حديث الجمعة
10 رجب 1438هـ الموافق 7 إبريل 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود
وجهه.
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متّصلاً نتواصى فيه
بالحقّ والصّبر بيننا، نتدبّر أمور ديننا وأمور دنيانا، فديننا ودنيانا هما حياتنا
وهما وجودنا.
أوجدنا الله على أرضنا، وأودع في قلوبنا محبّته ودعوته،
وأصبحنا بوجودنا قائمين في الحياة بشقّيها، شقّها الظّاهر لنا، وشقّها الباطن
علينا والغيب عنّا. ظاهرٌ وباطن، شهادةٌ وغيب، تثاقلٌ إلى أرضٍ وتلبيةٌ لدعوةٍ من
السّماء. وصرنا بوجودنا نجمع بين الأمرين، وبين الحالين، وبين الحضرتين.
وعلّمنا ديننا كيف نتعامل مع ما هو مشهودٌ لنا، وكيف
نتعامل مع ما هو غيبٌ علينا. علّمنا ديننا كيف نحيا على أرضنا، ونحيا بعد مفارقتنا
لأجسادنا. علّمنا معنى الحياة الذي هو سابقٌ لوجودنا، والذي هو حاضرٌ في وجودنا،
والذي هو قادمٌ في آخرتنا.
"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ..."[الأعراف 172]، ألست بخالقكم؟ ألست بموجدكم؟
فعلموا وأقرّوا، فأشهدهم على ذلك وقال لهم عليكم أن تتذكّروا ذلك، وألا تقولوا "...إِنَّا
كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"[الأعراف 172]، إعلموا وهذا العلم موجودٌ فيكم، في فطرتكم وفي أعماق
وجودكم.
فهكذا كان وجود الإنسان، كما يحمل رسالته على هذه الأرض،
بأن جعله الله يحبّ ما عليها ليعمل وليبحث وليغيّر ـ كذلك أوجد في أعماقه ما يجعله
يتّجه إلى ربّه، ويعرج إليه، ويقصد وجهه، ويسبّح اسمه، ويذكر ربّه. فكان الإنسان
بذلك يحمل سرّ حياته وبقائه، وسرّ موته وفنائه.
عباد الله: إنّا نذكّر أنفسنا دائماً بأنّ
الله "...قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..."[الرعد 33]، وقيوميّة الله على الإنسان
تعني أنّ الإنسان بهذه القيوميّة مسئولٌ، وهو مرجعيّة وجوده، فهو خليفة الله على
هذه الأرض، والأرض هي ذاته وكلّ ما هو مسئولٌ عنه، "... كلّكم راعٍ وكلّكم
مسئولٌ عن رعيته ..."(1).
لذلك، نذكّر أنفسنا دائماً، بأن نفتّش عن الحقّ في
أعماقنا، وننقّب عنه في وجودنا، ونتّجه إليه في نفوسنا، "...وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ"[الذاريات 21]، الحقّ هو ما ترى أنت أنّه
الحقّ، والخير هو ما ترى أنت أنّه الخير، والباطل ما ترى أنت أنّه الباطل، والشّرّ
ما ترى أنت أنّه الشّرّ.
فالحقّ المطلق لا تستطيع أن تحدّده، والباطل المطلق لا
تستطيع أن تحدّده، والخير المطلق لا تستطيع أن تحدّده، والشّرّ المطلق لا تستطيع
أن تحدّده. فماذا تفعل يا إنسان؟ إنّك
تريد أن تكون في طريق الحقّ ولا تكون في طريق الباطل، إنّك تريد أن تكون في طريق
الخير ولا تكون في طريق الشّرّ. فكيف تفرّق بين هذا وذاك؟
التّفرقة لك، والاعتقاد لك، والخيار لك، "...فَمَن
شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ..."[الكهف 29]؛ لأنّ المشيئة لك فيما هو عليك
أن تفعله وأن تقوم به. إنّك لا تستطيع أن تقول أنّني سوف أفعل ما يريده الله؛ لأنّك
لا تعلم ما يريد الله، "...تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ"[المائدة 116].
الله يعلم ما في نفسك، "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"[غافر 19]، يعلم أنّك رأيت هذا حقّاً فاتّبعته،
ويعلم أنّك رأيت هذا باطلاً فاجتنبته، ويعلم أنّك رأيت هذا حقّاً فاجتنبته، ويعلم
أنّك رأيت هذا باطلاً فاتّبعته. [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا](2).
"...وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ"[النحل 118]، كلّ هذه الآيات تُحمّل الإنسان مسئوليّته، "فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ"[الزلزلة 8،7]، والخير والشّرّ ـ كما أشرنا ـ هو ما عرفه الإنسان.
هكذا علّمنا ديننا كيف نتعامل مع ما هو مشهودٌ لنا، مع
ما نستطيع أن نحكم عليه، ما نستطيع أن نُكوّن رأياً فيه. وفي نفس الوقت، علّمنا
كيف نتعامل مع ما لا نستطيع أن نحيط به، ومع ما لا نستطيع أن نُكوّن رأياً فيه، ومع
ما لا نستطيع أن نفعله على هذه الأرض حتّى وإن كنّا قد وجدنا أنّنا نريد أن نغيّره
ولكنّنا وجدنا أيضاً أنّنا لا نستطيع أن نغيّره، وكنّا صادقين في هذا. ماذا نفعل
إن كان الأمر كذلك؟
علّمنا أن نتّجه إليه، وأن نتوكّل عليه، وأن نوكل ظهورنا
إليه، وأن نسلم وجوهنا إليه، وألّا يكون لنا ملجأٌ إلّا إليه، لا نسأل إلّاه، ولا
نتّجه إلّا إلى وجهه. علّمنا أن نقيم معه صلةً دائمة نتذكّرها في كلّ يومٍ من أيّامنا،
في كلّ صلاةٍ من صلواتنا، بل في كلّ فعلٍ من أفعالنا، بل في كلّ حركةٍ من حركاتنا،
بل في كلّ نظرةٍ من نظراتنا، في كلّ خطوةٍ نخطوها، في كلّ حالٍ نقوم فيه يمكن أن
نكون داعين له.
ودعوتنا هنا، هي أن يكون حاضراً معنا، شاهداً علينا،
ويكون ذلك بأن نراعي ما نراه حقّاً في كلّ أفعالنا وفي كلّ أقوالنا، وإذا غفلنا عن
ذلك نستغفره، نستغفره في كلّ وقتٍ وحين. هكذا نتعلّم كيف نتعامل مع الغيب.
لذلك، فإنّ كلّ العبادات التي أُمِرنا بها كشفاً لطريق
نجاتنا، كانت لإقامة صلةٍ بربّنا، ولإقامة صلةٍ برسولنا. فنحن ونحن نصلّي ندعو
الله أن نكون به موصولين، ونتّجه إلى قبلتنا التي هي سفينتنا، التي هي رحمة الله
لنا، التي هي رسول الله لنا، قوّةٌ أوجدها الله على أرضنا ورمز لها ببيته.
وما كان بيته حجارةً أو حديداً، إنّما بيته هو قوّةٌ
روحيّةٌ قائمةٌ على أرضنا، رمز لها بهذا البيت الذي وَضَع ببكّة مباركاً. فنحن
جميعاً ونحن نتّجه إلى هذا البيت، نعلم أنّنا لا نتّجه إلى حجارة وإنّما نتّجه إلى
معنى، الكلّ يدرك ذلك بفطرته.
وهذا المعنى، هو ما يرسل الله دائماً إلى هذه الأرض، ما
كان رسل الله إلّا هذا المعنى، وما كان أولياء الله إلّا هذا المعنى، وما كان عباد
الله الصّالحين إلّا هذا المعنى، فكيف نتصوّر ـ إذا تصوّر أحدنا أنّنا نتّجه إلى
حجارة أو حديد؟ وكيف يتصوّر أحدنا أنّ هذه المعاني التي أوجدها الله على أرضنا
يمكن أن تغيب ويمكن أن تزول؟
كيف يقول البعض أنّ رسول الله قد مات، بمعنى انتفاء صلته
بهذه الأرض؟ إنّه قد يكون قد غادر بجسده ولكنّه موجودٌ بطاقة الرّحمة التي أودعها
الله فيه، إنّك لا تتصوّر أن يزول بيت الله الموجود كرمزٍ في حجارة، لا تتصوّر أن
يجرؤ أحدٌ أن يُزيله. ومن هذا الذي يزيل معنى رسول الله، وقائم رسول الله، ونور
رسول الله؟ ورسول الله وهو يعلّمنا ذلك فيقول: "شعبان شهري"(3)، ليكون رمزاً على بقاء اتّصالنا
به في حياتنا، بتذكُّر هذا المعنى في كلّ شهر من شعبان يمرّ علينا.
ويعلّمنا ذلك أيضاً، وإن كان البعض يقول أنّ هذا حديثٌ
غير صحيح، إنّما معناه صحيحٌ بحقّ، [أنا حيٌّ في قبري](4)، [من حجّ ولم يزرنِ فقد
جفاني](5)، [زويت الأرض مسجداً وطهورا]ٍ(6)، "...وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ..."[الأنعام 122]، هذه معاني لا تزول، إنّها جزءٌ
من قانون الكون.
لذلك، فالذين يفرّقون بين الله ورسوله بأن يقولوا أنّنا
نتّجه إلى الله ولا نتّجه إلى رسوله، أو الذين يقولون أنّنا لا نتّجه إلى الله إلّا
من خلال رسوله، فكلاهما لا يدرك الأمر بحقّ. إنّك مطالبٌ أن تتّجه إلى الله كغيب،
ومطالبٌ أن تتّجه إلى رسول الله كشهادة وكمعنى دائم تعلم أنّه قوّةٌ موجودةٌ على
هذه الأرض.
لذلك كانت الصّلاة تمثّل ذلك، فهي تجمع بين اتّجاهك إلى
الله، فأنت تصلّي لله، وتدعو الله ـ وفي
اتّجاهك في صلاتك إلى الكعبة رمزاً إلى معنى رسول الله. لذلك، قال الصّوفية: [ندعو
إلى الحضرتين بالحضرتين](7). وتعلّموا أنّ علاقتهم برسول
الله هي علاقة رحمة ومحبّة وقوّة يأخذونها ويستعينون بها، لا تتعارض مع اتّجاههم
إلى الله وعلاقتهم بمحبّةٍ مع الله وبطلب قوّةٍ من الله، فالله بمعناه المطلق وراء
كلّ شيء.
إنّنا نتعلّم جميعاً أنّنا ونحن نتّخذ أسباباً لنحقّق
هدفاً، أنّ تحقيق هذا الهدف لا يكون إلّا بتوفيق الله، ولا يمنعنا ذلك من أن نتّخذ
هذا السّبب، ولا يمنعنا اتّخاذ هذا السّبب من أن نلجأ إلى الله، إنّهما أمران
متلازمان، الغيب والشّهادة، نلجأ إليهما وندعو بهما ونتعامل معهما.
لذلك، قال القوم وهم يخاطبون الله: [فكان غيبا من غيبك، وبدلاً من سر ربوبيتك، حتى صار بذلك مظهراً نستدل به
عليك، فكيف لا يكون كذلك، وقد أخبرتنا بذلك في محكم كتابك بقولك: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
..."[الفتح 10]] (8).
عباد الله: نسأل الله: أن نعيش عيشةً
صالحة، في علاقةٍ مع الغيب والشّهادة، في إدراكٍ لما أودع الله فينا من طاقةٍ ومن
قدرةٍ ومن إيمانٍ بالغيب ومن إيمان بالشّهادة، من الاتّجاه إليه ومن الاتّجاه إلى
رسوله، معنيان متلازمان لا يفترقان، أشهد أنّ لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً
رسول الله، هكذا تعلّمنا الشهادة.
نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إذا كناّ ندرك معانٍ كثيرة في
علاقتنا بالغيب والشّهادة، إلّا إنّ ذلك لا يمنع من أنّنا قد نخطئ وقد نصيب في
أمورٍ في حياتنا. لذلك، فإنّا علينا أن نستغفر الله دائماً، وأن نرجع إليه دائماً،
وأن نتعلّم أنّ مع الإدراك يكون السّلوك، وتكون مراقبة النّفس، وتكون خشية الله، "...إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28].
وخشية الله، علّمنا إيّاها رسول الله يوم أخبرنا: [ها
أنا رسول الله بينكم ولا أدري ما يُفعَل بي غدا](9)، [لا يدخل الجنّة أحدكم
بعمله، حتّى أنت يا رسول الله، حتّى أنا ما لم يتغمدنِ الله برحمته](10). فهذا أمرٌ أساسيّ، لا يجعلنا
ننسى معنى الاستغفار الدّائم، مع كلّ الإدراك ومع التّقدير للمسئوليّة التي نحملها.
بل أنّ علينا أن نراجع أنفسنا فيما نرى أنّه الحقّ، وأن
نراجع أنفسنا فيما نرى أنّه الباطل. لا نتصوّر أنّ ما فهمناه في لحظةٍ من لحظات
حياتنا على أنّه الحقّ سيظلّ دائماً الحقّ الذي نراه، ولا نتصوّر أنّ الباطل الذي
عرفناه يوماً أنّه سوف يظلّ الباطل الذي عرفناه. وإنّما نحن في حاجةٍ دائمةٍ إلى
مراجعة مفاهيمنا ومعتقداتنا.
وهذا لا يكون إلّا بدعاء الله، إلّا بطلب قوّةٍ من رسول
الله، حتّى نظلّ في حياة. والحياة تعني أنّنا نغيّر دائماً، وأنّنا لازلنا قادرين
على أن نغيّر إلى آخر لحظةٍ في وجودنا على هذه الأرض. فعلينا مع ما تَكوّن لدينا
من قناعات، أن نكون دائماً في مراجعةٍ مستمرّة لهذه القناعات، وأن نكون في دعاءٍ
دائمٍ أيضاً للمساعدة على أن نراجع كلّ مفاهيمنا.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك،
وأن يجعلنا دائماً راجعين إلى الحقّ أنَّى وجدناه، وأن نكون مجتنبين الباطل أنَّى
عرفناه.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
_________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق