الثلاثاء، 23 يناير 2018

الفتح المبين هو أن تكون الطاعة والمعصية كسبا لنا في الله

حديث الجمعة 
28 محرم 1439هـ الموافق 20 أكتوبر2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشّيطان الرجيم، نتّجه إليه، ونتوكّل عليه، نسأله توفيقاً، وإصلاحاً، وكرماً، ورحمةً، ومغفرةً ـ لنكون في الطّريق القويم وعلى الصّراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم، أن نكون أهلاً للسّير في ركب رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولنكون أهلاً لمعنى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"[الفتح 2،1].
إذا تساءلنا متأمّلين في معنى الفتح في هذه الآية، إنّه طريق الصّلاح والفلاح، إنّه المعراج الذي يرقى فيه الإنسان من مقامٍ إلى مقام، ومن حالٍ إلى حال. إذا دخل الإنسان في هذا المعراج، فهو الفتح العظيم، وهو الفتح المبين. فكلّ أعماله سوف تكون لارتقائه ولمعراجه، كلّ أحواله وكلّ معاملاته ستكون وسيلةً لأن يتغيّر من حالٍ إلى أفضل، ومن قيامٍ إلى أقوم. سيتعلّم في هذا الطّريق، أنّ كلّ فعلٍ يفعله، سوف يرتفع عن أن يميّزه بأنّه حسنةٌ أو سيئةٌ، بأنّه طاعةٌ أو ذنبٌ.
سنتعلّم في هذا الطّريق، أنّ كلّ فعل نفعله، يمكن أن يكون كسباً لنا في الله. فإذا كنّا نميّز بين الفعل وضدّه، بأنّ هذه طاعةٌ وأنّ هذه معصية، بأنّ هذه حسنةٌ وهذا ذنبٌ، بأنّ هذه يقظةٌ وهذه غفلةٌ ـ إلّا أنّ كلّ فعلٍ من هذه الأفعال، هو مؤهَّلٌ لأن نكسب به في الله.
        فالحسنة حسنةٌ؛ لأنّها تعلّمنا شيئاً في الله؛ ولأنّها تؤثّر فينا بصورةٍ إيجابيّة تجعلنا أكثر صلاحاً وفلاحاً. والذّنب يكون حسنةً إذا تعلّم الإنسان منه، "... فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ..."[الفرقان 70] ـ يوم يستغفر الإنسان منه، فيعطيه الله قوّةً ورحمةً تغيّر هذا الذّنب إلى حسنة، وهذا ما نفهمه من معنى: "لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..."[الفتح 2].
فالذنب ليس ذنباً لذاته، وإنّما هو فعلٌ مضادٌّ لحسنةٍ في ظاهرٍ. وقد يكون ضروريّاً ليتعلّم الإنسان درساً. نفهم ذلك في القصص القرآنيّ، فنجد أنّ آدم ـ عليه السّلام ـ يوم اعتُبِر أنّه قام بذنبٍ بأن عصى ربَّه، كان هذا ضروريّاً ليدخل في التّجربة.
لذلك، فإن النّظرة السّطحية لقصّة آدم بأنّه عصى ربَّه، فعاقبه ربُّه بأن أخرجه من الجنّة، هو تفسيرٌ قاصرٌ عن فهم الأبعاد الحقيقيّة؛ لأنّنا نتعلّم من الآيات وهي توضّح لنا هدف خلق آدم، "... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ..."[البقرة 30]، إذاً، فالهدف الرئيسيّ من خلق آدم، هو أن يهبط إلى هذه الأرض. وما كانت معصية آدم الظّاهريّة، إلّا الوسيلة لتُكسِبه القدرة على أن يهبط إلى هذه الأرض. فهنا، المعصية كانت وسيلةً لأن ينزل ويهبط آدم إلى الأرض.
فإذا كانت هي في الظّاهر معصية، فهي حقّقت هدفاً. وإذا كان لها أثرٌ سلبيٌّ، فإن ذلك تمّت معالجته، "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ..."[البقرة 37]، "ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ"[طه 122]، "لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ...".
والذّنب هنا ـ كما نقول دائماً ـ ليس ذنباً بالمفهوم الضيّق لأفعالٍ نقول أنّها محرّمة، وإنّما هو مفهومٌ أكبر من ذلك، يدخل في سلوك الإنسان، وفي مرتبته، وفي مستواه، وفي فهمه. لذلك قال القوم تعبيراً عن ذلك: [حسنات الأبرار سيئات المقربين](1)، وقالوا أيضاً على لسان أحدهم: [إنّي أشكو من برد الرّضا والتّسليم كما تشكو أنت من حرّ الاختيار والتّدبير، فقال له مريده: وكيف يكون ذلك؟ قال: أخشى أن تشغلني حلاوتهما عن ذكر الله](2)، وهو يرى أنّه بانشغاله عن ذكر الله ـ  حتّى بما أعطاه الله من حلاوة وبرد الرّضا والتّسليم ـ هو ذنبٌ.
فهنا، نحن نتكلّم عن مستوياتٍ مختلفة، وقد يكون إحساس الإنسان ببرد الرّضا والتّسليم هو ذنبٌ، وأن ينشغل بهما ذنبٌ، وإنّما أن يقع في هذا الذنب هو ضروريٌّ ليتخلّص من هذا الإحساس، فيتّجه إلى الله طالباً المغفرة، طالباً قوّةً تُخرِجه من ذلك. فأن يحسّ بأنّه كذلك، هو ذنبٌ، فيطلب المغفرة وأن يرحمه الله من هذا الإحساس. وقد لا يشعر بذلك إطلاقاً، فيظلّ مستمتعا ببرد الرّضا والتّسليم، فيصبح الذنب ضروريّاً حتّى يستغفر الله.
لذلك، نقول دائماً: إنّ الذّنوب التي نعرفها وشعرنا أنّنا بها، واتّجهنا إلى الله أن يساعدنا عليها، هي أقلّ وطأةً وتأثيراً من الذّنوب التي لا نشعر بها، والتي قد نكون مستغرقين فيها، ولكنّنا لا نشعر بأنّها ذنوب ولا نطلب مغفرة الله حتّى يغفرها لنا.
فرحمة الله والفتح المبين، هو أن يجعل الإنسان يشعر بذلك، فإذا شعر بذنبه كانت المغفرة، "لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..." أعدّه وجعله أهلاً لأن يستشعر الذّنب بمجرّد الوقوع فيه، ولا يستغرق فيه استغراقاً.
وبهذا تتمّ نعمة الله على الإنسان، أن تجعله أهلاً لمعراجٍ دائم، ولرقيٍّ دائم ،فيدخل ويُهدَى إلى الصّراط المستقيم، الذي ندعو ربَّنا دائماً أن يهدينا إليه في كلّ قراءةٍ للفاتحة، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..."[الفاتحة 7،6]، الذين لا يشعرون بذلك، ولا يستشعرون ذنوبهم، ولا يدركونها. وهنا، نفهم معنى الفتح المبين.
في مجالٍ آخر نجد الفتح مستخدماً بصورةٍ أخرى، وهذا يعلّمنا أنّ لكلّ كلمةٍ ولنفس الكلمة، معانٍ كثيرة، وعلينا ألّا نخلط بين المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا"[النصر 2،1]، فهنا الفتح مُستخدمٌ بأن يدخل النّاس في دين الله أفواجاً.
وهو معنىً ـ في ظاهره ـ مختلفٌ عن المعنى الآخر، وإن كان هناك رابطٌ خفيّ بينهما، فإنّه يوضّح أنّ الإنسان الذي فتح عليه الله فتحاً مبينا، وهو يدعو النّاس لهذا الفتح، يدعوهم ليكونوا كذلك، ليكونوا مثله، ليقتدوا به، ليسيروا في ركبه، ليركبوا سفينته، فإنّه وقد دعاهم وهم لا يستجيبون، فإنّ الفتح الذي يُريه الله له في أن يستجيب كثيرون لدعوته، فيكون بذلك قد أدّى رسالته.
وهذا معنىً أكبر من ظاهر ما حدث في التاريخ، بأن دخل رسول الله مكّة، فدخل النّاس في دين الله أفواجا، هذا رمزٌ تاريخيّ زمنيّ، إنّما المعنى الحقّيّ هو دعوة رسول الله لكلّ الكائنات في عصره وما بعد عصره، في وقته وما قبل وبعد وقته، لكلّ الكائنات أن تدخل في دين الله، أن تدخل في الفتح المبين، أن تُهدى إلى الصّراط المستقيم، وهي دعوةٌ استقبلها الكثيرون ممّن تابعوا رسول الله حقّاً، وممّن اهتدوا بهداه حقّاً، ومن اهتدوا بدعوته حقّاً، ومن ركبوا سفينته حقّاً، ومن ساروا في ركابه حقّاً.
وما كان دخول النّاس بظاهرهم إلّا تعبيرٌ عن هذا المعنى، وليس أنّهم جميعهم دخلوا بحقّ في دين الله، وإنّما دخلوا بظاهرهم، تعبيراً عن دعوة يستجيب لها السّابقون واللاحقون والقائمون، ممّن هدى الله حقّاً. دعوة رسول الله قائمةٌ في دوام، تدعو النّاس جميعاً في الشّرق والغرب، في الشّمال والجنوب، تدعو الأبيض والأسود، تدعو كلّ الأجناس وكلّ الأعراق إلى دعوة الحقّ وإلى الفتح المبين.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذين يلبّون دعوة الحقّ إلى الفتح المبين، وأن يجعلنا عباداً له صالحين.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن نوضّح تأمّلنا في معنى الفتح المبين، وفي معنى: "لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..."، وفي معنى: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا"، نعبّر بذلك عن أنّ كلّ شيءٍ في الوجود بظاهره من حقّ وبظاهره من باطل، هما أمران، الهدف منهما أن يكسب الإنسان في الله، وأن يتعلّم في طريق الحياة.
وأنّ الحياة هي تعلُّم، وهي تربية، وهي إصلاح، وأنّ الإنسان في حاجةٍ لأن يمرّ بحالٍ من الصّلاح وحالٍ من ظاهر الطّلاح، من أن يكون في طاعةٍ وأن يكون في معصية، فربّما تكون المعصية وسيلةً لكسبه في الله، [ربّ معصيةٍ أورثت ذلّاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزّاً واستكباراً](3)، هكذا قال القوم تعبيراً عن هذا الحال.
المعصية الحقّة هي التي تورث الإنسان عزّا واستكباراً، والطاعة الحقّة هي التي تورث الإنسان ذلّاً وانكساراً. فإذا اعتزّ الإنسان بطاعته ومنّ على الله إيمانه أو عمله أو عبادته، "... قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ..."[الحجرات 17]، فالقضيّة أنّ الإنسان بوجوده، معرّضٌ للحالين وللأمرين.
وإذا كان الإنسان فيه بذرة صلاحٍ وفلاح، ودخل في دعوة رسول الله، وركب سفينته، وسار في ركبه، فإنّه يكون أهلاً للفتح المبين، وأن يغفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. ما تقدّم؛ لأنّه أدّى به إلى هذا الحال، والعبرة بالخواتيم ـ كما يقولون ـ والعبرة بالنّتيجة. وما تأخّر؛ لأنّه أصبح صالحاً لأن يتعلّم من أخطائه، فإذا وقع في خطأٍ فإنّ ذلك ليتعلّم، وسيتعلّم؛ لأنّه أصبح أهلاً لذلك.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون أهلاً لذلك.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعلنا على الصّراط المستقيم، وفي الطّريق القويم.
اللهم "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ...".
اللهم اجعلنا أهلاً للفتح المبين.
اللهم اجعلنا في سفينة رسول الله راكبين، وفي ركابه سائرين، ولدعوته ملبّين.
اللهم اجعلنا عباداً لله صالحين.
اللهم اجمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
اللهم اغفر لنا، وتب علينا، وارحمنا.
اللهم ارحمنا، اللهم ارحمنا يا أرحم الرّاحمين، اللهم ارحمنا يا أرحم الرّاحمين، اللهم ارحمنا يا أرحم الرّاحمين.   
_______________________

(1)  مقولة صوفية.

(2) في حوار بين الشيخ إبن مشيش وتلميذه أبي الحسن الشاذلي: "قال العارف الشاذلي ترددت هل ألزم القفار للطاعة والأذكار أو أرجع إلى الديار لصحبة الأخيار فوُصِف لي شيخ برأس جبل فوصلت لغاره ليلا فبت ببابه فسمعته يقول اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك ففعلت فرضوا وأنا أسألك عني اعوجاج الخلق حتى لا يكون لي ملجأ إلا أنت، فقلت يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ فأصبحت فدخلت عليه فأرهبت من هيبته فقلت كيف حالكم، فقال إني أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم كما تشكو من حر التدبير والاختيار، فقلت أما شكواي من حرهما فذقته وأما شكواي من بردهما فلماذا؟ قال أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى...". من كتاب فيض القدير بشرح الجامع الصغير لمؤلفه عبد الرؤوف المناوي.


(3)  من الحكم العطائية لابن عطاء الله السكندري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق