الجمعة، 31 مارس 2017

الإنسان عليه نفسه أوّلاً، لأنّ كلّ إنسانٍ هو مسئولٌ عن قراره وعن حياته وعن تصرفاته.

حديث الجمعة
11 جمادى الثاني 1438 هـ الموافق 10 مارس 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقّ لكم، يعلّمكم ويرشدكم، ويحفّز فيكم معنى الإنسان، ويدعوكم إلى أن تذكروا الله بقلوبكم وبجوارحكم وفي كلّ حالٍ من أحوالكم، وأن تتفكّروا في آلاء الله في أرضكم وسمائكم، وتصلوا إلى نتيجةٍ لتفكّركم وتدبّركم وذكركم، نتيجةٌ ترضونها وتقبلونها، أنّ حياتكم ليست هباءً، وأن خلقكم ليس باطلاً.
خلّفكم الله على أرضكم، وجعلكم مسئولين، [كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئولٌ عن رعيته](2)، وعلّمكم أنّ ماتجنونه وما تحصلون عليه يعتمد على نيّاتكم، [نيّة المرء خيرٌ من عمله](2)، وأنّ ما ستحصلون عليه من كسبٍ يتناسب مع أعمالكم التي سبقتها نيّاتكم، "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..."[التوبة 105]، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7].
والذي يجعل عملكم خيراً أو شرّاً هي نيّاتكم وأنتم تقومون بهذا العمل، ومن هنا تصبح مسئوليّة الإنسان أمراً أساسيّاً في وجود الإنسان وعمله، ولا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عن هذه المسئوليّة، فيقول أنّي قيل لي ذلك. وكذلك علّمتنا الآيات هذا المعنى، "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ..."[البقرة 167]، ويوم يتبرّأ الشّيطان من الذين اتّبعوه فيقول لهم "...مَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..."[إبراهيم 22].
حتّى في قراءتك لآيات الله، أنت مسئولٌ عن الفهم الذي تصل إليه، ولا تستطيع أن تحاجي بأنّ الله قال كذا وكذا؛ لأنّ فهمك هو الذي يؤدّي إلى نيّتك وهو الذي يؤدّي إلى عملك. فإذا كان عملك يؤدّي إلى إيذاء غيرك بغير حقّ، فإنّك الذي تتحمّل هذه المسئوليّة، "...مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..."[المائدة 32].
لذلك، عافى الله الإنسان من أن يحدّد أموراً تخصّ الآخرين وجعل هذا الأمر مسئوليّة المجتمع، فالقصاص مسئوليّة وليّ الأمر أو الحاكم أو القضاء أو المجموع ـ كمجتمع يضع نظاماً لذلك ـ فلا يستطيع أحدٌ أن يقرّر بمفرده هذا، فإذا اتّخذ هو هذا القرار فهذا قراره ويتحمّل تبعاته؛ لأنّه قد يخطيء في الحكم وينفّذ ويقتل إنساناً بغير الحقّ. فالذين يستسهلون أن يقتلوا وأن يدمّروا وأن يعتدوا بآراءٍ منفردة، يتحمّلون هذه المسئوليّة، وفي كلّ أمرٍ كذلك.
لذلك، فإنّ الإنسان عليه نفسه أوّلاً، "...فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا..."[يونس 108]، "...عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ..."[المائدة 105]؛ لأنّ كلّ إنسانٍ هو مسئولٌ عن قراره، ومسئولٌ عن حياته، ومسئولٌ عن تصرفاته.
لا مانع من أن يعبّر كلّ إنسانٍ عمّا يعتقد أنّه الأفضل، ولكن بمعنى التّواصي وبمعنى التّراحم وبمعنى أنّه بذلك يؤدّي شهادةً، ويقبل شهادة الآخرين، فربما يقولون له شيئاً عن سلوكه، وعن حاله، وعن قيامه ـ فلا يضع نفسه في موضع الأعلى الذي يفرض الآراء ويسنّ القوانين بدون أن يكون له أيّ حجيّة في ذلك إلّا فهمه الذي ربّما قد يكون قاصراً، فليرحم نفسه من أن يضع نفسه كذلك.
ولذلك، كان معنى التّواضع هو أساس المعاملة، [من تواضع لله رفعه](3)، "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..."[الإسراء 24]، هكذا نتعلّم كيف يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، هادياً نفسه، مستعيناً بالله على نفسه، ذاكراً، متفكّراً، متدبّراً، مقدّراً وجوده، مقدّراً قيامه.
هكذا يكون الإنسان في معنى عبوديّةٍ لله؛ لأنّه يتعلّم قوانين الحياة، ويتعلّم أنّ من قوانين الحياة الاختلاف والتّباين في القدرة، وفي الصّفة، وفي العلم، وفي الذّكر، وفي التفكّر، وفي التدبّر، وفي الرّؤية، وفي الهدف، وفي الإسلوب، وفي السّلوك، في كلّ شيء ـ كلٌّ له طريقه، وكلٌّ له فهمه، وكلٌّ له قدرته، فليحترم كلٌّ الآخر في كلّ أمرٍ من أمور حياته.
والاحترام لا يعني القبول بمفهوم الآخر، وإنّما يعني أنّك تعرف أنّ هذه قدرته وأنّ هذا حاله، ربّما أنت ترفض ما وصل إليه من فهمٍ لآياتٍ بطريقةٍ ما، إنّما هذا لا يعني أنّك ترفض هذا الحقّ الذي أعطاه الله له كإنسان، إنّما ترفض يوم يخرج هذا عن نطاق وجوده كشخص إلى أنّه يريد أن يفرضه على الآخرين بالقوّة. فهنا الرّفض ليس لمفهوم إنسان ـ فهذا حقّه ـ وإنّما لأنّه خرج من حدود نفسه إلى محاولة الإعتداء على حقّ الآخر.
ولذلك، كان الإسلام يدعو إلى الخصوصيّة لكلّ إنسان، فلا يعتدي إنسانٌ على خصوصيّة إنسان، "...وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا..."[الحجرات 12]، فالإنسان في حدود وجوده، وفي حدود نفسه، وفي حدود بيته، لا يصحّ لإنسانٍ أن يتجسّس عليه ليعرف ماذا يفعل، فهذا ليس من حقّه. إنّما يبدأ حقّ المجتمع يوم يخرج الإنسان من ذاته ومن بيته إلى المجتمع، فهنا عليه أن يلتزم بحدوده ولا يعتدي على الآخرين.
هذه الأساسيّات التي قد تبدو واضحةً لكلّ إنسان، إلّا أنّ الكثيرين لا يحترمون هذه الأساسيّات، ويريدون أن ينصّبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين، بمفهومهم، وبقدراتهم، وبقوّتهم.
نسأل الله: أن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، وأن نكون في طريق الله سالكين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نوضّحه اليوم: هو كيف أنّ التّوجيه الإلهي للإنسان أن يذكر وأن يتفكّر ويتدبّر ويتأمّل في كلّ شيء، في آيات الله، في السماوات وفي الأرض، وفي كتاب الله، وفي أحداث الحياة.
وأنّه حين يقوم بفعلٍ فإنّه يكون مسئولاً عن هذا الفعل، ولا يأخذ شكلاً محدّداً دون أن يتأمّل فيه ويتعمّق فيه ويصل إلى قناعةٍ داخليّة، فيؤدّيه، دون أن يفعل ذلك بظنّ أنّه يتّبع ديناً، أو يستمع إلى آيات الله فينفّذ معنىً حرفيّاً رآه، وهو يتناقض مع آياتٍ أخرى، أو مع حالةٍ فطريّة يقوم بها أو قائمٌ فيها، ويقول أنّني أنفّذ أمر الله، دون أن يستوعبه ودون أن يتأمّله بعمق، خاصّةً إذا كان هذا الأمر له علاقة بآخرٍ سوف يقع عليه أذىً نتيجة هذا الفعل.
إنّها مسئوليّةٌ كبرى رفعها الله عن الإنسان، يوم علّمه أنّه في دعوته لا يدعو إلّا بالتي هي أحسن، "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..."[النحل 125]، وهنا المقصود ـ في مفهومنا ـ هو معنى التّواضع، [من تواضع لله رفعه](4)، ومعنى "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..."، بدون قهر، وبدون فرض، وبدون قوّة.
"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ..."[آل عمران 64]. هذا لا مانع فيه في تواصيك مع  الآخرين بهذا الشّكل.
إنّما أن تقتل أو تعتدي أو تفرض رأياً أو تفرض صورةً دون أن تفهم ما تفعله، فهي مسئوليّتك أنت، وفي كلّ الأحوال هي مسئوليّتك، فقد تختار ألّا تعظ أحداً وتكتفي بنفسك مثلاً، وهذا أيضاً اختيارك.
لذلك، فالإنسان قادرٌ على أن يختار. واختياره وتناسب هذا الاختيار مع الهدف منه والنيّة فيه، هوالذي يحدّد مقدار كسبه في الله من هذا الإختيار. فإذا كانت نيّته في الامتناع لأنّه فهم ونوى ورأى أنّ هذا الامتناع أفضل من أن يفرض رأيه، أو أن يقوله أو أن يدعو له حتّى دون فرضٍ ودون قوّة، فربّما يكون هذا أفضل، فنيّته هي الخير.
أما إذا كان يظنّ أنّ الخير في أن يفرض بالقوّة وأن يعتدي، فهنا الأمر يختلف؛ لأنّ النيّة هنا لا تعفي من نتيجة العمل؛ لأنّ العمل في هذه اللحظة أوقع أذىً على إنسانٍ آخر، فلا يكون الأمر في نفس حال الإمتناع والقيام بالسلب في إتيان الفعل، إلا إذا كان الإمتناع يؤدّي إلى ضررٍ على الآخر أيضاَ. فهنا تقديرك لهذا الأمر هو اختيارك ونيّتك فيه هي الأساس، وقد تشفع لك نيّتك بعلاقتك مع الله، ولكن لا يؤخذ هذا في الأرض يوم يُطبّق عليك قانون لأنّك آذيت إنساناً حتّى ولو كانت نيّتك نيّة خيرٍ وصلاحٍ وفلاح.
عباد الله: إنّنا حين نتعلّم ذلك، ونتعلّم معنى "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."[البقرة 30]، فنقدّر المسئوليّة التي حملناها والمسئوليّة التي كُلّفنا بها من أن نكون مفكّرين متدبّرين وأن نُعمِل ما أعطانا الله، فهذا هو التّطبيق الحقيقي لمعنى "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."،
أمّا الذي يفرّط فيما أعطاه الله، ويسلم نفسه لإنسانٍ آخر، دون وعيٍ ودون فهم، ويتخذ ربّاً من دون الله، فهو بذلك يكون مسئولاً عن ذلك، ومسئولاً عن كلّ ما ينتجه ذلك من آثارٍ سلبية.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذّاكرين، المتفكّرين، المتدبّرين، الذين يدعون إلى ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة، و"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191].
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.     

____________________

(1)    جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏"‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

(2)    حديث شريف نصه : " نية المؤمن خير من عمله " أخرجه الطبراني (الجامع الصغير للسيوطي ج 2 صـ 188) .

(3)    ، (4) حديث شريف نصه: " من تواضع لله رفعه الله" الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق