حديث الجمعة
12 ربيع الثاني 1437هـ الموافق 22 يناير 2016م
السيد/ علي رافع
نستعين بالله
ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،
نسأله رحمةً وقوةً وفضلاً وكرماً وعطاءً غير محدود، لنكون
أهلاً لرحمته ولهدايته، ولأن نكون من الذين اهتدوا بما أعطاهم، وألا نكون من الضالين
الذين ضلوا بسوء فهمهم وباستكبارهم وبغفلة قلوبهم. ونحن ندعوه في كل صلاةٍ وفي كل قراءةٍ
للفاتحة، "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ
غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"[الفاتحة
8،7].
عباد الله: نجد كثيرين ـ
في نظرنا ـ يسيئون استخدام كلمة الإيمان والكفر. فما هو الإيمان وما هو الكفر؟ "آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ
وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ
وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة 285].
فالإيمان
ـ حين نتأمل في هذه الآية ـ نجده في "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ
مِن رَّبِّهِ...". وما أُنزِل إلى الرسول من ربه، هو ما نقول عنه دائماً قانون
الحياة. وقد آمن الرسول بقانون الحياة بكله، وأصبح بذلك يدرك هذا القانون، [فكان
خُلقُه القرآن](1)، كان خلقه ما
أُنزِل إليه من ربه، فأصبح هو قائماً بهذا القانون. ولذلك، أصبح الرسول هو التعبير
الحي عن هذا القانون، وأُمِرنا بأن نقتدي به ونتابعه.
والمؤمنون
الذين هم يتابعون رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يرقوا إلى أن يكونوا هم
قيام هذا القانون، وإنما أدركوا هذا القانون في تجلياته التي تجلى الله بها على خلقه،
فآمنوا بالله الذي تجلى عليهم، بما هم فيه من قيام، أدركوا معنى الخالق الذي هو وراء
كل شيئ، ومعنى البادئ لكل شيئ، الذي هو فوق كل شيئ، وأدنى من كل شيئ، محيطٌ لا يُحاط،
لا يُدرَك بحواسهم، وإنما تشعر به قلوبهم وتؤمن به عقولهم، فهو غيبٌ ليس كمثله شيئ.
آمنوا بملائكته،
الذين يرمزون للعلاقة بينهم وبين هذا الغيب، فما يحدث لهم من أمورٍ غيبية في حياتهم
جاءت من خلال الملائكة. فتنَزَّلت الرسالات من خلال جبريل
ـ عليه السلام ـ. ويخرجون من هذه الأرض من خلال عزرائيل، فله هذا الدور الذي مثله القرآن
في ملك الموت، فهو تعبيرٌ عن الوسيلة التي تُخرِج الإنسان من هذه الحياة إلى الحياة
الأخرى، أمرٌ غيبيّ، لا يستطيع أحدٌ أن يعرف متى الساعة التي سوف يخرج من الأرض فيها.
فأنت تؤمن بأن هناك أدوات وقوانين تحكم العلاقة ما بين الأرض والسماء، وهذا ما يرمز
إليه الإيمان بالملائكة.
وتؤمن
بأن هناك قانونٌ لهذا الكون، تجلى في كتب الله التي أنزل على رسله، والتي تعبر عن قوانين
هذه الحياة. "...لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ..."، وهذا
أمرٌ جوهريّ، لأنه يعلمنا أن جميع الرسالات جاءت لتعلم الإنسان القانون الذي يساعده
على أن يخرج سالماً من هذه الأرض، وأن يحيا فيما بعد هذه الأرض. فليس هناك فرقٌ بين
ديانةٍ وديانة وبين رسولٍ ورسول.
وكل
إنسانٍ مكلفٌ بأن يقرأ ما جاء به رسوله الذي يؤمن به دون أن يفصل إيمانه بهذا الرسول
عن باقي الرسل، وإنما يدرك أن الكل يعبر عن قانونٍ واحد، فكلنا بشرٌ ولنا ربٌ واحد،
"...رَبِّ الْعَالَمِينَ"[الفاتحة 2]، ولنا قانونٌ
واحد يحكمنا جميعاً.
وقضية
كل إنسانٍ أن يبحث فيما بُلِّغ، وأن يجتهد ليتعلم، وأن يتواصى مع إخوانه فيما اعتقد،
ليصلوا جميعاً إلى فهمٍ مستقيم يتوافق مع هذه القوانين الكلية. المؤمنون هم الذين يقولون
"...سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا..."[البقرة 285]، سمعنا ما أرسلت
يا ربنا، بما أظهرت لنا من قوانين هذه الحياة، وأطعنا هذه القوانين؛ لأن في طاعتنا
حياتنا ونجاتنا.
وكما
نضرب المثل دائماً في قوانين هذه الأرض المادية، أن كسبك على هذه الأرض، وحياتك على
هذه الأرض تتحسن وترتقي بإدراكك لقوانينها، ولتفعيل هذه القوانين، وليس بالتمني، إنك
تريد الأرض أن تخرج نباتاً كثيراً كثيفاً، ليأكل الناس ويلبسوا ويبنوا ويعيشوا في حياةٍ
كريمةٍ على هذه الأرض، وما كان ذلك، وما يكون ذلك، وما سيكون ذلك ـ إلا بمعرفة كيف
تزرع هذه الأرض.
لن
يفيدك أن تردد كلماتٍ دون أن تعرف كيف تزرع هذه الكلمات في أرض ناسوتك، كما قال المسيح
ـ عليه السلام ـ. ولا كيف تحيي قلبك بهذه الكلمات، كما قال رسول الله ـ صلوات الله
وسلامه عليه ـ: [إن القلوب لتصدأ
كما يصدأ الحديد، وإن جلاؤها لذكر الله](2)، و[إن في
الجسد مضغة لو صلحت لصلح البدن كله ألا وهي القلب](3).
وكما
عبر الصوفية بقولهم: [إلزم الباب إن
عشقت الجمال، واهجر النوم إن أردت الوصال](4)، تعبيرٌ عن المثابرة
وعلى الذكر الدائم. هل تريد لقلبك أن يحيا، لا يكون ذلك إلا بأن تذكر الله دائماً،
"وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى"[الأعلى 15]. فتكون في صلاةٍ
دائمة، يوم تكون كل معاملاتك مع الله، لا ترى إلا الله، ولا تسمع إلا الله، ولا تتوكل
إلا على الله، ولا تسأل إلا الله.
والكفر
بمعناه، أنه عكس الإيمان. ولا نقول هنا الكفر بمعتقدٍ أو بأسلوبٍ أو بمنهجٍ، لا نقول
ذلك، فالكفر له معانٍ كثيرة، وإنما ما نقصد به الكفر هنا، هو عكس الإيمان، وعكس الإيمان
ببساطةٍ هو عكس كل ما قلناه عن الإيمان.
فحين
لا ترى علاقةً للغيب بحياتك وتُرجِع كل أمرٍ لماديّ وجودك، ومن ثم لا تجد أن هناك علاقةٌ
بالغيب، فلا تذكر ولا تؤمن برسالةٍ جاءت من خلال ملائكة الله، فلا ترى في هذه الرسالات
السماوية أية فائدة. لا تؤمن بأن هذه الرسالات تخاطبك وتكشف لك عما فيك، وإنما تراها
شيئاً جامداً لا حياة فيه، فالشيئ الحي هو الذي يتفاعل مع ما حوله. فحين ترى كلمات
الله جامدة لا تتفاعل مع حياتك، فإنك لا تؤمن بمعنى الحياة فيها.
حين
لا تؤمن بأن الله يخاطبك فيما يحدث حولك وفيما أرسله إليك، تفاعلاً واقعياً يتناسب
مع ما تدركه وما تعقله، فإنك بذلك تكون ـ بصورةٍ أو بأخرى ـ قد عارضت المعنى الحي في
خطاب الله لك وفي تفاعل رسائله مع واقعك. وحين ترى كتاب الله هو كتابك أنت فقط، الذي
تؤمن به وتُجَمِّده أيضاً، ولا تجد فيه حياة ولا تجد فيه نوراً، وتتكبر به، وتأتي بأبشع
الأفعال من خلال إيمانك به ـ تكون في معنى "...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي
بِهِ كَثِيراً..."[البقرة 26].
ويوم
تفرق بين رسل الله، بأن تقول هذا أفضل من ذاك، لا تؤمن بأن الرسالة واحدة، وأن إذا
كانت هناك ممارسات من المتابعين لهذه الرسالات، فالكل في ذلك سواء، منهم الصادقون المتابعون
حقاً لما أتى به الرسل، ومنهم من ضل بذلك وعن ذلك.
فالقضية
لا تصبح بما هو اسمك، وما هو شكلك، وما هو ظاهر ديانتك ـ وإنما يكون في تفاعلك مع ما
جاء به هذا الدين بصورةٍ حية، تُقَوِّي طريقك الحقيّ وتساعدك على باطل وجودك، وشرور
نفسك، وسيئات أعمالك.
لذلك،
فإذا تجادلت مع إخوانك في البشرية ـ أياً كان معتقدهم ـ يكون أساس مجادلتك هو "...تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ..."[آل عمران 64]، وتعلم أنك لا
تستطيع أن تحكم على إنسانٍ بكفرٍ ولا بإيمانٍ،
لا بإيمانٍ حقيقيّ ولا بكفرٍ حقيقيّ. لذلك، فأنت حين تتعامل مع الناس لا تحكم عليهم،
والأساس في تعاملك معهم هو ما يصدر عنهم من أفعال.
فإذا
صدر عنهم فعلٌ حسنٌ، شهدت لهم بأنهم يؤمنون بقانون الحياة، وإن صدر منهم فعلٌ سيئٌ،
فأنت تشهد بأنهم غير مستقيمين مع قانون الحياة. إن سميت توافقهم مع قانون الحياة إيماناً،
فتشهد لهم بالإيمان، وإن أسميت عدم توافقهم مع قانون الحياة في عدوانهم، وفي اعتداءاتهم،
وفي سوء فهمهم بالكفر مع قانون الحياة، فإنك يمكنك أن تقول ذلك، بأفعالهم أو ما صدر
من فعلٍ، أن هذا الفعل لا يتوافق مع قانون الحياة.
أما
هم كأفرادٍ، سواءٌ في ذلك الحال. فأنت تشهد بالفعل أنه يتوافق مع قانون الحياة، أو
أن الفعل لا يتوافق مع قانون الحياة، أما الإنسان نفسه، فأنت لا تستطيع أن تحكم عليه
حكماً مطلقاً؛ لأنه ليس هذا الفعل فقط، وإنما هو مجموعةٌ من الأفعال المتتالية والمتنوعة
والمتعددة، التي لا تستطيع أن تحيط أنت بها. لذلك، فالحكم على إنسانٍ لا يجب أن يكون
حكماً مطلقاً، إنما هو حكمٌ على الفعل الذي صدر منه، فهو حكمٌ نسبيّ يتناسب مع هذا
الفعل.
لذلك،
حين نجد البعض الذين يتجرَّأون فيُكَفِّرون كل إنسانٍ لا يؤمن بفكرهم ولا بأسلوب حياتهم
ولا بمعتقداتهم، نجده تَجرُّؤٌ كبيرٌ وخروجٌ
عن الفطرة السليمة، فقد أُمِرنا أن نتواضع ولا نحكم حكماً مطلقاً. قد نقول أننا نختلف
على هذا القول أو على هذا الفعل، ولكن الله يحكم بيننا يوم القيامة فيما كنا فيه مختلفين.
عباد
الله: نسأل الله: أن يوفقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا، وأن يكشف عنا الغمة،
وأن يجعلنا في طريقه سالكين ولوجهه قاصدين.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن نُبيِّنه اليوم: هو مفهومنا في معنى الإيمان والكفر، حتى لا
نسيئ استخدام هذه الكلمات في غير محلها، وحتى نراجع أنفسنا فنرى ما نحن عليه منها،
في إدراكنا لها وفي تعاملنا بها. وأن ندرك أن الإيمان يحتاج إلى ذكرٍ دائم، حتى تنير
قلوبنا وتحيا بكلمات الله، فنكون قادرين على أن نميز بين الخبيث والطيب، بين ما يُحيينا
وبين ما يُميتنا، بين ما يجعلنا قادرين على مواصلة الحياة بعد هذه الأرض، وبين ما يجعلنا
نرتد إلى أسفل سافلين. لا يكون ذلك إلا بنور الإيمان "...وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ..."[الأنعام 122].
إنك
على هذه الأرض تسير في طريقٍ مظلم، فأنت في حجاب، والذي يجعلك تستطيع أن تسير في وسط
هذا الظلام هو نورك، هو قلبك المنير، الذي يجعلك تسير دون أن تقع في عثرات ولا أن تصطدم
بجمادات "...نُّورٌ عَلَى
نُورٍ..."[النور 35]، "...مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ..."[النور 35]، والمصباح هو قلبك، والمشكاة هي صدرك، "...وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا
فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"[النور 40].
فنور
الله هو الذي يضيئ قلوبنا، يوم نكون أهلاً له ويوم نتعرض لنفحاته ورحماته، فنلجأ إلى
الله دائماً أن يجعل لنا نوراً، وأن نكون أهلاً لنوره، حتى ينير قلبنا، فنستطيع أن
نسير على هذه الأرض في هدى، نتجنب الصعاب ونتجنب العثرات، مجاهدين مجتهدين، داعينه
دوماً، ذاكرينه دوماً.
فسبحان
الله وبحمده، نسبحه دائماً، وننزهه دائماً، ونحمده دائماً فــ "الْحَمْدُ للّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"[الفاتحة
3،2]، نسأله دائماً باسمه الرحمن الرحيم، أن يرحمنا، وأن ينير
قلوبنا، وعقولنا، وأن يطهر قلوبنا وأرواحنا وأجسادنا.
اللهم ونحن نتجه
إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا
إليك.
اللهم
فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، بوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل
لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا
قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق