الجمعة، 2 ديسمبر 2016

الاختلاف قانونٌ من قوانين الحياة، ولولا هذا الاختلاف ما قامت هذه الأرض

حديث الجمعة 
19 رمضان 1437هـ الموافق 24 يونيو 2016م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"....الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..."[الأعراف 43]، ونستغفر الله أن نقول زورا أو نغشى فجورا أو أن نكون مغرورين.
عباد الله: إنّ أيّ دعوة حقٍّ ظهرت على هذه الأرض حُورِبت وحاول المجتمع الذي ظهرت فيه أن يخمد هذه الدّعوة. هذا حال هذه الأرض وأحد قوانينها. فعل قوم نوحٍ ذلك، وفعل قوم لوطٍ ذلك، وفعل قوم موسى ذلك أيضاً، وعيسى ومحمد ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ في كلّ هذه الدّعوات أُوذِيَ الرّسل وأُخرِجوا من ديارهم وهاجروا.
في رسالة محمدٍ ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وفي حياة الرّسول، رجع رسول الله فاتحاً، وجاهد قومه بأدوات هذه الأرض من سلاحٍ وحربٍ وقتال، وكانت موقعة بدر هي أوّل هذه المواقع التي حدث فيها هذا القتال. ومع أنّ القتال لم ولن يكون سبباً مستمرّاً لنشر دعوةٍ أو لإظهار حقٍّ، إلّا أنّه كان يحمل رسالةً لنا، "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ..."[البقرة 216]، فالقتال لن يكون أبداً ولم يكن أبداً سبباً لنشر دعوة الحقّ، وإنّما هو كان أسلوبٌ له محاذيره وله وقته وله أسبابه التي تُحتِّم ـ  أن تُحتِّم ـ حدوثه.
وهكذا حال الإنسان في حياته، قد يضطّر في بعض الأحيان أن يستخدم أدوات هذه الأرض في دفاعه عن نفسه وعن ماله وعن عرضه، ولكن لا يكون ذلك سبباً في استخدام هذا العنف في غير محلّه، وخاصّةً في نشر الأفكار والمعارف والاتّجاهات والمعتقدات. يكون هذا الدّفاع دفاعاً عن الوجود، عن الحياة، عن البقاء، وليس لقهر ناسٍ آخرين يؤمنون بمعتقدٍ آخر، ولا لنشر عقيدةٍ في مجتمعاتٍ مختلفة لا تعتقد فيما يعتقد الإنسان.
ولذلك، نجد آياتٍ كثيرة وهي تأمر الإنسان بكيفيّة التعامل مع الآخرين الذين يختلفون معه في عقيدته، "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..."[العنكبوت 46]، وقد تحدّثنا كثيراً في معنى: بما هو أحسن أو بالتي هي أحسن. ما هو أحسن، هو أمرٌ واقعيّ وليس أمراً ظنّيّاً ولا خياليّاً ولا غيبيّاً. وحين نقرأ آيةً أخرى نعرف ما هو الأحسن، " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ..."[آل عمران 64]، والأحسن هنا، هو ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
فمعنى عبادة الله ليست أن تصلّي بشكلٍ معيّن، ولا أن تصوم بشكلٍ معيّن، "... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ..."[المائدة 48]، إنّما عبادة الله ـ كما نتدبّر دائماً ـ هي في أن تُعمِل أدوات الله الذي أوجد على هذه الأرض وأسباب وجودها، ومن هذه الأسباب أن تصلّي، وأن تصوم، وأن تزكّي، وأن تحجّ، وأن تذكر، وأن تفعل أشياءً كثيرة وضّحها لك الحقّ ووضّح مقاصدها.
"... وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ..."، فحين تقدّس كلام إنسانٍ ومفهوم إنسانٍ في السّابق أو في الحاضر وتلغي عقلك، وتلغي ما تشاهده على أرض الواقع، فإنّك بذلك تكون قد اتّخذت ربّاً من دون الله؛ لأنّ معنى الربوبيّة لله، هي أن تُعلِيه عن أيّ رأيٍ قام وقاله إنسانٌ، إنّما هو أكبر، الله أكبر، وعليك أن تُعمِل عقلك، وأن تُعمِل ما أمرك به من التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر.
ومن معنى العقل الجمعيّ الذي طالما خوطبنا به في آياتٍ كثيرة، "... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3]، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ..."ُ[آل عمران 104]، فالمجتمع وأفراده عليهم أن يتواصوا بينهم، وأن يتواصلوا بينهم، وأن يبحثوا عمّا ينفعهم ـ وهذا معنى من معاني: [لا تُجمِع أمّتي على ضلال](1)، فالآيات التي تدعو إلى الدّعوة بالخير، وبالحكمة، وبالموعظة الحسنة، وبالتي هي أحسن، وإلى الكلمة السواء ـ  هي التي تجعل الخير ينتشر.
والخير هو الدين، هو القانون، هو الواقع الأفضل، هو الحال الأحسن، هو المجتمع الذي يتواصى فيه أفراده ويرجون أن يكونوا في حالٍ من السلام ومن الحياة الحسنة الكريمة التي يكون فيها الجميع متواصين متواصلين متكاتفين متكفّلين ببعضهم البعض، يأخذون بيد الضّعيف ويعطون الفقير، ويطبّبون المريض، ويقيمون العدل، ويكونون في أفضل حالٍ وأحسن قيام ـ هذا هو الحال الدائم والأسلوب الدائم، أمّا أسلوب القتال فهو أسلوبٌ وقتيّ له ضوابطه التي لا يجب أن يُتوسَّع فيها.
لذلك، نرى في موقعة بدر رسالةً لنا، في متى نلجأ إلى قتالٍ. وواضحٌ بجلاء أنّه في هذه الغزوة بالذّات كان المسلمون الذين تابعوا رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يعيشون في المدينة وهم قلّة، لا يريدون أن يعتدوا على أحدٍ، ولا يريدون أن يقاتلوا أحداً، إنّما هم يجتمعون ليقيموا دولةً ومجتمعاً صالحاً، كما أشرنا إليه.
كانوا في هذا المجتمع، لا يفرّقون بينهم وبين من يعتقد في دينٍ آخر، بل أنّهم اتّفقوا على وثيقةٍ تنظّم أحوال المجتمع بصورةٍ لا فرق فيها بين مسلمٍ ويهوديّ أو إذا كان هناك أيّ مسيحيّ، كلٌّ يعتقد ما يعتقده.
أما فيما هو يخصّ هذه الأرض وإدارتها، فكلٌّ له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، تجمّعٌ بصورةٍ مدنيّةٍ ـ إذا جاز لنا أن نعبّر عنها بهذا اللفظ الذي يُستَخدم حاليّاً ـ  لا تفريق بين أفراد المجتمع، بين مسلمٍ أو غير مسلمٍ، وكان هذا رمزٌ ونموذجٌ لما يجب أن يكون عليه المجتمع.
هذا المجتمع يتعرّض لهجومٍ، لا يريدون لهذا المجتمع أن يقوم، ماذا يفعل هؤلاء؟ إنهم ليس أمامهم إلّا أن يحاربوا وأن يدافعوا عن مجتمعهم وعن دولتهم الوليدة، التي يريدون بها أن يقدّموا نموذجاً للبشريّة بعد ذلك في معنى الخير والصلاح والفلاح، في معنى ما يجب أن يكون عليه المجتمع، فهي رسالةٌ في واقع الأمر.
هذا المجتمع في نشأته، هو الرسالة التي يجب أن نقرأها في مجتمعاتنا الآن. هل نحن في هذا المجتمع؟ هل نحن نطبّق ما كان فيه من صورةٍ مثاليّةٍ ـ إلى حدٍّ كبير ـ فيما يجب أن يكون عليه أفراده في تعاملهم وفي إدارة شئون حياتهم؟
قد يعترض البعض على ذلك، ويقولون أنّ هذه كانت مرحلةٌ مؤقتة، وأنّ المجتمع المسلم والدّولة المسلمة هي ما كان بعد فتح مكّة، وما كان فيها من أمورٍ يلتبس على البعض فهمها إلى الآن.
يظنّون أنّ الحال الدائم هو أن تنفّذ الأمر الذي جاء في الآية: "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ..."[البقرة 191]، والذي فعله المسلمون بعد ذلك تنفيذاً لهذا الأمر بألّا يجعلوا في مكّة أو المدينة أيّ مخالفٍ لدينهم، وهذا أمرٌ وقتيّ وليس الأمر الدائم، فهذا لا يمكن أن يحدث على مستوى البشريّة كلّها، إنّما هو أمرٌ له ظروفه وله محدوديّته وله زمانه وله مكانه.
إنّما أنت لا تستطيع اليوم أن تدعو النّاس جميعاً في كل بقاع الأرض إلى مجتمعٍ يقوم أفراده المسلمون بطرد كلّ من يخالفهم في الرأي ليخرجوا خارج الدّيار، لا يمكن أن يحدث ذلك، ولا يمكن أن يستقيم ذلك، وشيءٌ لا يُعقل من أيّ عاقلٍ على هذه الأرض.
فالصورة التي أعطاها الإسلام للمجتمع، هي صورة المجتمع المدنيّ قبل فتح مكّة، هذا المجتمع الذي عاش الجميع فيه في سلامٍ، وأُديرَت فيه شئون البلاد بعدلٍ واستقامةٍ وخيرٍ للجميع. لذلك، فنحن نجد حتّى في الفتوحات الأولى للمسلمين لبلادٍ خارج الجزيرة العربيّة، أنّهم أبقوا كلّ إنسانٍ على دينه الذي يدين به، ولم يُرغِموا أحداً على أن يغيّر دينه.
وفي مصر، ظلّت مصر قروناً عديدة، الأغلبيّة فيها للدّين المسيحيّ أو للذين يدينون بالدّين المسيحيّ، ولم يكرههم أحدٌ على أن يغيّروا دينهم. فإذاً، فقد فهم السّابقون ذلك، وعلموا أنّ قضية المدينة ومكّة في أوائل السّنوات ما بعد الفتح كانت لها ظروفها التي تُحتِّم أن يفعلوا ذلك.
ولذلك، يجب أن نميّز دائماً بين المؤقّت والدائم، فالمؤقّت هو القتال، والدائم هو السّلام، هو الدّعوة، هو التآلف مع الإنسان أيّاً كان، بأيّ دينٍ يدين، وبأيّ معتقدٍ يعتقد؛ لأنّ هذه طبيعة الأشياء "... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[المائدة 148]، ولكنّه جعلكم "... شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ..."[الحجرات 13]، وجعلكم تختلفون.
ولولا هذا الاختلاف ما قامت هذه الأرض، فالاختلاف قانونٌ من قوانين الحياة. وكلّ إنسانٍ له ما يميّزه، وهذا شيءٌ مطلوب. لو كان النّاس جميعاً لهم نفس الملكات ونفس الامكانات ونفس القدرات، لَما استطاع مجتمعٌ أن يقوم؛ لأنّ دائماً نحن نحتاج إلى قدراتٍ مختلفة وأعمالٍ مختلفة.
هكذا نتعلّم في حياتنا ومن رسالة الدّين لنا، وعلينا أن نتفهّم ذلك وأن نحرص على ذلك، وأن نفهم دائماً أن رسالة السّماء أعطتنا نماذج كثيرة في حياة الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وأن نقرأ هذه الرّسائل ونحاول أن ننفّذها في حياتنا وفي طريقنا.
نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أنّنا حين نتذكّر موقعة بدر، فإنّنا نقرأ فيها ما يجب على المجتمع أن يفعله إذا تعرّض لحربٍ أو لغزوٍ أو لمن يريد أن يقضي عليه وأن يقاتله، وأنّ هذا الأمر هو أمرٌ مؤقّتٌ وليس أمراً دائماً، له ظروفه وله محاذيره.
وأنّ المجتمع الذي كان في المدينة في ذلك الوقت كان مجتمعاً يمثّل ما يجب أن يكون عليه المجتمع اليوم في أيّ مكانٍ على هذه الأرض، مجتمعٌ يعمل فيه النّاس وأفراد المجتمع جميعاً بصورةٍ متساوية، لهم نفس الحقوق ونفس الواجبات، يعيشون في أمانٍ وفي سلامٍ ويحاولون أن يقيموا العدل، وأن يكون المجتمع مجتمعاً فيه تكافلٌ وفيه تعاونٌ وفيه كلّ شيءٍ يأخذ بيد كلّ فردٍ فيه إلى حياةٍ فاضلة.
هذا المجتمع تعرّض لهجمةٍ شرسة من المجتمع المحيط به، فدافع أفراده عن وجودهم وعن كيانهم، لم يقوموا في دفاعهم بأن ينشروا دعوتهم أو ينشروا فلسفتهم في الحياة، وإنّما هم كانوا يدافعون عن وجودهم، عن حياتهم، عن بقائهم، عن أن يظلّوا يقولون كلمتهم، وهذا هو المبرّر الوحيد لأن يحمل الإنسان سلاحاً.
أمّا في حال مجتمعاتنا الحاضرة، فإنّه يتوفّر للمجتمعات ما يُمَكِّنها من أن تقدّم رسالتها، ولا يمكن أن يتعرّض أيّ مجتمعٍ اليوم لإبادةٍ كاملة، وفي هذه الحالة التي قد يتعرّض لها، فإنّه يجب أن يقوم بالدّفاع عن نفسه .
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من الذين يقرأون رسائل الله لهم، وأن نتعلّمها، وأن نتفهّمها، وأن نقومها، وأن نتعامل معها، وأن نتفاعل معها ـ حتّى نكون مجتمعاً صالحاً، ومجتمعاً نافعاً، ومجتمعاً متكافلاً، ومجتمعاً متعاوناً.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا واغفر لنا واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.        ___________________________

(1) "إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ، و يد الله على الجماعة" الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1848 خلاصة حكم المحدث: صحيح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق