حديث الجمعة
18 جمادى الثاني
1438 هـ الموافق 17 مارس 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نتّجه
إلى الله، ونستعين بالله، وندعو الله أن يكون جمعنا وحديثنا فيما ينفع النّاس،
وفيما يساعدهم أن يخرجوا من الظّلام إلى النّور، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن
الباطل إلى الحقّ، ومن الموت إلى الحياة.
لا
يكون ذلك إلّا بفضل الله، وبرحمة الله، وبتوفيق الله. الله الذي ليس كمثله شيء،
وهو وراء كلّ شيء، وأمام كلّ شيء، وفوق كلّ شيء، ودون كلّ شيء، والظّاهر في كلّ
شيء، والباطن في كلّ شيء ـ تجلّى لنا فيما نراه أمامنا وفيما نراه في داخلنا، وأمرنا
أن نتّجه إلى داخلنا "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[الذاريات 21]، وأن نتّجه إلى خارجنا "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت
20].
ما
جاءت الأديان إلّا لتعلّمنا ذلك، تعلّمنا أن نُعمِل ما أعطانا الله، وهذا هو التّعليم
في كلّ صُوَرِه. فالمعلّم حين يعلّم المريد أو يعلّم الطّالب، يعلّمه كيف يُعمِل
عقله، وهذا هو التّعليم الحقيقيّ. حتّى وهو يلقّنه ـ إن كان هناك تلقين ـ فإنّه لن
يستطيع أن يحفظ ما يتلقّاه إلّا بقدرته على ذلك، بل أنّه لن يستطيع أن يحفظ ما تلقّاه
إلّا إذا فهمه ولو بقدرٍ بسيط.
وحين
يتعلّم الإنسان كيف يصنع صنعةً أو أن يمتلك مهارةً، فإنّ ذلك لا يكون إلّا بأن
يجعل المعلّمُ المتعلّمَ يكتشف قدرته. لذلك، إذا لم يكن عند الإنسان استعدادٌ لتلقّي
مهارةٍ أو علمٍ محدّدٍ، فإنّ التّعلم لن يسفر عن شيء. ما نريد أن نقوله أنّه إذا
كان هناك من يُعلّم وعنده العلم، فإنّ ذلك يجب أن يقابله شيئٌ عند المتعلّم حتّى
يحدث التّغيير.
وما
كانت الرّسالات السّماوية وما كان الدّين إلّا تعليماً للإنسان، وهناك في الإنسان
ما يتقبّل هذا العلم، وهذا ما نطلق عليه في بعض الأحيان فطرة الإنسان، أو حسّ
الإنسان ـ فكما نشرح دائماً ـ إنّ أيّ فعلٍ يصدر عن الإنسان هو مسئوليّته، [كلّكم
راعٍ، وكلّكم مسئولٌ عن رعيّته](1).
لذلك،
فلا يمكن أن تنسب أيّ عملٍ إلّا لك، ولا يمكن أن تنسب أيّ قولٍ إلّا لك. في واقع
الأمر إنّك حين تردّد آيةً حفظتها أو حديثاً تذكّرته، فحين تردّده يصبح قولك؛ لأنّك
تردّده في الإطار وفي السّياق الذي تريد أن تدلّل به عن رأيك، فهو مفهومٌ لك في
واقع الأمر.
لذلك،
فإنّ من الشّائع الذي فيه جهلٌ، هو تصوُّر أنّ إذا ردّدت آيةً فإنّك تعتقد أنّك
تردّد قول الله، وأنّك تعرف ما يريد الله وتعرف ما وراء هذه الآية، وتظنّ أنّ الكلّ
سوف يفهم ما تفهمه أنت، وهذا ليس صحيحاً. فأنت حين تردّد آيةً فأنت لا تتكلّم باسم
الله، وأنت حين تردّد آيةً فعليك ألّا تتوقع أنّ المفهوم الذي تفهمه أنت سوف يفهمه
النّاس جميعاً كما تفهمه.
لذلك،
فإنّ تصوُّر أنّ الدّين هو شيءٌ معروف، بمعنى أنّ مقصد الله في مفهومك للدّين؛ لأنّ
البعض يعتقد أنّ الدّين هو ما يقصده الله أو ما يريده الله، فتصوُّرك أنّك تعرف
ذلك، وهذا تصوُّرٌ خاطيءٌ ـ فهذا يقودنا أنّنا لا نستطيع أن نضع لائحةً أو قانوناً
أو قواعد ونقول أنّ هذا هو الدّين.
سوف
يتساءل البعض: إنّ ذلك يغيّر مفهموم الدّين كما فهمناه وكما اعتقدناه. وأقول أنّه ربّما
يكون ذلك حقّاً؛ لأنّ ما فهمناه واعتقدناه هو أمرٌ لا يتوافق مع الواقع. الواقع
يحمّلنا المسئوليّة، بل أنّنا نفهم من إشارات الدّين أنّه حمّلنا المسئوليّة،
فالأمانة هي مسئوليّة، "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"[الأحزاب 72].
قبل
أن يحمل هذه الأمانة "...كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، وبعد أن حمل
هذه الأمانة أصبح عادلاً منيرا، أو عنده الصّلاحيّة ليكون كذلك، بمعنى أدقّ. فهو
قد حمل الأمانة وهو ظلومٌ جهول، فإذا لم يعرف كيف يُفعِّل الأمانة فيه، سيظلّ "...ظَلُومًا
جَهُولًا"، وإذا عرف كيف يُفعِّل الأمانة فيه، فإنّه سوف يصبح عادلاً منيرا،
وعادلاً عالماً.
وهذا
ما أدّى بنا في أحاديث كثيرة أن نقول أنّ الدّين هو منهجٌ وليس شكلاً وليس صورةً،
وإنّ الأوامر وإن كانت قد حملت أشكالاً إلّا أنّ الأشكال تحمل وسائل للإنسان، ليساعد
بها وجوده ليكون أفضل وأحسن. وهذا ما أدّى بنا في كثيرٍ من الأحيان أن نتحدّث عن
معاني العبادات ومقاصدها والمطلوب منها، كيف نُفعِّلها وكيف نستعملها لتغيّرنا. وهذا
ما نفهمه من الحديث: [من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](2).
إلّا
أنّ المفهوم السّائد والشّائع أنّه قد حوّل الصّلاة إلى شكلٍ وصورة، وأصبح الإنسان
مستريح الضمير بينه وبين نفسه بمفهومه الظّاهرىّ الشّكليّ السّطحيّ، إن كان يؤدّيها
وهو لا يعرف شيئاً عنها ولا يشعر بأيّ شيءٍ فيها، وإنّما هو ملتزم.
وتحوُّل
الإنسان لهذه الصّورة يصبح عائقاً بينه وبين أن يتفهّم معناها، فهو قد رأى في انتظامه
الشّكليّ الحرفيّ ـ الهدف والمقصود. ولم يعلم أنّ عليه أن ينتظم ولكن في كلّ لحظةٍ
يقوم فيها يتفكّر في معانيها ويسأل ربّه أن يلهمه ما يجعله يقيمها حقّاً، "رَبِّ
اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ..."[إبراهيم 40]، وهنا معنى الإقامة يعني أنّك تُفعِّلها، وأنّك تكسب منها، وأنّها لها
أثرٌ في تغييرك.
فالإنسان
على مستواه كفرد، كلّما جاء به الدّين في ظاهر فعلٍ أو قول أن يفعله وأن يقوله، إنّما
هو لمساعدته على أن يكون مغيّراً لظلام نفسه ولجهله ولظلمه ـ إلى أن يكون في معنى
المعرفة والاستقامة والنّور.
وإقامة
الصّلاة كمثل، تقع تحت معنى "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..."[آل عمران 191]. فالذّكر على وجه العموم يتبعه تأمّل في دلالته وفي فهم
مقاصده.
وهذا
هو المطلوب من الإنسان، أن يأخذ أيّ أمرٍ ليفكّر كيف يُفعِّله في داخله، ومن ثمّ
يصبح الإنسان مغيّراً لنفسه، وهذا معنى "...إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."[الرعد 11]. إنّنا نأخذ التّغيير في بعض الأحيان على أنّك تفعل كذا وكذا فلا تفعل كذا
كذا، هذا ظاهر أمر يمكن أن يُفهم، ولكن التّغيير الحقيقيّ هو في تقبّل المعاني وتفعيلها في داخلك
بالتّفكر والتّأمّل فيها، لتصبح جزءاً من وجودك فتغيّرك تغييراً كاملاً.
إن
التغيير ليس هو شكلاً سطحياً، إنّك تفعل كذا فلا تفعل كذا، هذا أبسط الأمور، وهو
لن يتحقّق إلّا إذا كان عندك فهمٌ عميقٌ لما تفعله ولما لا تفعله. لذلك، فنحن نجد
في حياتنا اليوميّة الكثير من الأشياء التي نقوم بها ونقول أنّنا نريد أن نغيّرها
ولا نغيّرها؛ لأنّها لن تتغيّر بمجرّد أن نقول أنّنا نريد أن نغيّرها، ولكنّها قد
تتغيّر إذا فهمنا لماذا نريد أن نغيّرها، ولنقنع داخلنا؛ لأنّنا نريد أن نغيّرها.
فإذا لم نغيّرها بعد ذلك، فربّما تكون أنّها لا تحتاج التّغيير.
لذلك،
حين نرى في معنى الحديث: [لا يقوم الإنسان بذنبٍ ـ أياً كان هذا الذنب ـ وهو
مؤمن](3)، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنّه لا يؤمن في داخله بحقّ أنّ
هذا الفعل سوف يؤثّر عليه سلباً؛ لأنّه لو آمن بحقّ أن هذا الفعل سوف يؤثّر عليه
سلباً، فإنّه بالطّبيعي أن وجوده لن يقبل بأن يقوم بهذا الفعل.
لذلك،
فعلينا أن نتعلّم كيف نتدبّر ونتفكّر في كلّ كلمةٍ وفي كلّ حرفٍ وفي كلّ فعلٍ وفي
كلّ آية، في كلّ أمرٍ وفي كلّ نهي؛ لأنّك لن تستطيع أن تكون قائماً في معنى الإيمان
بها، إلّا يوم أن تتخلّلك وأن تصبح أنت قائماً في معناها.
عباد الله: نقول ذلك، مجيبين ورادّين لما هو شائعٌ بيننا
من ترديدٍ بأنّ الدّين هو كذا وكذا؛ لأنّ الدّين في مفهومنا هو أعمق من ذلك، هو
الحياة، هو قانونها، هو الإنسان وقدراته وتفعيل هذه القدرات.
علينا
أن ندرك ذلك بحقّ، وأن نذكر وأن نتفكّر ونتدبّر وأن نعمل بعد ذلك عملاً صالحاً، نرى
فيه إصلاح الدّنيا، وإصلاح الإنسان الذي سوف يؤدّي بالضرورة إلى إصلاح الآخرة؛ لأنّك
يوم تقوم بعملٍ صالح على هذه الأرض إنّما هو
ليجعلك صالحاً في حياتك المستمرّة والباقية.
وكلّ
حياة الإنسان على هذه الأرض هي تدريبٌ وجهاد لحياةٍ قادمة، فإن لم يدرك الإنسان ذلك
ويتفهّمه، فلن يكون هناك معنى لآخرة، ولا معنى لدنيا، ولا معنى لحياة. وإذا كان
هذا هو الحال، فإنّه لا معنى لوجوده أصلاً.
فإذا
اعتقد ذلك، فكيف يكون من الذين يتّجهون إلى ربهم ويقولون: "...رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"[آل عمران 191]، إنّه لا يمكن أن يكون كذلك إلّا إذا قام في مراحل الذّكر
والتفكّر والتدبّر في كلّ خلق الله، ليصل إلى معنى وجوده، وإلى تقدير وجوده، وإلى
احترام وجوده، فيحترم حاله، ويحترم حياته، ويحترم عطاء الله له، فيصبح عبداً لله
صالحاً، وعبداً لله صادقاً.
عباد
الله: نسأل الله: أن
يحقّق لنا لك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً
لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
____________________
الحمد
لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
ما
أردنا أن نقوله اليوم: هو ما نفهمه في معنى الدّين لنا، فنحن نرى الدّين منهجاً
لحياتنا، لاستخدام قدراتنا وعقولنا وقلوبنا، ولاستقبال تعاليم الحقّ لنا بقلوبٍ
طاهرة وعقولٍ متفتّحة، تأخذ هذا الحديث وهذه التّعاليم لتتفهّمها ولتُفعِّلها، لا
لأن تقلّدها أو تتّبع شكلاً أو صورة، وإنّما تتفهّم أنّ كلّ هذه الآيات والأحاديث
جاءت لتجعل الإنسان إنساناً.
ومعنى
أن يكون الإنسان إنساناً هو أن يكون عبداً لله. ومعنى العبوديّة لله هو كيف تتعامل
مع قوانين الحياة. ولتتعامل مع قوانين الحياة عليك أن تذكر وتتفكّر وتتدبّر. وهذا
هو المطلوب. المطلوب بناء الإنسان ليصبح عبداً لله، حمل الأمانة وفَعَّل هذه الأمانة،
ليغيّر وجوده الذي "...كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"، ليكون منيراً
عالماً. هذا هو المطلوب من الإنسان.
ونحن
قد ركّزنا في هذا الحديث على ما هو مطلوبٌ من الإنسان، ولم نتطرّق إلى الشقّ الآخر
وهو ما هو مطلوبٌ من الجماعة، وقد تحدّثنا في ذلك كثيراً. إنّما نتحدّث اليوم عمّا
هو مطلوبٌ من الإنسان ليكون إنساناً، مركّزين على هذا المعنى؛ لأنّه البداية الحقيقيّة
لأيّ إنسانٍ يريد أن يسلك طريق الله.
نسأل
الله: أن نكون قد وُفِّقنا، وأن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن نكون من الذين
يرجعون إلى الحقّ إن وجدوه، وأن يرجعوا إلى الأفضل إن عرفوه، وأن يعلموا ويتعلّموا
دائماً بأن يذكروا وأن ويتأمّلوا ويتدبّروا ليقدّروا معنى وجودهم، ومعنى الوجود كلّه؛
لأنّه بدون ذلك لن يقدّروا وجودهم، ولن يقدّروا قيمة هذا الوجود.
نريد
أن نصل بذكرنا وبتفكّرنا وتدبّرنا أن نقول: "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا
بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، أن نقولها حقّاً، وأن
ندعو بها حقّاً، وأن نقوم فيها حقّاً، "...رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
____________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق