حديث الجمعة
10 محرم 1437هـ الموافق 23 أكتوبر 2015م
السيد/ علي رافع
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشكر دائماً
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: تدبروا آيات الله واستعينوا
بالصبر والصلاة، لتحققوا رسالتكم، ولتؤدوا أمانتكم، ولتكسبوا حياتكم ـ فهذا هو الطريق
الذي يؤدي بكم لتحقيق هدفكم. فهدف الإنسان على هذه الأرض أن يحقق ما يرى فيه حياته
وما يرى فيه نجاته. وأكبر مثالٍ يعلمنا ذلك هو الجهاد في سبيل الله. فالجهاد في سبيل الله هو تعبيرٌ عن طريق الإنسان
في هذه الأرض.
ولو أخذنا الجهاد الجسديّ تعبيراً وتمثيلاً لما
في الجهاد من معانٍ أكبر، فسوف نقرأ هذه الرسالة، هذه الرسالة التي تعلمنا وتخبرنا،
[إما النصر وإما الشهادة]. وإذا أخذنا هذين المعنيين بمفهومهما الظاهريّ، فإنهما
ـ أيضاً ـ سوف يدلانا عن معناهما الباطنيّ. فالنصر بمعناه الظاهريّ هو أن يتغلب طرفٌ
على طرفٍ على هذه الأرض، وينجو الطرف المنتصر، ويهلك الطرف الآخر.
فإذا أخذنا أيضاً هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ
كتعبيرٍ عن نصرٍ أرضيّ، نرى قصة موسى ـ عليه السلام ـ في انتصاره على فرعون، وقد بقى
موسى وهلك فرعون وجنوده. وكانت مسيرة موسى ـ عليه السلام ـ جهاداً في سبيل الله، وكانت
دعوة موسى أن يُعلِّم فرعون ألا يطغى، وأن يرفق بقومه، وأن يتعامل مع الآخرين بالرحمة،
والعطاء، والعدل. وهذه هي صفات الإنسان الذي يعامل الله في خلق الله، وهذه صفة الإنسان
الذي يتولى أمر قومٍ، عليه أن يتعامل معهم بالرحمة والعدل.
[إما النصر وإما الشهادة]، أما الشهادة
فتتمثل في هذا اليوم ـ يوم عاشوراء ـ بما حدث للحسين ـ عليه السلام ـ في موقعة كربلاء.
فهو أيضاً كانت دعوته للحاكم ألا يطغى، وأن يعدل بين قومه، وأن يكون مثالاً صالحاً
يُحتذى به في تصرفاته وأعماله، وألا تكون الدنيا هي بالغ أمره، وهي كل همه، وإنما تكون
الدنيا وسيلةً لكسب حياة الإنسان في آخرته، مما يجعل الإنسان يتعامل مع أخيه الإنسان
بالرحمة والعدل.
وهذا هو الجهاد المستمر على هذه الأرض، بين معسكر
الرحمن ومعسكر الشيطان، معسكر الحق ومعسكر الباطل، ألا تكون الدنيا هي المعبود، ويوم
لا تكون الدنيا هي المعبود، يكون المعبود هو الله.
فأنت حين تعبد الدنيا تنسى طريق الحياة، وتصبح
العاجلة هي كل ما تهتم به، ويصبح الجسد هو كل ما تعمل لأجله. لا مانع أن تعمل من أجل
بقائك على هذه الأرض، [فلبدنك عليك حق](1)، وأن تُصلِح هذه الدنيا حق، ولكن
الفارق بين أن تجعلها هدفك، أو أن تجعلها وسيلتك. أن تجعلها هدفك يُنسيك معنى حياتك
الممتدة، فقد يجعلك ذلك تطغى وتأكل حقوق الناس بالباطل. أما أن تجعلها وسيلتك، فسوف
يجعلك ذلك تذكر الله دائماً، هكذا تكون الحياة.
فحين خرج الحسين مجاهداً كان يرى ذلك، وبرؤيته
وقيام هذا المعنى فيه بحق وباستقامته مع الله، لم يستطع أن يبقى ساكناً، وإنما تحرك
لتحقيق ما رأى أنه الحق، خاصةً وأنه وجد من يساعده على ذلك ويشجعه عليه ويقول له: هيا
ونحن معك. فلم ير بداً من أن يقوم لتحقيق ذلك.
فكان هذا هو تفاعله مع الموقف الذي كان فيه،
وبصدقه وإخلاصه، ما كان له أن يتراجع، وما كان له أن يتخاذل، وهو يضع نصب عينيه: [إما
النصر وإما الشهادة]، فكانت شهادته نصراً، وإن كانت بالصورة الأرضية والصورة المادية،
هي هزيمةٌ على الأرض، ولكنها شهادةٌ بامتياز. وهذا يعلمنا أن ليس المقصود أن ننتصر
في الدنيا، ولكن المقصود وجه الله.
أن تصدق مع ما ترى أنه الحق، مع توافر أسبابه،
لا يمكنك أن تتخاذل. لذلك، فإن ما نقوله يتوافق
مع ما نفهمه في معنى المنهج، بغض النظر عما نصل إليه، فالمنهج أن نكون صادقين مع ما
نرى أنه الحق، ومع توافر الأسباب التي تساعدنا على الوصول إليه.
لذلك، فنحن نرى موقفاً آخر للحسن ـ عليه السلام
ـ، والذي سبق موقف الحسين تاريخياً، وبعد استشهاد الإمام عليّ ـ كرم الله وجهه ـ وجد
الحسن نفسه في موقفٍ لا يُحسد عليه، فهو يرى الحق في أن يواصل جهاده ضد معاوية كما
فعل أبوه وإمامه، إلا أنه وجد من حوله متخاذلين، لا يريدون جهاداً ولا يرغبون في مواصلته،
فقد خذلوا أباه وهو يدعوهم إلى الجهاد يوماً بعد يوم، فيؤجلون غير مهتمين وغير راغبين.
فكانت رؤيته التي رآها، أن الحق في هذه اللحظة
أن يحفظ دماء المسلمين، فأسباب النصر له في الدنيا غير متوافرةٍ في ذلك الوقت، وأنه
يحاول أن يُمَرِّر هذه المرحلة بسلام. فعقد اتفاقاً مع معاوية أن يبايعه في هذه المرحلة،
وأن يكون بعد ذلك خلفاً له. فهو بذلك قد حاول من خلال الاتفاق، والسياسة، والتفاوض،
أن يصل إلى اتفاقٍ يُمَكِّنه بعد ذلك أن يقود الأمة إلى حالٍ أفضل.
إلا أن قوى الظلام والشر لتتخلص من هذا الوعد
وهذا الاتفاق، قامت بقتل الحسن، فاستشهد، لتفسح قوى الظلام الطريق لمن تريد، ليقود
الأمة بنفس الوسيلة التي سار عليها معاوية. وهكذا سارت الأمة بعد ذلك. وكانت هناك محاولاتٌ
دائمة للتغيير إلى الأفضل، إلا أن قوى الظلام الدنيويّ قد تمَكَّنت. والقانون الإلهيّ
دَفْعُ الناس بعضهم ببعض.
ولازلنا إلى يومنا هذا ونحن في هذا الحال، هناك
قوى النور تدفع في طريق الحياة، وهناك قوى الظلام تدفع في طريق الموت. وقوى النور مع
اختفائها ظاهرياً، إلا أنها تكسب الحياة بمحاولتها الدائمة للدعوة إلى النور، وبالدعاء
إلى الله أن يغير الحال إلى الأفضل والأحسن والأقوم.
ومن سخريات القدر أن كثيراً من قوى الظلام تتحدث
اليوم باسم الدين، وبأنها تدعو للحياة وللشهادة، إلا أن دعوتها يشوبها الكثير من الظلم
والإظلام. وأقوى موجة ظلامٍ ممكن أن تمر بأمةٍ هي أن تتسربل قوى الظلام بقوى النور،
وتحاول أن تَظهَر أنها المُخَلِّصة، وهي المُهلِكة المظلمة.
إنها موجةٌ عاتية، تمر بها أمتنا وبلادنا. فتنةٌ
كبرى تختلط فيها الأمور، "لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ"[النجم 58]. نحن في حاجةٍ إلى قوةٍ غيبية تساعد
قوى النور الحقيقية أن تُظهِر دعوة الحق ودعوة الحياة، وأن يكون هناك نظامٌ يساعد على
فرز هذه القوى، حتى نتغير تغيراً حقيقياً.
ونحن اليوم وقد تغيرت آليات التغيير، من تغييرٍ
بقوة السلاح، إلى تغيير بقوة العقل والمنطق، وإلى تغيير بإقامة نظامٍ عادلٍ يسمح للجميع
بأن يعبروا عن آرائهم، وأن يُشَكِّلوا قوةً حقيقية لتغيير النظام إلى ما هو أفضل وأحسن
وأقوم، لعلنا نصل إلى مجتمعٍ يكون كذلك. مجتمعٌ يُمَكِّن الجميع من أن يقولوا ما يعتقدون،
وأن يجاهدوا ليُظهِروا كلمة الحق.
فإذا استطاعت قوى النور أن تتغلب وأن تُظهِر
كلمتها وأن تجد دعماً من المجتمع، قامت دولة النور، أما إذا كانت الجماهير تدعم قوى
الظلام، فلن يكون إلا الظلام، [كيفما تكونوا يُولَّى عليكم](2).
الحياة صراعٌ ودفعٌ للناس بعضهم ببعض، وما سينتج
من نظامٍ له الغلبة المادية يعتمد على ما عليه أفراد المجتمع من فهمٍ ومن إدراكٍ ومن
أهليةٍ. فإن كانوا أهلاً للنور ظهر النور، وإن كانوا أهلاً للظلام ظهر الظلام. وسيظل
دائماً أهل النور يحاولون بدعوتهم وبدعائهم وبإخلاصهم في أعمالهم قوةً دافعةً لأن تظل
كلمتهم باقية، حتى وإن خفتت، حتى وإن قلَّ مؤيدوهم ومساندوهم، إلا أن كلمتهم ستظل حيةَ،
وسيظل هناك من يدعو إلى النور ويدعو إلى الحق ويدعو إلى الحياة.
نسأل الله: أن يحقق لنا ذلك، وأن يجعلنا من أهل
النور ومن أهل الحق ومن أهل الخير، وأن يُبَيِّن لنا طريقنا، وأن يعيننا حتى نصحح مفهومنا،
وأن نصحح أعمالنا، وأن نصحح ذكرنا، وأن نصحح تدبرنا، وأن نصحح كل أمرٍ من أمور حياتنا
ومعاملاتنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن الحياة على هذه الأرض يعيش عليها من يدعو إلى النور ومن يدعو إلى الظلام، من يدعو
إلى الحق ومن يدعو إلى الباطل، من يدعو إلى الحياة ومن يدعو إلى الموت. وقد تظهر دعوة
الحياة ويكون لها الغلبة الدنيوية، وقد تظهر دعوة الموت ويكون لها الغلبة الأرضية.
حين ننظر في التاريخ، سوف نجد في قليلٍ من الأحيان
أن دعوة النور كانت لها الغلبة الدنيوية، كان ذلك من خلال ظهور الأنبياء والرسل، بعضهم
تمَكَّن ـ وليس كلهم ـ بعضهم تمَكَّن من أن تَظهَر دعوة الحق على الملأ ويصبح لها الغلبة
الأرضية، إلا أنه بعد ذلك تراجعت الأمور إلى الفئة المظلمة التي أصبحت لها الغلبة المادية.
وهذا هو الشائع على هذه الأرض في قديمٍ وفي حاضرٍ.
والمجتمع البشري كله يحاول على مر العصور أن يجد نظاماً يُمَكِّن أفراد المجتمع أن
تكون لهم الغلبة المادية، دون قهرٍ ودون قوةٍ عسكريةٍ، ولكن بالمنطق والعقل. وقد يُمَكِّن
ذلك قوى النور أن تَظهَر على السطح، وتكون لها الغلبة الدنيوية، إلا أن هذا النظام
في كثيرٍ من الأحيان أيضاً يُفرز قوى ظلامية، وهي التي تستطيع أن تسيطر على الجماهير
وتخدعهم بأحلامٍ غير حقيقية.
لذلك، فعلينا أن ندرك ذلك، ولا نتصور أن الطبيعيّ
أن تظهر قوى النور وتكون لها الغلبة، وإن كان هذا لا يمنعنا من أن ندفع إلى ذلك، ولكننا
ندرك أن الطبيعة البشرية بظلمانيتها وبقوى الظلام فيها لها تأثيرٌ أكبر على الإنسان
على هذه الأرض، وهذا بقانون الندرة للصالحين، "...قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ"[سبأ 13]، والندرة في استمرار الحياة.
فنحن نجد في كل طرق التكاثر المادية الدنيوية
أن البذور التي تحافظ على ما فيها من حياةٍ وتتحول إلى أشجارٍ، هي بذورٌ قليلةٌ جداً،
بالنسبة للبذور التي لا تتحول إلى أشجارٍ وتتفكك وترجع إلى أصولها المادية.
هذا لا يعني أن الطريق مسدودٌ أمام القِلَّة
التي تحمل معاني النور، إنما الطريق مفتوحٌ أمامها لتحقق حياتها، بأن تقول كلمة الحق،
وأن تدعو بالحق، وأن تعمل عملاً صالحاً، فسوف تكسب حياتها، إما بالنصر الأرضيّ وإما
بالشهادة. والشهادة هنا لا تعني أن تُقتَل في حربٍ أو في صراع، وإنما تحافظ على ما
فيها من حقٍ حتى تخرج من هذه الأرض، لا يُرجعها كثرة الظلام إلى ظلامها، وإنما تظل
محافظةً على نورها، "...نُّورٌ عَلَى نُورٍ..."[النور 35].
إنا ونحن ندرك ذلك إلا أننا أيضاً ندعو ونأمل
وندفع بأن تكون هناك دولة نورٍ، تدعو إلى الحق، تدعو العالم كله إلى الحق وإلى النور،
أملنا في الله كبير، وأملنا في الله عظيم. لا يعني أننا ندرك واقعنا ألا نطمع في رحمة
الله، وفي أن يغير الله هذا الحال إلى أفضل، وفي نفس الوقت لا نتعلق بأملٍ زائفٍ أو
طامعٍ مما يعيقنا عن أن نجاهد أنفسنا، وأن نحافظ على النور فينا. وإنما ندعو بذلك ونحن
نعرف من واقع حياتنا وتاريخنا أنه غير سهلٍ أن يتحقق.
ولكن ـ كما نقول ـ أننا لا نيأس من رحمة الله،
ونطمع في أن يحقق ذلك على أرضنا. وهنا معنى التوافق بين أملنا في الله الكبير، ورضائنا
بواقعنا، وواقع حياتنا، بحيث لا يطغى أملنا على واقع رضائنا، ولا يطغى رضاؤنا عن أن
نكون آملين. إنه التوافق بين الغيب والشهادة، وهذا معنى: ندعو إلى الحضرتين بالحضرتين،
نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدا رسول الله.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا،
وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك،
لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ"[آل عمران 193].
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق