حديث الجمعة
3 رجب 1438هـ الموافق 31 مارس 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشيطان الرجيم،
نعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، طالبين سائلين أن نكون أهلاً لهدايةٍ،
ولتوفيقٍ، ولرحمةٍ، ولنورٍ ينير ظلام نفوسنا، وحياةٍ تحيي قلوبنا، وعلمٍ ومعرفةٍ
يحييان عقولنا.
عباد الله: يمرّ علينا الزّمان وتدور الأيّام
وتتوالى الشّهور، ويأتي ديننا بمعانٍ في زماننا ترتبط بأيامنا، لتكون رسائله دائمةً
في حياتنا. ونحن نبدأ في زماننا شهر رجب، شهر الله، شهر الرجاء، شهر المعراج، شهر
الإسراء، شهر بداية تحضير النّفوس والقلوب والعقول لتلقّي النّفحات وتلقّي الرّحمات.
إنّ الإنسان إذا نسى أن يقرأ رسائل الله له في كلّ
مناسبةٍ وفي كلّ أمرٍ وفي كلّ نهيٍ، سوف يموت قلبه وتظلم نفسه ويقف عقله. لذلك،
فإنّ الإنسان يحتاج إلى تذكيرٍ دائم، وهذا سرّ رسائل الله المرتبطة بالزّمن. فحين
تجيئ مناسبةٌ في شهرٍ أو في يومٍ، فتَذَكَّر أنّها رسالةٌ دائمةٌ، تَفكّرْ وتَأمّلْ
فيها وتَدبّرْ في معانيها.
فحين نسمع حديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [رجب شهر الله، وشعبان شهري،
ورمضان شهر الناس](1)، فإنّنا نسأل أنفسنا: ماذا
يعني أنّ رجب شهر الله؟ وماذا يعني أنّ شعبان شهر رسول الله؟ وماذا يعني أنّ رمضان
شهر النّاس؟
فلنتأمّل اليوم في معنى رجب شهر الله، ماذا يعني هذا؟
بدايةً، نحن نقول دائماً أنّنا لا نجسّد المكان والزّمان، وليس المقصود هو هذا الشّهر
من دورة القمر حول الأرض، وإنّما هو تذكيرٌ بمعنى مرتبطٌ بالزمن، حتّى إذا جاء هذا
الشّهر من كلّ عام، نتذكّر هذا المعنى، والذي يمكن أن نتذكّره في كلّ وقتٍ وحين
إذا جال بخاطرنا هذا.
إنّ الإنسان له علاقةٌ مباشرةٌ بالغيب، "...
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ..."[غافر 60]، [من جاءني مشياً جئته
هرولةً، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ
خيرٌ من ملئه](2)، وهناك علاقةٌ بالله من خلال
رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، وهناك علاقةً بالله من خلال خلق الله، ولا
يتعارض هذا مع ذاك. فحين نبتغي إليه الوسيلة، لا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نتّجه
إليه أو نتوكّل عليه أو نسأله وندعوه.
يحدث
نقاشٌ وجدلٌ بين البعض في معنى الوسيلة وفي معنى الشّفاعة، كأنّهما ضدّ علاقة
الإنسان بالله المباشرة. فيقول البعض أنّ العلاقة مع الله دون وساطةٍ ودون شفاعةٍ
ودون وسيلةٍ، ويقول البعض الآخر أنّ العلاقة بالله يجب أن تكون من خلال شفاعةٍ ومن
خلال وسيلةٍ.
والحقيقة أنّه لا هذا ولا ذاك بمفرده، إنّما علاقة
الإنسان بالله تتمّ بصورٍ متعدّدة، يلجأ الإنسان للغيب، ويلجأ الإنسان لرسول الله،
ويلجأ الإنسان إلى خلق الله، وفي كلّ هذا هو لجوءٌ إلى الله.
فمعنى الذي نتعلّمه من أنّ رجب شهر الله، وهو يعبّر عن
لجوء الإنسان لله، أن يدعو الإنسان الله، أن يتّجه إلى الله، أن يقترب من الله،
واقترابه من الله فيه تفصيلٌ وفيه تأمّل. قد نفهم أن ندعو الله، بأن نطلب من الغيب
أن يساعدنا في حالٍ معنويّ أو في حالٍ دنيويّ.
ولكن معنى الاقتراب من الله يحتاج إلى تفهّم. قد يتصوّر
البعض أنّه نوعٌ آخر من دعاء الله، وقد يتصوّر البعض أنّه نوعٌ من العبادة والذكّر،
وقد يتصوّر البعض أنّه بعدٌ عن التّداني إلى الأرض وشهواتها، وهو في الواقع كل ذلك.
هو معنى ألّا يتثاقل الإنسان إلى الأرض، وعدم التّثاقل
إلى الأرض، هو إدراكٌ قبل أن يكون عملٌ. الإدراك لمعنى الإنسان، ولحياة الإنسان،
ولرسالة الإنسان على الأرض، ولإيمان الإنسان باليوم الآخر. أن يتعامل الإنسان مع
الله في كلّ شيء، أن يرى الإنسان الله في كلّ شيء، أن يقترب الإنسان من الله فيه،
كما يقترب من الله حوله، فهو محيط به من الداخل والخارج.
لذلك، فإنّ الصّوفية حين عبّروا عن ذلك بقولهم: [والله
ما طلعت شمسٌ ولا غربت ... إلّا وحبّك
مقرونٌ بأنفاسي](3)؛ لأنّه يستحضر الله معه،
ويستحضر الله وهو يجالس الناس، [ولا جلست إلى قومٍ أحدّثهم ... إلّا وأنت حديثي بين جلّاسي](4)، إنّه يرى الله في أنفاسه في
داخله، ويرى الله في كلّ ما هو خارجه، في كلّ من يجالسه، فحديثه في الله، [إلّا
وأنت حديثي بين جلّاسي](5)، هذا هو القرب إلى الله. لذلك،
فهو معنى قريبٌ جدّا من معنى ذكر الله. فذكر الله، هو استحضار معنى الله بالنّسبة
للإنسان كغيبٍ محيط، وكغيبٍ موجودٍ وقريب.
هكذا نتعلّم معنى أنّ رجب شهر الله، هو أن تعيش مع هذه
المعاني التي تربطك بالله والتي تُشعرك بالله، فتشعر به قريباً، أقرب إليك من حبل
الوريد، تشعر به معك أينما كنت، كغيبٍ، كطاقةٍ غيبيّة، كمعنىً لا صورة له. تراه في
عسرك وفي يسرك، تراه في ضيقك وفي فرجك، تراه في كلّ حالٍ من أحوالك.
تشعر به أنّه الملاذ الذي ليس لك غيره، وأنّه السّند
الذي ليس لك غيره، وأنّه المقصود الذي ليس لك غيره، وأنّه المطلوب الذي ليس لك
غيره، وأنّه من تدعو وتطلب وليس لك غيره. تشهد حقّاً أنّ لا إله إلا الله، وأنّ لا
حول ولا قوة إلّا بالله، وأنّ لا مغيث إلّا الله، وأنّك تفوّض أمرك إلى الله في كلّ
حالٍ وفي كلّ قيام.
عباد الله: لعلّنا نكون قد قرّبنا مفهوم
رجب شهر الله، وأن يكون تأمّلنا فيه شيءٌ من الحقيقة. فهذا تأمّلنا وتدبّرنا في
هذا المعنى، نراه متّسقاً مع ما دُعِينا إليه من أن تكون لنا صلةٌ بالغيب وأن نتّجه
إليه وأن نتوكّل عليه، وأنّ هذا لا يعني ألّا نكون على صلةٍ برسول الله وببيت الله،
وبأسباب الله وبالوسائل التي جعلها الله لنا لنتقرّب بها إليه ـ فهذا لا يتعارض مع
ذاك.
وإنّما هو حال إنسانٍ في علاقته مع الغيب، وعلاقة إنسانٍ
مع الله مشهوداً في خلقه ـ هي علاقةٌ واحدة لها صورٌ متعدّدة. وعلينا أن نحيا كلّ
هذه الصّور، وأن نعيش كلّ هذه الصّور، وأن نقوم في كلّ هذه الأحوال ـ لنكون حقّاً
في معنى العبوديّة لله.
نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
حديثنا اليوم كان عن تأمّلٍ في معنى أنّ رجب شهر الله،
وماذا يعني هذا بالنّسبة لنا؟ وتأمُّلنا في ذلك، أنّ علاقة الإنسان بالله لها صورٌ
كثيرة، ومن ضمن هذه الصّور هي استحضار معنى الغيب والتّوجه إلى هذا الغيب، ودليلنا
على ذلك: "... فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ..."[البقرة 186] ، "... وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"[ق 16]، "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
مَا كُنْتُمْ"[الحديد 4]، "... فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ ..."[البقرة 115]، "... وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"[الشورى 11]، "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"[غافر 19] ، هو المحيط بنا من الدّاخل
والخارج.
فحالنا في اللجوء إليه كغيبٍ هو حالٌ مطلوب، هو حالٌ
نكسب به فيه، هو حالٌ يجعلنا نشعر بهذا الغيب معنا، وهو حالٌ مطلوب، هو سلوكٌ
مطلوب، هو دعاءٌ مطلوب، هو ذكرٌ مطلوب لنتغيّر إلى الأفضل والأحسن، هو معنى: "أعبد
الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"(6)، هو هذا الإحساس بتواجد الله
معك، هو مقام الإحسان الذي تُحسِن فيه وجودك، تُحسِن فيه سلوكك، تُحسِن فيه ذكرك،
أن تكون أحسن، أن تكون أفضل، أن تكون أقوم ـ باستحضارك لهذا المعنى.
إنّ ظلم الإنسان لنفسه، هو يوم ينسى هذا المعنى. لذلك،
فنحن في حاجةٍ دائمةٍ إلى التّذكير بهذا المعنى، بهذه الصّحبة، بهذه الوصلة، بهذا
التّواجد، بهذا الشّعور، بهذا الذّكر، بهذا النّور، بهذه الحياة. نحن في حاجةٍ أن
نشعر بمعيّة الله وصحبة الله، "أنا جليس من ذكرني"(7).
عباد الله: نسأل الله: أن نجعل من أيامنا
القادمة في هذا الشّهر تدريباً لنا في معنى الصّحبة الدّائمة لله، وفي معنى الذّكر
الدّائم لله، وفي معنى استحضار هذا المعنى دائماً لنا وبيننا، لنكون حقّاً في معنى
العبوديّة لله.
نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاجعلنا لك خالصين، ولك داعين، ولوجهك قاصدين.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين ولوجهك قاصدين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم كن لنا في الصّغير والكبير من شأننا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين، ارحمنا يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
_________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق