حديث الجمعة
17 محرم 1437هـ الموافق 30 أكتوبر 2015م
السيد/ علي رافع
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا، نعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به أن نقول زوراً أو نغشى فجوراً
أو أن نكون مغرورين، مذكِّرين أنفسنا بافتقارنا إليه وبلجوئنا إليه وبدعائنا له دائماً،
أن يعيننا على ظلام نفوسنا وعلى ظلام المظلمين حولنا، طامعين في رحمته وفي أن نكون
أهلاً لها، وأن يعيننا أن نكون أهلاً لها، فهذا أملنا وهذا طريقنا.
عباد الله: إن جميع الأديان والرسالات
السماوية، تعلمنا كيف نسلك طريقنا على هذه الأرض. وأول هذا التعليم هو أن نُصلِح نفوسنا،
وأهليتنا لتَلقِّي نفحات السماء، "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الآخَرِ..."[المائدة 27]، وما القربان هنا إلا إصلاح النفس، فإصلاحك لنفسك هو القربان الذي تقدمه.
وإصلاح النفس ليس شكلاً وليس صورةً، وإنما هو
نيةٌ، وفهمٌ، وموقفٌ تقوم فيه تجاه نفسك، وتجاه الناس أجمعين. فابني آدم حين قدَّما
قرباناً كان نفس القربان من ناحية الشكل ومن ناحية الأداء، إلا أنه تُقُبِّل من أحدهما
ولم يُتقبَّل من الآخر. وإبنا آدم هنا يمثلان الناس على هذه الأرض، فكل إنسان على هذه
الأرض هو ابنٌ لآدم، وكل إنسان يقدم قرباناً.
وتقديم القربان هو كل الأفعال التي يظن الإنسان
أنه يتقرب بها إلى الله. فالكل يصلي نفس الصلاة، والكل يصوم نفس الصوم، والكل يحج نفس
الحج، ولكن قد يُتَقَبَّل من إنسانٍ، ولا يُتَقَبَّل من آخرٍ. الفارق هنا هو نية الإنسان
في أدائه وفي تقديمه للقربان.
وقد تعلمنا هذا من أحاديث رسول الله ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ حين أشار إلى: [كم من مصلٍ لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا](1)، و[كم من صائمٍ لم يأخذ من صيامه إلا الجوع والعطش](2)، و[كم من تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه](3)، وكم من مقدمٍ لصدقةٍ وصدقاته غير مقبولة، "...لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم
بِالْمَنِّ وَالأذَى..."[البقرة 264]، وكم من معلمٍ لم يأخذ من علمه إلا الغرور.
لذلك، نجد في الحديث القدسيّ(4) ما معناه أن الإنسان يُحاجِي ربه بأنه قد عَلَّم، فيقال له أنك لم تعلم لوجه
الله، ولكي يتعلم الناس، ولكن ليقول الناس أنك عالماً. وما تصدقت إلا ليقولوا كريمٌ
متصدق، فأنت لم تكن تنظر إلى حاجة الناس، وتحاول أن تلبيها بصدق، ولكنك ما رأيت إلا
نفسك، وما طلبت إلا غروراً وتَكبُّراً وتَميُّزاً، فتزداد رؤيتك لنفسك، وتَكبُر نفسك
المظلمة وتختال على الناس بما منحك الله إياه، بدلاً من أن تكون أداة خيرٍ لهم، بتواضعٍ
وبمقصدٍ لوجه الله.
لم تُكبِر الله عن كل صورةٍ، بل رسمت صورةً من
خيالك ومن قدراتك، فظننت أن الله سوف يرضى عنك يوم تفعل شيئاً لذاته، دون أن تنظر إلى
ما تؤديه، وتكون مُكبِراً اللهَ عن كل صورةٍ وشكل.
تنظر إليه فيما أنت عليه في حالك وأنت تؤدي الفعل،
في حالك وأنت تقدم الصدقة، في حالك وأنت تصلي الصلاة، في حالك وأنت تصوم وتحج، في حالك
وأنت تتعامل مع الناس، في حالك وأنت تعطي الناس وأنت تأخذ من الناس، مراقباً الله في
عطائك وأخذك، ذاكراً قول الله: "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا
اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[المطففين 3:1].
[الدين المعاملة](5)، الدين الخُلُقُ الحسن، الدين التواضع، [من تواضع لله رفعه](6)، الدين الافتقار إلى الله، الدين مقصود وجه الله، الدين ذكر الله، الدين أن
تعكس البصر إلى داخلك لتنظر حالك وأنت تقوم بالفعل، وأنت تؤدي عبادةً، وأنت تعامل إنساناً،
وأنت تقدم صدقةً، وأنت تعلم علماً، وأنت تطبب إنساناً ـ تعكس البصر إلى داخلك، وتنظر
ماذا أنت، ما هو حالك، ما هو قيامك، ما هو موقفك.
تدرك أن ما يشفع لك في امتداد حياتك هو حالك
الذي تكون عليه، هذا الحال الذي يُنقِّيك ويُزيل ظلماتك وهفواتك وسوء أعمالك. وحين
عبر الصوفية عن ذلك وعن طمعهم في رحمة الله، وإدراكهم أن القضية هي تَعَرُّضهم لرحمته
التي وسعت كل شيء، خاطبوا نفوسهم المظلمة التي تكون قد يأست بسوء أعمالها وبظلام فعلها:
[يا نفس لا تقنطي من ذلةٍ عظمت، فإن الكبائر
في الغفران كاللمم](7).
أدركوا أن القضية هي أن يتعَرَّضوا لهذا الفيض
الغامر من الرحمة، الذي يغمر الإنسان فيُنقِّيه ويطهره، ويزكيه ويغيره، "...لاَ
يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"[يوسف 87]، "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا..."[الزمر 53]، "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ
أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..."[النساء 48]، والشرك بالله ليس مجرد قولٍ، ولكن الشرك بالله هو ألا تُكبِر الله عن الصورة والشكل.
وقد تكلم الصوفية أيضاً عن الشرك الخفيّ، الذي
تتصور فيه اللهَ في صورةٍ أو في شكلٍ ترسمه وتتخيله، تتصور الله فيه في صورةٍ أنه سوف
يفعل بك كذا وكذا، أو أنه يريدك أن تفعل كذا وكذا لذاته، يوم لا تُكبِر الله ولا تُكبِّر
الله يوم لا تُعلِي الله عن الصورة والشكل، إنك يوم تكون كذلك تكون كابن آدم الذي لم
يُتَقَبَّل منه، إنك بذلك لا تكون أهلاً للحياة، ولكن لك دورٌ آخر، "...نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..."[التحريم 6].
وكما نقول هنا دائماً: أن النار ليست شكلاً وليست
صورةً في ذاتها، ولكنها تعبيرٌ عن أن هذا الإنسان لم يصبح قادراً على مواصلة الحياة،
فيكون أفضل حالٍ له أن يتحول إلى صورةٍ أخرى. وهناك صورٌ كثيرة عند الله لكل إنسان،
"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ"[الإنفطار 8:6]، فهناك صورٌ
كثيرة، لا تعني الصورة هنا هي أن كل إنسانٍ له شكل، له لون بشرة أو عينين أو جسد، بمواصفاتٍ
معينة، وإنما قد يشمل المعنى صوراً أخرى من الحياة.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من الذين
يُتَقَبَّل منهم، وأن نكون مفتقرين إليه، مُكبِرينه ومُكبِّرينه دائماً، شاهدين أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن علينا أن نتعلم من آيات الله لنا، كيف نكون من الذين يُتَقَبَّل منهم. وأن نحاول
ذلك دون أن نتصور أننا كذلك، وإنما بخشيتنا الدائمة، "...إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]، ومن اتباعنا لحديث رسول الله ـ
صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو يعلمنا ذلك، [ها أنا رسول الله بينكم ولا أدري ما
يُفعَل بي غداً](8)، [لا يدخل الجنة أحدكم بعمله، حتى أنت يا رسول الله حتى أنا ما لم يتغمدن
الله برحمته](9).
فالعمل لذاته، وتقديم القربان لذاته، لا يُخرِج
الإنسان من الهلاك، ولا يُعطِي للإنسان الحياة، إنما تَعَرُّضه لنفحات الله، وافتقاره
إلى الله، ودعائه الدائم لله ـ هو الذي يؤدي به لذلك.
وسيظل الإنسان على هذه الأرض دائماً لا يعرف
في أي حالٍ هو، سيظل دائماً في حيرةٍ وفي خشيةٍ، يطلب الله دائماً ويسأل الله دائماً
ويطمع في رحمة الله دائماً، ويرجو أن يكون أهلاً لهذه الرحمة دائماً.
فهو وإن عرف وطمع في رحمة الله، وعرف أنها وسعت
كل شيء، إلا أنه لا يستطيع أن يؤكد أنه أهلٌ لهذه الرحمة. فسيظل دائماً خائفاً، راجياً،
خاشياً، ذاكراً، طامعاً، داعياً، مفتقراً، يذكر الله قياماً وقعوداً وعلى جنبه، متفكراً
في خلق السماوات والأرض، داعياً ربه أن حياته ما خُلِقت هباءاً، وأنه يرجو أن يكون
من الذين هم أهلٌ لرحمته، وأن يقيه عذاب النار، بأن يكون من الذين فشلوا في حياتهم
وليسوا أهلاً للحياة، وهذا معنى: "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
إنه يريد أن يكون من الأحياء، الذين هم عند ربهم
يُرزقون، يريد أن يكون حياً، ويريد أن يكون متابعاً لدعوة الرسول وهو يدعوه لما يحييه.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون كذلك،
وأن يحقق لنا ذلك، وأن نظل دائماً مفتقرين إليه، نطمع في رحمته، ونطمع أن نكون أهلاً
لها.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا .
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق