الأحد، 19 نوفمبر 2017

الاعتصام بحبل الله هو أن يدرك كلّ فردٍ في الجماعة أن مقصوده وجه الله، وأن هدفه أن يكون عبداً لله

حديث الجمعة 
8 محرم 1439هـ الموافق 29 سبتمبر 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
آيات الحقّ تكشف لنا قوانين الحياة، وتذكّرنا بنعمة الله علينا في أحوالنا، وفي معاملاتنا، وفي اتّجاهاتنا، "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ..."[آل عمران 103]، "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"[الضحى 11]، هنا تذكيرٌ من الحقّ لنا بسرّ الجماعة، وبسرّ التّجمّع، وأنّه إذا حدث ذلك فهو من نعمة الله على الإنسان.
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ..."، فما هو حبل الله؟ التّشبيه هنا يوضّح أنّ كلّ فردٍ في الجماعة يمسك بشيءٍ واحد، يرتبط بمعنىً واحد، يقصد هدفاً واحداً، وهذا الواحد هو الله الذي لا إله إلّا هو، هو الحيّ القيّوم، هو القائم على كلّ نفسٍ بما كسبت، هو القائم في القلب، هو الساكن في القلب، "ما وسعتني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن"(1)، هو الغيب الذي " ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11]، هو النّور "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..."[النور 35]، هو الحقّ، "وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"[الإسراء 81]، هو الحياة، هو سرّ الحياة، "...فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا..."[التحريم 12].
فالاعتصام بحبل الله هو أن يدرك كلّ فردٍ في الجماعة أن مقصوده وجه الله، وأن طريقه طريق الحياة، وأن هدفه أن يكون عبداً لله. لذلك، أنشد القوم: [المقصود وجه الله]، وعرفوا أنّ قبلتهم هي وجه الله، وأن هدفهم هو وجه الله، ليس شكلاً، وليس صورةً، وليس متعةً، وليس خوفاً من نارٍ أو رغبةً في جنّةٍ، وإنّما أن يكونوا دائماً قاصدين وجه الله.
فإذا حدث ذلك، وتجمّع القوم على ذلك، فليذكروا نعمة الله عليهم، ليذكروا رحمة الله بهم، ليذكروا نور الله السّاري في وجودهم، ليذكروا الحياة السّارية في وجدانهم، ليذكروا ربّهم في قلوبهم، ليذكروا نعمة الله عليهم فيما أوجد لهم من عقولٍ يتفكّرون بها، ومن قلوبٍ يذكرون بها، ومن أجسادٍ يعملون بها، يذكرون نعمة الله التي جعلتهم يتحابّون في الله.
يذكرون نعمة الله التي جمعتهم وكانوا "...عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا..."[آل عمران 103]، وما هذه الحفرة إلّا أن يتباغض أفراد المجتمع، ويتفرّقوا، ويتقاتلوا، ويظنّ كلٌّ منهم أنّه على الحقّ المطلق، بل يظنّ كلٌّ منهم أنّه ينصر الله، وأنّه هو المدافع عن الله.
والله أكبر عن أيّ ظنٍّ وأيّ وهمٍ، وعن الحاجة إلى أيّ نصرٍ، فـ"... إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ..."[الطلاق 3]، في الأوّل والآخر، في الظّاهر والباطن، في كلّ ما يحدث على هذه الأرض، فمن اجتمع على ذكر الله، فليذكر هذه النّعمة التي جعلته متواضعاً متآلفاً، يقبل غيره، ويدرك أنّ الهدف هو التّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر.
هذه الآيات ليست آياتٍ تاريخيّة تصف حال المسلمين في بداية الدّعوة المحمّديّة، وإنّما هي تذكيرٌ بقانون الله، فالنّاس هكذا دوماً يتصارعون، ويتحاربون، ويتباغضون، إلّا من رحم الله، وإلّا من أكرم الله، وإلّا من ألّف قلوبهم الله، فكذلك يبيّن الله لكم آياته دائماً لعلّكم تهتدون، لعلّكم تدركون، لعلّكم تتعلّمون.
جاءت الآيات بعد ذلك لتوضّح هذا المعنى أكثر، وتؤكّد على استمراريّته، وتوضّح المنهج الذي إن اتّبعه أفراد الأمّة، لساعدهم ذلك أن يكونوا من المعتصمين بحبل الله، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104]. هؤلاء هم المعتصمون بحبل الله، هؤلاء هم المجتمعون على ذكر الله، حتّى في شئون حياتهم الماديّة يجتمعون على ذكر الله، وهذا التّوجيه ليس المقصود به فقط هو التّجمّع المعنويّ على أمورٍ معنويّةٍ، وروحيّةٍ، وحقيّة، وغيبيّة، وإنّما هو أيضاً على أمورٍ ماديّة، أرضيّة، حياتيّة، تهمّ النّاس جميعاً.
تحدّثنا كثيراً في معنى "...وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..."، فليس المعروف هو فقط ما يحدث في مجتمعاتنا من حصر هذا المعروف في إقامة الشّعائر، أو في الالتزام بالملبس، أو بأيّ صورةٍ أخرى ظهرت في الشّعائر المختلفة في الدّين، وإنّما المعروف هو العلم، والمعرفة، والتجربة، وما ثبت نجاحه، وما ثبت أنّه يغيّر الأمّة إلى الأفضل، ويغيّر الإنسان إلى الأفضل. المعروف هو في التجربة الدّائمة، وفي الاجتهاد الدّائم، وفي ملاحظة النّتائج، وفي تحليلها، وفي التعلّم منها بدروسٍ تستفيد منها الأمّة.
والمنكر هو ما ثبت فشله، وهو ما يؤدّي إلى خسارةٍ، وإلى تراجعٍ في حياة الإنسان وفي قيم الإنسان وفي حقوق الإنسان، وما ثبت أنّه كذلك، مع الملاحظة المستمرّة لمعرفة ما يُنهى عنه، وقد يُنهى عن أمرٍ نجد أنّه قد يؤدّي إلى فائدةٍ في وقتٍ لاحق من تجربة أمّةٍ أخرى، أو من ضرورةٍ ظهرت، أو من واقعٍ فرض نفسه.
فهنا دائماً الرّجوع إلى الحقّ، وعدم التّجمد، فقد يتحوّل أمرٌ رأينا فيه صلاحاً إلى أمرٍ ينتج طلاحاً، وقد يتحوّل أمرٌ رأينا فيه طلاحاً، إلى أمرٍ فيه صلاح، هكذا تكون الأمّة هي المصدر الذي يقرّر، ويفكّر، ويتدبّر ـ معياره الواقع الذي يؤدّي إلى ما هو أفضل وأحسن وأقوم.
"وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[آل عمران 105]، هذا توضيحٌ لمعنى الاستمراريّة في التّواصي، والتّجمّع، والبحث، عمّا هو أفضل وأحسن، فلا نتفرّق في لحظةٍ كلٌّ يؤيّد رأيه دون أن يسمع للآخر، وإنّما علينا أن نسمع لبعضنا بعضاً، وأن نتواصل لنجد ما يحيينا، وما يخرجنا من عثرتنا، ما يوحّد كلمتنا، وما يجعلنا أهلاً لنفحات الله ورحماته.
والبيّنات هنا، أن تظهر أنّ هناك قضيةٌ خاسرة أو رابحة، ولكنّ البعض يريد أن يستمرّ عليها بظنّ أنّها قول الحقّ، وآخرون يرون أن يتراجعوا عنها لأنّها أثبتت فشلها. فإذا تفرّق النّاس لهذا السبب، ورفضوا أن يحكّموا عقولهم وواقعهم، فأولئك لهم عذابٌ عظيم، وليس العذاب العظيم هنا هو ما بعد هذه الدنيا، وإنّما في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، فاختلافهم ذلك سوف يؤدّي إلى تخبّطهم، وإلى عدم قدرتهم على إدارة مسيرة الحياة.
وهكذا نجد أنّ آيات الله توضّح لنا حياتنا وما يحدث فيها، وكيف نحلّ هذه العثرات التي تواجهنا بتآلفنا، وتجمّعنا، وتذاكرنا، وتواصينا بالحقّ والصّبر بيننا. هكذا ندرك معنى حياتنا. ونجد في تاريخنا كيف كان تفرّق الأمّة سبباً في تأخّرها وفي تراجعها، وإن كانت هذه حكمة الله التي ندرك دائماً أنّها وراء كلّ شيء، إلّا إنّ ذلك لا يمنعنا من أن نعبّر عمّا نرى أنّه الخير، وأن نعبّر عما نرى أنّه الشرّ.
والشرّ على أرضنا كثير، وفي تاريخنا أكثر، ففي مثل هذه الأيّام حدثت موقعة كربلاء، وما صاحبها من ظلمٍ بيّن، ومن جهلٍ تام لمعاني الأفضل والأحسن والأقوم، نعرف ونوقن تجريداً أنّ هذا كان مطلوباً لهذه الأرض، ولكنّنا تقييداً وإحساساً وإدراكاً من واقعنا نرى أنّ هذا الذي حدث كان سبباً في تراجع هذه الأمّة لقرونٍ عديدة.
قد يكون هذا مطلوباً لحكمةٍ، ولكنّنا نريد اليوم أن نتعلّم مما حدث، وأن نصحّح ما حدث، فلا نكرّر ذلك مرّةً أخرى، وإذا كنّا لا نملك في أيدينا أمراً، فإننا نملك الدّعاء، ونملك القلوب، ونملك العقول، ونملك القول، فلندعُ الله دائماً ألّا يتكرّر ذلك، وأن يكون النّاس أكثر نضجاً ومعرفةً ورجوعاً إلى الحقّ، واجتماعاً على الحقّ.
نعلم أنّ الحقّ والباطل سوف يبقيان ما دامت الأرض، ولكن أهل الحقّ يدفعون بما يرون أنّه الحقّ، وكلّ مجموعةٍ أو جماعةٍ ترى أنّ فيها شيئاً من الحقّ، تدرك أنّ ما لديها ليس هو الحقّ المطلق، ولكن لا تملك إلّا أن تدفع بما تراه، فلو لم يدفع الإنسان بما يرى أنّه الحقّ، فلن يستطيع أن يفعل شيئاً على هذه الأرض. وأهل الباطل سوف يدفعون بالباطل على ما يرون، ربما يرونه حقّاً وسيظلّ الأمر كذلك، فواجبٌ علينا أن تكون لنا نظرةٌ، وأن يكون لنا اتجاهٌ فيما نراه حقّاً، وأن ندعو إليه.
هذا حالنا، وهذا قيامنا، نحمد الله عليه، ونستغفر الله دائماً إن نسينا أو أخطأنا، وندعوه أن نرجع إليه، وأن نتوب إليه دائماً.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
 ___________________

(1)    حديث شريف أورده الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين جـ 3 بلفظ "لم يسعن سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع". – وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في الزهد عن وهب بن منبه قال: إن الله فتح لحزقيل حتى نظر إلى العرش ، فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك ربي! .. فقال الله: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني، ووسعني قلب عبدي المؤمن.


    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق