حديث الجمعة
26 ربيع الثاني 1437هـ الموافق 5 فبراير 2016م
السيد/ علي رافع
نسأل الله توفيقاً
ورحمةً وقوةً وفضلاً، لنكون أهلاً لرحمته، وأهلاً لنفحاته، وأهلاً لنكسب حياتنا، ولنكون
من الذين أنعم الله عليهم، الذين يجتمعون على ذكره وعلى طلبه وعلى مقصود وجهه.
نتساءل دائماً
عن الطريق الذي علينا أن نسلكه لنكسب حياتنا، ولنعيش عيشةً راضية، نستطيع من خلالها
أن نتعامل وأن نعمل لما يحيينا، وأن نكون على أرضنا في سلامٍ وفي توافقٍ مع أحوال الحياة
حولنا ـ وسوف نجد هذا الطريق في آيات الله لنا، مما نقرؤه في قرآننا، ومما نشاهده في
سِيَر الصالحين، في سِيَر الأنبياء والرسل، في سِيَر كل من تركوا بصمةً في حياتنا وعلى أرضنا.
وكما نتدبر دائماً
في آيات الله، فإنا نرى ذلك فيما نقرؤه في الفاتحة، ونحن دائماً نرجع إليها فهي فاتحة
الكتاب، وهي ما أُمِرنا أن نصلي بها، والصلاة مرتبطةٌ بمعانيها، وبأن نقرأها بتمعنٍ
وتفَهُّم.
نبدأ
دائماً "بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"[الفاتحة 1]، وندرك أن الله هو "...رَبِّ الْعَالَمِينَ"[الفاتحة 2]، مما يجعلنا
نشعر بارتباطنا بكل من على هذه الأرض. فربنا الله، والحمد دائماً لله، والفضل دائماً
لله، ولا موجود بحقٍ إلا الله، وهذه أول الإشارات إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان
في إحساسه بإخوانه على هذه الأرض، وبكل الكائنات عليها، وهذا إصلاحٌ في المفهوم.
فإذا
عكس الإنسان بصره إلى داخله، ووجد فيها ذرةً من كبر، ومن تمييز وتَميُّز، ومن استعلاءٍ
وتفرُّد، ومن تخصيص جماعةٍ دون أخرى، ومن تفضيل إنسانٍ على إنسان ـ فإن أول خطوةٍ يجب
عليه أن يخطوها أن يُصلِح هذا الفهم.
وإصلاح
الفهم ـ وإن كان فيه بعض الصعوبة لمن تراكمت المفاهيم الخاطئة على ذهنه ـ إلا أنه ممكنٌ
والإنسان قادرٌ عليه. وقد يكون هذا التغيير أسهل من أن تغير عادةً تعوَّدت عليها في
نفسك وفي أحاسيسك. فالتغيير هو مقياس مدى قدرتك على الإنجاز. لذلك، فإنا نبدأ دائماً
بإصلاح المفهوم.
فمفهوم
أن الجميع عبادٌ لله وخلق الله، هو أساسٌ نبني عليه، وعلاقتنا بالله هي علاقة رحمة،
"...الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، رحمنٌ، هي رحمةٌ لا يمكنك أن تحيط بها،
وتفرَّد بها عن خلقه، ورحيمٌ صفةٌ تجلى بها في خلقه، فأُمِرنا أن نكون رحماء بيننا،
وأن يعذر بعضنا بعضا، وألا يتكبر أحدنا على الآخر، وأن نتواضع للناس جميعاً، فـ [من تواضع لله رفعه](1).
وندرك
أيضاً ـ وهذا أيضاً أمرٌ إدراكيّ ـ أن لا يستطيع أن يحكم إنسانٌ على إنسان، وإنما الملك
لله، وأن كل إنسانٍ له طريقه، وأن هناك قانوناً يحكم ما سيلاقيه كل إنسان، فنفهم "مَلِكِ
يَوْمِ الدِّينِ"[الفاتحة 4]، فإذا أدركنا
ذلك، أصبح علينا أن نغير ما في داخلنا من أحاسيس تجاه الآخرين.
فنحن
قد نعلم أننا جميعاً عباد الله، وإنما قد يسخر قومٌ من قوم، وقد أُمِرنا ألا "...يَسْخَرْ
قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء
عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ..."[الحجرات 11]، فهذا شرحٌ لـ
"...رَبِّ الْعَالَمِينَ"، ولعلاقتك بهؤلاء الناس جميعاً.
فإذا
وجدت نفسك كذلك، فإنك تُذكِّر نفسك بقانون الحياة "إِيَّاكَ نَعْبُدُ..."[الفاتحة 5]، تُذكِّر نفسك
بأن قانون الحياة هو أن تكون متآلفاً مع خلقه، [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه](2)، وتدرك أن الله
قد تجلى عليك بأسبابه وقانونه، فأنت تقر بذلك في معنى إقرارك بعبوديتك له في "إِيَّاكَ
نَعْبُدُ...".
ولكنك
تعلم أن التغيير المطلوب في السلوك، وفي الشعور، وفي المعاملة، يحتاج إلى قوة. وقد
نفهم القضية، ولكن إذا نزلنا إلى أرض الواقع لننفذها وجدنا صعوبة، وهذا واقعٌ لا ندعيه،
إنما يشعر بذلك الكل. فالواقع هنا، والتعامل معه يحتاج إلى قوةٍ. فبمن تستعين؟ "...إِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ"[الفاتحة 5]، [يا بني
إن سألت فاسأل الله وإن توكلت فتوكل على الله](3).
فماذا
نطلب أن نكون؟ نطلب الصراط المستقيم، "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ..."[الفاتحة
7،6]. ومن هؤلاء الذي أنعم الله عليهم؟ هم الذين لا يُكذِّبون
بالدين. ومن هؤلاء الذين يُكذِّبون بالدين؟ "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ"[الماعون
2،1]. هنا، يشرح لك المواصفات التي تلاحظها في وجودك، حتى تعرف
إن كنت من الذين أنعم الله عليهم.
وإن
لم تَرَ أنك منهم، فعليك أن تسأله أن يعينك على ذلك، وأن يهديك لذلك، فلا تَدُعُّ اليتيم.
فإن رأيت نفسك غير قادرٍ على العطاء، وأنك لا ترى إلا نفسك، ولا ترى إلا مطالبك واحتياجاتك،
ولا تشعر بالآخرين، فإن كانت فيك ذرةٌ من فهم، فسوف تسأل الله أن يعينك حتى لا تكون
كذلك، تكون من الذين يحضون على طعام المسكين، ويراعون اليتيم. واليتيم هنا هو كل إنسانٍ
في حاجةٍ إليك، أو تستطيع أن تقدم له خدمة، وهذا هو المعيار الأساسيّ.
كما
يحذرك الله أن تكون من الذين يعتقدون أنهم يصلون، أو أنهم يعبدون الله بمجرد قيامهم
في شكل، والله أعلم بعباده ويعلم أن من هؤلاء الكثير، فينبهك إلى ذلك، "فَوَيْلٌ
لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ"[الماعون
5،4]، ساهون عن معنى الصلاة، عن معنى أن الصلاة دعاء وطلب ورجاء.
ويكشف لك أيضاً عن بعض الناس حتى تقيس نفسك، أنت منهم أم لست كذلك؟ "الَّذِينَ
هُمْ يُرَاؤُونَ ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ"[الماعون
7،6].
إنا
هنا أمام معايير يمكن للإنسان أن يلاحظ نفسه حتى يكون في مراجعةٍ لها دائماً، وهذا
ما أشرنا إليه في البداية من أن الذين تحققوا في الله، بمعنى أنهم تغيروا وغيروا ما
في داخلهم، هو بمراعاتهم وقراءاتهم لما يحدث حولهم، وبتفاعلهم مع خلق الله، بهذا التفاعل
استطاعوا أن يغيروا ما بأنفسهم، و
"...اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."[الرعد 11]، هكذا نتعلم
قانوناً من قوانين الحياة، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]. والدعاء هنا،
هو أن تتجه إلى داخلك، وترى ما تحب أن تغيره فتدعو.
تَغيُّرك
هنا، أنك رأيت ما لم تكن تراه، إن هذا تغييرٌ كبير. فقد يعيش الإنسان حياته كلها ولا
يرى ما فيه من عيوب، ظانّاً بأنه هو الأقوم والأفضل والأحسن. فإذا تعرفت على عيبٍ من
عيوبك، فهذا تغيير. وإن دعوت الله أن يساعدك على تغييره، فهذا تغيير. وإن رأيت استجابة
الله لك بأن استطعت أن تخطو خطوةً إلى الأمام في سبيل هذا التغيير، فهذا تغيير، وهذا
تحقق، وهذا كسب.
وإذا
لم تجد ذلك، فلتدعو الله أكثر، ولتسأل الله أكثر، ولا تيأس من روح الله، ولا تيأس من
كرم الله، ولا تيأس من فضل الله، وهذا معنى "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ
قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ..."[آل عمران 191]، ما يعني الاستمرارية
الدائمة حتى مع رؤية أن هناك عدم تغييرٍ في نفسك، لا تيأس من روح الله، تُذكِّر نفسك
دائماً "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ"[آل عمران 191].
و"...عَذَابَ
النَّارِ" أن نظن أن الله قد خلق هذا باطلاً، فحين تعتقد ذلك، فلا معنى لمجاهدتك،
ولا معنى لأن ترى هناك أفضل، وأن هناك ما يجب أن تغيره، لأنك سوف ترى أن كل شيءٍ يظل
على ما هو عليه بحالك، بظلامك، بأفعالك، بشهواتك، برغباتك، دون وعيٍ ودون فهمٍ لمعنى
وجودك.
عباد
الله: نسأل الله: أن نقرأ دائماً آياته، وأن نتجه إليه دائماً بالدعاء والرجاء،
وأن نعكس البصر إلى داخلنا لنرى ما فينا من ظلام، وأن نسأل الله أن يساعدنا أن نغير
هذا الظلام، وأن نكون من الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبنا، نتجه إليه دائماً،
ونتوكل عليه دائماً، ونسأله دائماً أن يساعدنا أن نغير ما بأنفسنا إلى الأفضل والأحسن
والأقوم، طامعين في رحمته، وفي نعمته، وفي قوّته، وفي توفيقه.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الدين هو طريقٌ إلى الحياة، بل أنه الطريق إلى
الحياة. والدين يبدأ من أن تُرجِع البصر الى داخلك، وأن تسأل من أنت؟ وماذا تريد وماذا
تطلب؟ وقد جاءت رسالات السماء لتساعدك على ذلك، وأن تلفت نظرك إلى ماهو قائمٌ بين جوانحك،
فقد تكون من الذين فقدوا القدرة على النظر إلى فطرتهم، ورسالة السماء تساعدك على أن
ترى هذه الفطرة.
فالإنسان
بغفلته عن فطرته، ربما يرى أن مصدر الحياة هي شمسٌ تشرق وتغرب، أو ماءٌ يرويه من عطشٍ،
أو أي شيءٍ آخر يحتاجه في حياته، ولا يصل إلى الفطرة البسيطة لمعنى الغيب.
لذلك،
فإن الأنبياء والرسل حين أدركوا معنى الغيب، واتجهوا إليه بدلاً مما هو مشهودٌ لهم
في ظاهر وجودهم، كان هذا فضلٌ من الله، "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ
مِن رَّبِّهِ..."[البقرة 285]، وما أُنزِل
إليه من ربه، هو أنه اتجه إليه وسأله، ورفض ما هو قائمٌ لا يرى فيه الحقيقة، وأدرك
أن هناك ما وراء الطبيعة، هذا ما أَنزَل الله على الرسول.
"آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ..."، فبَلَّغ الرسول الرسالة
ليوقظ الناس إلى ما في داخلهم. فحين استمع الناس إلى بلاغ الرسول الذي يقول لهم في
أنفسهم قولاً بليغا، فصدقوا ما قاله لهم، وعكسوا البصر إلى داخلهم كما أمرهم، فأصبحوا
مؤمنين.
فحين
نظروا إلى داخلهم "...كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ..."[البقرة 285]، لأنهم وجدوا
أن الإيمان بالله في داخلهم، أنهم يدركون أن هناك ما لا طاقة لهم به، وما هو أكبر من
أي فهمٍ أو أي وصفٍ، وهذا هو معنى الإيمان بالله، لا إله إلا الله.
وأدركوا
أن الله يتواصل معهم بملائكته. وملائكته هي قوانين الحياة التي تربط بين السماء والأرض،
وأن ما يحركهم على هذه الأرض هو قانون الله الذي أظهره في كتبه، فأدركوا ذلك أيضاً،
وآمنوا بذلك أيضاً، نابعاً من وجودهم.
وأدركوا
أن الذي ساعدهم على ذلك هم رسله، الذين أيقظوهم من غفلتهم، وانتشلوهم من عثرتهم، وذكَّروهم
بما نسوه، فعرفوا أن هدف كل إنسانٍ على هذه الأرض هو هدفٌ واحد، وأن كل الرسل جاءوا
بهذا الهدف ليجعلوا الإنسان يرجع إلى فطرته، ويتجه إلى قلبه.
"فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"[القيامة
19،18]. فإذا كنا نقرأ اليوم الفاتحة، فإنها ساعدتنا وتساعدنا وستساعدنا
دائماً أن نتعرف أكثر على ما هو فينا من فطرة الحياة وفطرة الله، هذا ما أردنا أن نقوله
اليوم، لعلنا نقرأ آيات الله في كتابه، ونقرأ آيات الله في خلقه، ونقرأ آيات الله في
كل كونه.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه الناس حولنا.
اللهم ونحن نتجه
إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا
إليك.
اللهم
فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل
لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا
قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق