل الله، ولوجه الله، وفي تعاملٍ مع الله، في عملٍ مستمر
لساعاتٍ، وليس كالصلاة، التي تستمر دقائق، تُخرِجنا من حالٍ ماديّ، إلى تواصلٍ
روحيّ، لنكمل حياتنا المادية.
إن الصوم يعطينا وقتاً أطول، وفرصةً لنراجع
أنفسنا أكثر، ولنعيش ساعاتٍ ونحن في هذا الحال الذي نرجو فيه الله، ونسأل فيه الله،
وندعو الله في كل لحظةٍ منه. وتأثير الصوم أعمق، لأنك تبتعد تماماً في هذه الساعات،
عن أي انشغالٍ بطعامٍ أو شرابٍ أو خلافه، مما يُخرِجك عن هذا الحال الروحيّ
والمعنويّ الذي تعيشه.
وكل ما تفعله في هذه الساعات، وأنت تؤدي
عملك الطبيعيّ، أنك تُعطي، أنك تؤدي خدمةً، أنك تؤدي دوراً في هذه الحياة، ولكنك
لا تأخذ منها، إنما هذه اللحظات التي تعيشها وأنت تتذكر أنك تتعامل مع الله، تكون
في عطاءٍ مستمر، لا تتكاسل، ولا تتخاذل، إنما تُعطي وتُعطي.
هكذا، تعيش يومك صائماً، ذاكراً، عابداً،
متعاملاً مع الله. إنها رسالةٌ بلغنا الله ورسوله إياها، لنُنَقِّي نفوسنا من
الشوائب، وقلوبنا من الأحقاد، وعقولنا من الظلام ـ لنكون أفضل، ولنكون أحسن في
حياتنا وفي وجودنا.
نسأل الله: أن نكون أهلاً لذلك، وأن نستعين
بالله حتى نصوم حقاً رمضان، وأن نقوم حقاً رمضان، وأن نخرج من رمضان وقد كسبنا
كسباً جديداً، وخرجنا من ظلامٍ إلى نور، ومن جهلٍ إلى معرفة، وأن نكون من المغفور
لهم، المقبولين، المُعَرَّضين لنفحات الله ورحماته.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً
عليك يا رسول الله.
__________________________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم،
ونحن نستقبل شهر الصوم: أن نُعِدَّ أنفسنا له، بمفهومٍ لنا في هذه الرسالة التي
بعثها الله لنا ورسوله.
إنا نريد أن نكسب من هذه الأيام، التي سوف
نعيشها في إقامة هذا المنسك بمفهومٍ عميقٍ لها، حتى يكون كسبنا لها هو كسبٌ حقيقيّ،
وليس مجرد إقامةٍ لشكلٍ نكرره كل عامٍ، لا نأخذ منه إلا الظاهر، إنما نريد أن
نقومه بصدقٍ وحق.
ولنقومه بصدقٍ وحق، وجب أن يكون لنا مفهومٌ في معنى الصوم. وهذا، ما نُعِدُّ أنفسنا له اليوم، بهذا الحديث
الذي نرجو أن نتفكر فيه جميعاً، وأن يكون لكلٍ منا ما يفهمه فيه ومنه. والمطلوب،
ليس أن نفهم فهماً واحداً.
وإنما نحن ـ فقط ـ نريد أن نُحفِّز العقول
أن تفكر فيما تفعله، وأن نعطيها
مادةً تستطيع أن تستخدمها إذا أرادت، حتى يكون لكل فردٍ مفهومٌ فيما يقوم به، وأن
يحاول أن يُطبِّق مفهومه فيما يفعله، وأن يتذكر دائماً أن القضية ليست مجرد جوعٍ
وعطش.
وإنما هي رسالةٌ علينا أن نتذكرها، كلما
شعرنا بجوعٍ أو شعرنا بعطشٍ، أن نتذكر الرسالة، وأن نُذكِّر أنفسنا في كل لحظةٍ
بهذه الرسالة. فالتذكير المستمر، يُعمِل أثراً في الإنسان. لذلك، كان الذكر، وكان
التسبيح، وكان التفكر والتأمل، بصورةٍ مستمرة، يترك أثراً في الإنسان، يوم يؤديه
بفهمٍ، وتوجهٍ، وحبٍ، ورجاءٍ، ودعاءٍ ـ فإن له أثراً كبيراً في الإنسان.
فلنحاول أن نفعل ذلك، لنصوم صوماً حقيقياً،
نخرج به من هذا الشهر وقد كسبنا شيئاً معنوياً في وجودنا وفي قيامنا، يُمَكِّننا
من أن نستمر في حياةٍ أفضل، وأن تكون حياتنا بعد ذلك هي تطبيقٌ لما فهمناه، وأن
نعيد الكرة تلو الكرة إذا فشلنا ولم نخرج بشيء، ندعو دائماً الله أن يعيننا، وأن
يغفر لنا، وأن يتقبل منا، وأن يوفقنا لما فيه حياتنا، ولما فيه نجاتنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن
أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار
من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك
متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"...رَبَّنَا
لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..."[البقرة 286].
"...رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق