الاثنين، 11 ديسمبر 2017

إنّ الدّين هو تفاعلٌ بين الحقّ على الإنسان والحقّ في الإنسان.

حديث الجمعة 
21 محرم 1439هـ الموافق 13 أكتوبر2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"....الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..."[الأعراف 43] ، والشّكر لله على نعمته التي أنعم بها علينا، وما كنا لنكون فيها لولا فضل الله، وكرم الله، ورحمة الله.
"لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ..."[التوبة 128]، حين نقرأ هذه الآية، فإنّنا يمكننا أن نفهم منها قانون الحياة الدّائم، في أنّ داعي الحقّ موجودٌ في دوام، ويمكننا أن نفهم أيضاً أنّ هذا المعنى موجودٌ في الإنسان. ففي داخل كلّ إنسانٍ، رسولٌ يدعو الإنسان إلى الصّراط المستقيم وإلى الطّريق القويم، بل أنّنا يمكن أن نفهم أيضاً، أنّ هذا الدّاعي وهو موجودٌ بين النّاس، هو موجودٌ في نفس كلّ إنسان.
فإذا كانت الرّسالات السّماويّة جاءت من خلال رسلٍ بين النّاس، فإنّها موجودةٌ في دوام في خلق الإنسان، وفي تكوين الإنسان، وفي تركيب الإنسان، "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ"[الانفطار 8]، فكان خلق الإنسان فيه حكمةٌ إلهيّة، أوجد في الإنسان الرّحمن كما أوجد فيه الشّيطان، وأوجد فيه الخير كما أوجد فيه الشرّ، وأوجد فيه ما يحييه وأوجد فيه ما يميته، وأوجد فيه النّور كما أوجد فيه الظّلام، وأوجد فيه الرّسول كما أوجد فيه المرسل إليه.
وكذلك كان خلق النّاس، أوجد فيهم النّور وأوجد فيهم الظّلام، أوجد فيهم الرّسول وأوجد فيهم المرسل إليه، أوجد فيهم الدّاعي وأوجد فيهم من يستجيبون إلى الدّاعي ومن لا يستجيبون إليه، فكان الإنسان صورةً مصغّرةً من الكون، [وتحسب أّنّك جرمٌ صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر](1).
من هنا، ندرك أنّ الدّين وهو دعوة الحقّ ودعوة الرّسول ودعوة الله، هي دعوةٌ للحياة، وأنّ الدّين هو دعوة الله ورسوله إلى الحياة، سواء كانت هذه الدّعوة من الخارج أو من الدّاخل، بل أنّ ما في الإنسان من حقٍّ، هو الذي يستجيب إلى دعوة الحقّ من خارجه. وإذا لم يتواجد في الإنسان رسول الحقّ، فلن يستجيب الإنسان إلى دعوة الحقّ من خارجه.
وهذا ما نراه في حياتنا وفي مجتمعاتنا. فمن النّاس من لم يتعرّف على رسول الحقّ فيه، وعاش بمعنى المدعو، وظنّ أنّه بهذا المعنى يستطيع أن يستجيب لداعي الحقّ، ولكن في واقع الأمر، فإنّ الإنسان وهو قائمٌ في هذا الحال وهو غير مدركٍ لما فيه من حقٍّ، لا يستطيع أن يسمع أو أن يرى.  
لهم آذان ولكن لا يسمعون بها، ولهم عيون ولكن لا يبصرون بها، ولهم عقولٌ ولكن لا يفكّرون بها، ولهم قلوبٌ ولكن لا يذكرون بها*، "... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"[البقرة 171]. يعتقدون أنّهم يستجيبون لداعي الحقّ، ولكن في واقع الأمر، هم لا يستجيبون إلّا بظاهر أجسادهم، فكلمات الحقّ لا تنفذ إلى قلوبهم وعقولهم، وهذا ما نراه في التديّن الظّاهريّ الذي يغلب على أفراد المجتمع.
وهذا ما ميّز أفرادا من المجتمع تنفذ كلمات الحقّ إلى قلوبهم وعقولهم، فيمن عرفنا من رجال الله الصّالحين، في تاريخنا وفي حاضرنا، لمن عرفوا أنّ الدّين ليس كلمة تُردّد وليس فعلاً يُؤتى بظاهر الجسد، وإنّما الديّن ينفذ إلى الأعماق بكلماته وآياته، فيتفاعل ما في الإنسان من حقّ مع دعوة الحقّ من خارجه، ومن خلال هذا التّفاعل تحدث الحياة ويحيا الإنسان.
هذا المعنى الدّاخليّ في الإنسان، هو الذي يستقبل الحياة، ويستقبل كلمات الحياة، ويستقبل نور الحياة. وبدون وجوده في الإنسان، فالإنسان ميّتٌ لا يحيا، لا يتقبّل فيوضات السّماء، ولا آيات الله، ولا حكمة الحقّ.
لذلك، حين نتأمّل في الآية: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ..."، ونتفهّمها بالمعنيين، معنىً خارجي، ومعنىً داخلي ـ فإنّنا نفهم أكثر، الحال الذي يجب أن نكون عليه، أن نتجاوب مع داخلنا ومع خارجنا، أن نستقبل الآيات بداخلنا، نجعلها تسري فينا، ثم نعكس البصر إلى داخلنا لنرى تأثير هذه الآيات على ما في داخلنا من حقّ، لا نتسرّع بأن نفسّر الآيات بظاهر عقولنا وبما قاله الآخرون، وإنّما نترك الآيات لتسري في وجداننا وفي قلوبنا، ثم ننظر تفاعلنا معها.
هذا المعنى في داخلنا، هو المعنى الذي يساعدنا على ألّا نكون في معنى العَنَت، في معنى الرّفض، في معنى عدم القبول، حريصٌ علينا، "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ..."[التوبة 128] ، إنّ هذا المعنى يحافظ علينا من داخلنا، فإذا كنّا من المؤمنين به، فهو سيساعدنا أكثر، وسيأخذ بأيدينا إلى طريق الصّلاح والفلاح، رؤوفٌ بنا، رحيمٌ بنا، يعلم ضعفنا، ويعلم ظلامنا، ويعلم جزعنا وخوفنا، ويحرص على ما فينا من معانٍ حقيّة، تساعدنا على استكمال طريقنا وإلى أن نكسب حياتنا.
عباد الله: إنّ الدّين لواقع، وإنّ الدّين هو دعوة الحياة، وإنّ الدّين هو تفاعلٌ بين الحقّ على الإنسان والحقّ في الإنسان. ولا يكون هناك أثرٌ للدّين إلّا إذا استجاب الحقّ في الإنسان إلى الحقّ على الإنسان، أما إذا لم يتعرّف الإنسان على الحقّ فيه، وظنّ أنّه باستماعه لكلماتٍ تلوكها الألسن فإنّه بذلك يكون في دينٍ، فما عرف الدّين وما عرف الحياة.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون متعارفين على معنى الحقّ فينا، وأن نستمع لآيات الحقّ في قلوبنا وعقولنا، وألّا تتوقّف المعاني عند آذاننا، وإنّما تنفُذ إلى أعماقنا لتتفاعل مع الحقّ في داخلنا، فنعكس البصر إلى داخلنا لنرى نتيجة هذا التّفاعل في وجداننا، وفي قلوبنا، وفي مفاهيمنا، وفي حياتنا، وفي سلوكنا، وفي معاملاتنا، وفي كلّ لحظةٍ من حياتنا.
نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ دعوة الحقّ للإنسان، لا يستقبلها الإنسان إلّا إذا عرف الحقّ فيه.
إنّ الله يوم خلق الإنسان، خلقه "... فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"[التين 4]، وأحسن تقويم هو معنى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس 8،7] ، فكان الإنسان بقيامه ووجوده يحمل معنى الحياة، ومعنى النّجاة، ومعنى الصّلاح ـ كما يحمل معنى الموت، ومعنى الخسارة، ومعنى الطّلاح.
فمن لم يتعرّف على معنى الصّلاح فيه وعلى معنى الحقّ فيه، فلن يستطيع أن يستقبل فيوضات الحقّ عليه، وهذا معنى ـ في نظرنا ـ: "لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ"[الواقعة 79] ، فأنت لن تمسّ معاني الآيات بحقيقتها إلّا إذا كنت طاهراً بقلبك، وعقلك، وجسدك. أمّا أن تتوقّف عند طهارة الجسد، أو عند الاستماع بالأذن دون أن تكون الأذن وسيلةً لاستقبال هذه الكلمات لتسري بمعانيها إلى داخلك، فإنّك إذا كنت كذلك فستتوقّف عند الشّكل والصّورة.
الدّين معنىً حيّ يتفاعل مع الأحياء ولا يستقبله الأموات. والأموات من ماتت قلوبهم ومن ماتت عقولهم وإن كانوا يعيشون بأجسادهم على هذه الأرض، فهم أموات. أمّا الأحياء فإنّهم أحياء في الدّنيا والآخرة، "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران 169].
والإنسان يستطيع أن يوقظ ما فيه من معنى الحقّ إذا استقبل المعاني وتركها تسري في وجدانه، بمعنى ألّا يتعجّل في الحكم على أيّ آيةٍ أو معنىً، وإنّما يتركه يسري في وجدانه، دون أن يحدّد معنىً معيّناً بظاهر وجوده، أو بترديد مفهومٍ آخر من إنسانٍ آخر، سواء كان هذا الإنسان في الحاضر أو في الماضي.
حين تقرأ الآيات حاول أن تستقبلها بقلبك وبعقلك، فتتفكّر وتتأمّل فيها، وإذا استعنت بتفسيرٍ لها، فلا تقف عند هذا التّفسير، وإنّما اجعله وسيلةً لأن تتأمّل أكثر، ولأن تتفاعل مع الآيات أكثر، حتّى تصل إلى مفهومٍ لك تدركه حين تعكس البصر إلى داخلك، فتجد ما وصلت إليه وما استقررت عليه، وتستمرّ على ذلك في كلّ ما تسمعه وتقرؤه، وما تصل إليه لا تتوقّف عنده، وإنّما اتركه يسري في وجدانك فربّما تجد فهماً آخر ومعنىً آخر.
تعلّم كيف تتفاعل مع الآيات، وكيف تتفاعل مع أحداث الحياة، وكيف تتفاعل مع كلّ ما يحدث لك على هذه الأرض. هكذا تتعرّف على معنى رسول الله فيك، على معنى الحياة فيك، على معنى الفطرة فيك.
عباد الله: نسأل الله: أن نجتهد لنكون كذلك، ونسأل الله: أن يصوّبنا دائماً إلى ما هو أفضل وأقوم وأحسن.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.     
______________________

(1)  مقولة للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.       


* "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف 179].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق