حديث الجمعة
22 صفر 1437هـ الموافق 4 ديسمبر 2015م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى
مقصود وجهه.
الحمد لله الذي
جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا بظاهرها
وباطنها، بقديمها وحاضرها ومستقبلها، مدركين أن الحق بالنسبة لنا هو ما كُشِف لنا وما
هو ظاهرٌ لنا، ما نراه بعيوننا ونسمعه بآذاننا وندركه بعقولنا، وأن الباطن بالنسبة
لنا هو ما شعرت به قلوبنا واستراحت له ضمائرنا وما قبلناه تجريداً بعقولنا.
الظاهر والحاضر يتفقان في أنهما الأمران اللذان
نستطيع أن نتعامل معهما بظاهر رؤيتنا وبأسباب هذا الوجود الماديّ، لأننا في ظاهر الأمور
نحكم عليها بما ندركه مما هو صالحٌ لنا على أرضنا. وحاضرنا هو المجال الذي نستطيع أن
نُعمِل فيه إرادتنا وجوارحنا لتغييره.
الماضي لا نستطيع أن نغيره، والمستقبل لا نستطيع
أن نعرفه، أما الحاضر فهو الذي يصحح الماضي بأخطائه، ويؤدي إلى مستقبلٍ أفضل إذا أحسنَّا
في حاضرنا.
والباطن والغيب لا نستطيع أن نتعامل معهما بظاهر
عقولنا وبظاهر رؤيتنا، إنما نستطيع أن نتعامل معهما بما أوجد الله فينا من قدرةٍ على
تجريد الأمور، ومن قلبٍ نستطيع أن نميز به بين ما تستريح له ضمائرنا وما لا نستريح
له بقلوبنا.
الغيب هو ما نصل إليه بعقولنا في مستوىً أرقى
من تعليل ظاهر الأمور، إنه إدراكنا بمحدودية هذا العقل الظاهر. فإذا أردنا أن نكون
صادقين لا نستطيع أن نصف الغيب، أو نتكلم باسم الغيب، أو أن نقول أن الله يقول كذا
ويريد كذا، وأن نمنطق هذا، فالله أكبر من ذلك، وتعالى عن ذلك.
ولكن لا يعني هذا أن ليست لنا علاقة بهذا الغيب،
علاقتنا بهذا الغيب قائمة على أساس الدعاء، والحب، والأمل، والرغبة في أن نكون أهلاً
لعطاءٍ ولرحمةٍ ولنفحةٍ. علاقاتنا بباطن الحياة وبمغزاها الكليّ، وبهدفها الأساسيّ،
هو قائمٌ على إحساسٍ موجودٍ في الإنسان، نعبر عنه أيضاً بأنه القلب.
باطن الحياة هو معنى هذه الحياة، هو المراد الحق
بهذه الحياة، والذي يتبلور في كل الأديان بمعنى أن وجودك على هذه الأرض له هدفٌ وهو
حياتك الروحية، وحياتك الأخروية. والإيمان بالحياة الآخرة هو أيضاً إيمانٌ قلبيٌّ تجريديّ،
لأنه أيضاً غيب.
فإيمانك بالله يتبعه إيمانٌ بما بعد هذه الحياة،
و كله إيمانٌ بالغيب، فأنت لا تستطيع أن تصف الحياة الأخروية، إنما تدرك أن هناك حياةً
أخروية سوف تعيشها أياً كانت صورتها، وأياً كان شكلها، وأياً كان مآلك، وأياً كان مكانك،
وأين كان زمانك، في أي عالمٍ كنت، وفي أي شكلٍ كنت، وفي أي صورةٍ كنت "يَا
أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ"[الإنفطار 8:1].
إن ارتباط الحياة الأخروية بالحياة المادية،
هو قائمٌ على رؤيتك لما يحدث على هذه الأرض من أن لكل شيءٍ سبباً ليَحدُث، وأن هناك
علاقةً بين الحدث وسببه. فأنت لا تستطيع أن تعلم إذا لم تبحث وتقرأ وتُجرِّب. لا تستطيع
أن تعلم دون أن تفكر وتتدبر وتتأمل. لا تستطيع أن تنمو دون أن يكون هناك طاقةٌ تجعلك
تنمو وتكبر. و[الظاهر مرآة الباطن](1). أنظر هل "...تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ..."[الملك 3].
هذه الصورة التي تراها على هذه الأرض تجعلك تُجرِّد
هذه العلاقة إلى علاقةٍ أكبر، وإن كنت لا تعرف كيف يحدث النمو الروحيّ نتيجة القيام
الماديّ، إلا أنك تقول أن هناك علاقة، وأن هذه العلاقة قائمة على ما تشعر به بقلبك
أنه الأفضل والأحسن والأقوم. فإذا استقمت فيما ترى أنه الأحسن والأقوم والأفضل، يكون
ذلك سبباً بأن تكون في حياةٍ أفضل في عالمك الآخر، وهذا أمرٌ مجرَّد، وهذا اعتقادٌ
قلبيّ.
هناك من قد يعتقد غير ذلك وعكس ذلك، وهو سيكون
فيما يعتقده، [كن كيف شئت، فإني كيفما تكون أكون](2)، فالإنسان بوجوده الظاهريّ والباطنيّ، بقدرته المادية والروحية، بإدراكه لأهدافه
وما يريد، هو الذي يحدد ما سوف يكون عليه، "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل 118]. فالإنسان هو الذي يحدد مصيره بما يرى، وبما يعقل، وبما يؤمن.
عباد الله: إن على كل إنسانٍ منا أن يعكس البصر إلى داخله، ليسأل قلبه، وليسأل عقله، وليسأل
كل ذرةٍ فيه، ماذا تريد أن تكون؟ وما يصل إليه من خلال هذا الحوار مع داخله هو الذي
سيؤدي به إلى الطريق الذي يسلكه.
وكما نقول دائماً، أن ليس هناك طريقٌ واحدٌ لكل
إنسان، وأن ليس هناك قرارٌ واحدٌ مناسبٌ لكل إنسان، وأنه لا يمكنك أن تصل إلى هذا القرار بأن تسمع إنساناً ليخبرك
عما يجب أن تقرره، وما يجب أن تفعله، إنما القرار يجب أن ينبع من داخلك، ومن بحثك،
ومن تدبرك وتفكرك، ومن ذكرك، ومن حيرتك، ومن سؤالك، ومن دعائك، ومن طلبك، ومن تواصيك
بالحق والصبر مع إخوانك، ومن استماعك لما ييسر الله لك ـ تأخذ كل ذلك وتصهره في بوتقة
وجودك لتصل إلى ما تريد أن تكونه.
لذلك، فإن الدين هو موجَّهٌ لكل إنسان، كل إنسانٍ
يتفاعل مع الدين كما هو له أهل، لا يفرض إنسانٌ رأيه على الآخر، فيما يخص ما يعتقده
الإنسان في معنى وجوده وحياته، وهو الجزء الباطن في حياته. أما الجزء الظاهر في حياته
فله علاقةٌ بحياة الآخرين، ولذلك كان محله الأمة كلها والجماعة كلها والناس كلهم، يتفقون
على كيف يعيشون حياتهم، وبسر الجمع سوف يتبعون المنهج الذي فيه صلاح كل فردٍ في الأمة.
وما جاءت الأديان إلا لتكشف لهم هذا الحق الموجود
في داخلهم، الذي سوف يصلون إليه باجتماعهم. وكما نقول دائماً أن ما جاء به الدين هو
مقاصدٌ كلية، نريد أن نتبعها. أما تفاصيل الحياة اليومية فهو مرتبطٌ بواقع الحياة ومتطلباتها.
والناس وقد تصوروا وخلطوا بين مقاصد الدين الكلية وبين الأمور التنظيمية الشكلية في
حياة الأمة، فتصوروا صورةً من خيالهم لشكلٍ محدد، هذا التصور ناتجٌ عن تفكيرهم وعن
فهمهم، يمكن أن يفهم الآخرون فهماً آخراً.
لذلك، فإن التجريد في هذا الأمر بأن نجعل المقصد
هو الأساس والهدف هو الأساس، محاولين أن نحقق هذا الهدف بآلياتٍ تتناسب مع مجتمعنا،
ومع طبيعة حياتنا، مدركين أن تحقيق الهدف هو المقصود.
نسأل الله: أن يوفقنا لنعرف كيف نعيش حياتنا
الظاهرية وحياتنا الباطنية، نعيش ما هو مشهودٌ لنا ونتعامل مع ما هو غيبٌ علينا، لنكون
في طريق الحق وفي طريق الحياة.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
______________________
الحمد لله، والشكر لله، والصلاة والسلام على
رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن الإنسان يعيش بين غيبٍ وشهادة، بين ظاهرٍ وباطن، بين حاضرٍ وقديمٍ وقادم، وأن حاضره
هو الذي يستطيع أن يُصلِح به ما أفسد في قديم، ويؤدي به إلى مستقبلٍ صالح.
وأن استقامته في الظاهر هو ما يستطيع به أن يصلح
الباطن، وأن إيمانه بالباطن ـ بحق ـ هو ما يستطيع به أن يصلح الظاهر، وأن قيامه في
الشهادة هو تعبيرٌ عن إيمانه بالغيب، وأن إيمانه بالغيب هو ناتجٌ عن إدراكه لحدوده
في الشهادة، وأن الصدق فيما يرى هو الأساس في الاستقامة.
وأن الظن والتخمين لا ينفع الإنسان في شيء، وأن
ظن الإيمان بتصور أشكالٍ معينة وصورٍ معينة وقوانين معينة، لا يجعل الإنسان مؤمناً
حقاً. إنما الإيمان الحق هو في الصدق فيما ترى وتجريد ما لا ترى، "ذَلِكَ الْكِتَابُ
لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 2،3]، وأن الأديان ما جاءت إلا لتكشف
هذه الأمور للإنسان.
وأن استقامة الإنسان على مستواه الشخصيّ هي علاقةٌ
بينه وبين ربه، علاقةٌ بينه وبين مفهومه لما جاءت به الأديان. وأن علاقة الإنسان بمجتمعه
هو علاقة كل إنسانٍ بأخيه في الإنسانية، أساسها المجتمع والاتفاق على ما يَصلح به حال
المجتمع.
وأن ما جاءت به الأديان في هذا الشأن هي مقاصدٌ
كلية، فالعدل أفضل من الظلم، والإحسان بمعنى مراقبة النفس والتعامل مع الله أفضل من
أن يكون الإنسان لا يرى إلا نفسه في كل أمر، فلا يهمه الآخر، ولا يتعامل معه بما يحبه
لنفسه، ويظن أن ظلمه للآخر لن يؤثر عليه سلباً، فلا يرى الله في أفعاله.
والتكافل بين أفراد المجتمع أفضل من عدم التكافل.
فالذي يملك يجب أن يتكافل ويعطي من لا يملك، والذي يَعلم يجب أن يُعلِّم من يجهل، والصحيح
يجب أن يداوي المريض، فالكل قيامٌ واحد، "...خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ..."[النساء 1].
هذه مقاصدٌ كلية، سوف نصل لها جميعاً إذا اتفقنا
وإذا جلسنا معاً، فإذا لم نجلس معاً فقدنا هذه المقاصد، وأصبح كل إنسانٍ يتعامل برؤيته
الشخصية، فيؤدي ذلك إلى الظلم، ويؤدي ذلك إلى عدم الإحسان، ويؤدي ذلك إلى عدم التكافل.
لذلك كان الأمر الإلهيّ: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..."[آل عمران 104].
نسأل الله: أن يجعل منا أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة
لنا ولمن حولنا، وأن يجعلنا أهلاً لرحمته ولنعمته ولحكمته، نتجه إليه، ونتوكل عليه،
ونوكل ظهورنا إليه، ونسلم وجوهنا إليه، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا،
وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نسألك الخير كل الخير لنا وللناس
أجمعين.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا
حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا .
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق