الجمعة، 17 نوفمبر 2017

اللجوء إلى الله،ودعاء الله،هو هجرةٌ لقلب الإنسان من وسطه المظلم إلى الحيّ القيّوم

حديث الجمعة 
1 محرم 1439هـ الموافق 22 سبتمبر 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّ في أيّام دهركم لأحداثٍ فتفكّروا فيها، ولرسائل فاقرأوها، ولآياتٍ فتدبّروها.
نبدأ اليوم عاماً هجريّاً جديداً، يذكّرنا بهجرة الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مكّة إلى المدينة، ونحن نتذاكر دائماً في كلّ مناسبةٍ وفي ذكرى كلّ حدثٍ، عن الرّسائل التي يحملها هذا الحدث والرّسائل التي نقرؤها من تذكّرنا له.
والهجرة هي معنى موجودٌ في عالمنا الماديّ، فعالمنا فيه النّور وفيه الظّلام، فيه الخير وفيه الشرّ، فيه الحقّ وفيه الباطل، فيه العلم وفيه الجهل، فيه الحيّ وفيه الميّت، "...يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ..."[يونس 31].
وكلّ رسالةٍ سماويّة، وكلّ رسولٍ جاء بدعوةٍ حقيّة، جاء في وسطٍ إنسانيّ، الذي فيه كلّ المتناقضات من خيرٍ وشرّ، ومن نورٍ وظلام. وحين يدعو داعي الحقّ بدعوته فأهل الباطل والظّلام يرفضون هذه الدّعوة، ويكوّنون وسطاً مظلماً يحيط بالدّاعي ومن تابعه من أهل الحقّ، فإذا كان المجتمع أغلبه ظلام، فإنّه يصبح قوّةً ضاغطةً على داعي الحقّ ومن اتّبعه، ويصبح أهل الحقّ هم معنى الحيّ، ويصبح أهل الظّلام هم معنى الميّت.
هذا الحيّ يريد أن ينتشر، ويريد أن يبقى، ولا مجال له إلّا أن يخرج من هذا الميّت، فهنا يكون معنى "...يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ..."، وتكون الهجرة هي تعبيرٌ عن خروج الحيّ من الميّت، ويصبح هذا هو القانون الطّبيعيّ لاستمرار الحياة، والذي تسانده قوى الغيب في حركته، فكانت هجرة الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تعبيراً عن هذا الحال، وكانت مساندة الغيب في هذه الهجرة هو تعبيرٌ عن مساندة قانون الحياة لكلّ حيٍّ يريد أن يخرج من وسطه الميّت، سواء كان ذلك على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع.
فعلى مستوى الفرد، فإنّ قلب الإنسان بما فيه من حياة، وبما فيه من ".. مضغة لو صلحت لصلح البدن كله .."(1)، وما فيه من بذرة حياةٍ أودعها الله في الإنسان، هو معنى الحيّ في الإنسان، وجسد الإنسان الذي يحيط بهذه البذرة هو الوسط الميّت في الإنسان، لذلك كان اللجوء إلى الله، ودعاء الله، هو هجرةٌ للمعنى الحيّ في الإنسان إلى الله، وإلى من يعينه على ظلام نفسه، فكان الدّعاء.
فكلّ دعاءٍ هو هجرةٌ لقلب الإنسان من وسطه المظلم إلى الحيّ القيّوم الذي يحييه ليرجعه مرّةً أخرى إلى هذا الوسط، فيحيا هذا الوسط به. وهذا ما يمثّله رجوع رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من المدينة إلى مكّة فاتحاً. هذا بعدٌ نتدبّره ونتأمّله من الهجرة.
الأمر الآخر الذي نتدبّره ونتأمّله ونقرؤه، هو أن نتفهّم قانون الحياة في العلاقة بين الخير والشرّ، وبين النّور والظّلام. هذه الأرض يحكمها قانون أنّ من يعلم أسباب هذه الحياة وأدواتها من علمٍ ومعرفةٍ وقوّةٍ، يستطيع أن تكون له الغلبة في سيادتها، وفي ريادتها، وفي قيادتها.
ومن أسباب هذه القوّة أيضاً، هو تجمّع النّاس على إنسانٍ يقودهم ويرشدهم، وأنّ تزايد هذا العدد هو عاملٌ قويّ في سيادة هذه الأرض، فإذا ظهرت دعوةٌ في مجتمعٍ غالبيته مظلمة، وقليلٌ منه فيه نورٌ، فإن الغلبة تكون للظّلام، الغلبة الظّاهريّة ـ نحن نتكلّم هنا عن الظّاهر ـ وهذا ما حدث في كلّ الرّسالات، ومع كلّ الرّسل.
فحين ننظر اليوم إلى غلبة الباطل أيضاً في مجتمعنا وفي مجتمعاتٍ غيرنا، فإنّنا ندرك أنّ هذا هو القانون، وأنّ المطلوب من أهل الحقّ، أو من أيّ مجموعةٍ ترى في نفسها ذلك، عليها أن تدعو بما هو أحسن حتى يكون لها من يساندها، فإذا لم تصل إلى الحدّ الذّي يمكّنها من الغلبة، فإنها تواصل الدّعوة، وتكتفي بمن استجاب إليها، وهذا حدث ويحدث أيضاً في تاريخ البشريّة.
ونحن حين ننظر في تاريخ مجتمعنا، سوف نجد أناساً كثيرين كانت لهم دعوةٌ صادقة، وعرفوا علماً ربّانيّاً، وتحدّثوا بحديثٍ حقيّ، ولكن من قرأوا لهم أو اجتمعوا عليهم قليلون، ولكن بقى ذكرهم، ونقرأ كتبهم، ونسمع عن سيرتهم، وفي هذا بقاءٌ لهم.
ومن هنا فإنّ هذه القوانين الأرضيّة تعمل بهذا الشّكل، إلّا في لحظاتٍ ـ فإنّ هذه القوانين يقابلها قانونٌ آخر تتدخّل فيه الإرادة الغيبيّة، وهي لحظاتٌ فارقة؛ لأنّ هذه اللحظات يكون فيها الغلبة لأيّ معسكرٍ غلبةً نهائيّة لموقفٍ سوف يقضي على بذرة الحقّ في الأرض، ليس قضاءً نهائيّاً، ولكن الإرادة الإلهيّة تريد أن تبقى هذه البذرة حيّة في ذلك الوقت، فهنا تتدخّل الإرادة الغيبيّة ـ كما نقرأ ذلك؛ لأنّنا نتعلّم القوانين من الواقع ومن التاريخ ـ تتدخّل الإرادة الغيبيّة في لحظاتٍ لتأخذ بيد داعي الحقّ، وتبقيه مكملاً لمسيرته.
فنجد ذلك في الهجرة، في خروج الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من بيته ولا يراه أحد، وفي غارٍ لا يصل إليه أحد، وفي متابعةٍ لا يلحق به أحد، بصورةٍ تدخّلت فيها الإرادة الغيبيّة، وهي لحظاتٌ ـ كما قلنا ـ فارقة؛ لأنّه لو تحقّق ما أراد أهل الظّلام، ونالوا من الذّات المحمّديّة، فإنّ هذه الدّعوة ما كانت لتستمرّ. والإرادة الغيبيّة، أن تستمرّ هذه الدّعوة في ذلك الوقت. وهذا قانونٌ أيضاً إلهيّ.
فحين قال القوم [إشتدّي يا أزمة تنفرجي](2)، [وضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنّها لا تفرج](3)، نجد ذلك في أحداثٍ كثيرةٍ في حياتنا، وكلّ إنسانٍ مرّ أو سيمرّ بلحظاتٍ يحدث له مثل ذلك، فكم قابلنا من أمورٍ كنّا نظنّ أنّنا لن نخرج منها، ولكن خرجنا، سواء بتسبيبٍ من الله بأسبابٍ، أو بصورةٍ فيها إرادةٌ غيبيّة. ولذلك فقد تعلّمنا ألّا نيأس من روح الله، ومن رحمة الله، ومن نور الله، وأن نكون دائماً داعين طامعين في رحمة الله وفي توفيق الله، وهذا درسٌ آخر نتعلّمه من هذه الهجرة.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، وأن نقرأ آيات الله لنا دائماً، وأن نتأمّلها ونتدبّرها.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والشّكر لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ تأمّلنا في هجرة الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من مكّة إلى المدينة، هو تعليمٌ لنا، وتذكيرٌ لنا ببعضٍ من قوانين الحياة، وهذه القوانين لها علاقةٌ بالإنسان، كما أن لها علاقةٌ بأحداث الحياة التي يتعرّض لها الإنسان.
فالإنسان هو تعبيرٌ عن المجتمع، فكما أنّ المجتمع فيه الظّلام وفيه النّور، فإنّ الإنسان كذلك فيه الظّلام وفيه النّور، فيه بذرة الحياة، وفيه مضغة الحياة، فيه قلبه الذي هو تعبيرٌ عن فطرة الله فيه، والذي يمثّل المعنى الحيّ فيه، وأنّ هذا المعنى الحيّ حين يشعر بضغوط الظّلام عليه، فإنّه يلجأ إلى الله، واللجوء إلى الله هو هجرةٌ إلى الله، وهو هجرةٌ إلى رسول الله، وفي معنى أن تكون هجرته إلى الله ورسوله.
فإذا هاجر، إذا دعا بحقّ، فإنّه يتعرّض لطاقةٍ تساعده على مواصلة حياته مع كلّ الضّغوط الظّلاميّة من نفسه الأمّارة بالسّوء، بل أنّها تساعده أن تخضع له نفسه الأمّارة بالسّوء، فلا تأمره إلّا بخير، [كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فهو لا يأمرني إلّا بخير](4).
وفي البعد الآخر، وهو الأحداث التي تحيط بالإنسان، فإنّ هذه الأحداث قد تكون مظلمة، وقد تكون صادرة من أهل الظّلام، وقد تكون من أيّ مصدرٍ آخر، له وجودٌ وله رسالةٌ لاعتراض حياة الإنسان، أو في تعطيل مسيرته، أو تعطيل رسالته.
والإنسان وهو يُقوِّم هذا، قد يصل إلى مرحلةٍ لا يستطيع الاستمرار في المقاومة، فإذا كانت الإرادة الإلهيّة استمرار الإنسان في حياته الأرضيّة، تدخّلت الإرادة الإلهيّة بصورةِ غير طبيعيّة ـ بالنّسبة لنا ـ في الأحداث الأخرى، ولكنّها بكونها من قوانين الحياة فهي أيضاً قانونٌ طبيعيّ، ولكنّه له أوقات وله لحظات، يحدث فيها هذا التدخّل، وهذا ما نتعلّمه أيضاً من الأحداث التي صاحبت الهجرة.
لو تفهّمنا هذين الأمرين وهذين القانونين، لأدركنا أموراً كثيرةً في حياتنا، ولتعلّمنا كيف نتعامل مع أحداث الحياة حولنا، وكيف نتعامل مع ما فينا من حياة، وأن نلجأ دائماً إلى الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن أرضنا، وعن بلدنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
___________________

(1)    "....... ألا وإن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . من حديث لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، صحيح البخاري.

(2)     من قصيدة المنفرجة ليوسف بن محمد بن يوسف التوزري التلمساني أو أبو الفضل المروف بابن النحوي التوزري.

(3)       من أبيات للإمام الشافعي.

(4)       جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم " . وأيضاً " ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير" وكذلك : " فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم " كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي والدرامي .

     


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق