حديث الجمعة
19 ربيع الأول 1438هـ الموافق 8 ديسمبر 2017م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة
والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّا نتدبّر آيات الله بعقولنا
وقلوبنا، لنقرأ ما فيها من معانٍ تساعدنا في سلوكنا، وفي معاملاتنا، وفي عباداتنا.
وآيات الله تحثّنا على ذلك، وتأمرنا بذلك، بل أنّها توضّح
لنا أنّ هذا هو جوهر خَلْقنا، وهدف وجودنا، "... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً ..."[البقرة 30]، [ما ظهر الله في شيءٍ مثل ظهوره في الإنسان](1)، فكان الإنسان عالَماً قائماً بذاته،
[وتحسب أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر](2).
وأوجد الله في الإنسان هذه القدرة على التعلّم وعلى التّغيير،
في نفسه وفي محيطه، "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا..."[البقرة 31]، وجعل عنده قدرةً من قدرته، وعلماً
من علمه، "... لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ..."[البقرة 255].
فعلّمه بذلك أنّه وإن كان قد أصبح عالَماً قائماً بذاته،
فأنّ هذا لا يعني أنّه العالم الأعلى، أو أنّه الملأ الأعلى، أو أنّه الإنسان الكامل،
وإنّما هو عالَمٌ من عوالِم، وكائنٌ من كائنات، ووجودٌ من موجودات، وعبدٌ من عباد
ـ هناك من هو أعلى منه، وهناك من هو أدنى منه.
فكونه عالَماً قائماً بذاته، لا يعني أنّه هو الأعلى، أو
أنّه هو المطلق، إنّما عالَمه هو عالَمٌ نسبيّ له حدوده، وله طاقاته، وله إمكاناته
ـ وعليه بهذه القدرات والإمكانات، أن يرقى بوجوده، وأن يرقى بعالّمه، ليصبح عالّماً
أكبر، ووجوداً أفضل، وقياماً أحسن.
فأودع بذلك فيه بذرة الحياة، وأوجد فيه فطرة الحياة، وأوجد
فيه أدواتٍ تمكّنه من الرّقي، وتمكّنه من العُلوّ، وأرسل رسله ليكشفوا للنّاس عن قدراتهم
وعن إمكاناتهم، ويرسل آياته في دوام، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53]، حتّى يتبيّن لهم أنّ ما أوجد فيهم
هو الحقّ؛ لأنّنا حين نقرأ هذه الآية نتساءل: "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ"،
هذه الهاء، هذا الضّمير، يعود على من؟ إنّنا حين نتأمّل، نجد أنّ ما في الإنسان، أنّ
سرّ الإنسان، هو هذا الضّمير الذي يعود على النّاس جميعاً، فهو ضميرٌ واحد، وفطرةٌ
واحدة.
وأمرهم أن يتفكّروا ويتدبّروا في كلّ ما يُقال لهم، فيقرأوا
الآيات، فيتمعّنوا في معانيها، ويتدبّروا مقاصدها، ويفقهوها بقلوبهم. وكلٌّ سوف يقرأ
بما هو له أهل. لذلك، فلا يستطيع إنسانٌ أن يدّعي أنّه يعرف معاني الآيات كلّها، وأنّ
لها معنىً واحد. ومن قديمٍ قالوا: [إنّ القرآن يحمل أوجهأ كثيرة](3).
وحين نتدبّر في تاريخنا، نجد أنّ الفرق المتنازعة، كان كلٌّ
منها يحتجّ بالقرآن، وكانوا يرفعون المصاحف على أسِنّة الرّماح، كلٌّ يدّعي أنّ القرآن
يسانده ويساعده.
فمحاولة أيّ جماعةٍ أن تقول أنّ هذا هو الدّين الصّحيح، هي
محاولةٌ ناقصةٌ فاشلة، وإنّما طالما أنّها محاولة، فلنقل: هذا اجتهادنا، وهذا مفهومنا.
وكما قال السّابقون: [نرى أنّه الصّواب، ولكنّه هو الصّواب الذي يحتمل الخطأ، ونرى
أنّ الآخرين ـ في نظرنا ـ على خطأٍ، ولكنّه الخطأ الذي يحتمل الصّواب](4).
وأصبحت القضيّة هي قضيّة مفهوم الإنسان، وليس أن يحكم الإنسان
على فهمٍ ويقول: أنّه القرآن، أو أنّه الدّين، أو أنّه كلام الله المطلق، بمعنى أنّ
تفسيره هو هو كلام الله. وكلام الله بمعنى أنّه صادرٌ من مصدرٍ حقّيّ، وطالما أنّك
تفكّرت فيه، وحوّلته إلى واقعٍ موضوعٍ مفهومٍ لك، فقد خرج من قدسيّته إلى أنّه أصبح
كلاماً تفهمه، وهو فهمٌ لك، أنت الذي تتحمّل مسئوليّته.
ولذلك، نجد الكثير من الآيات التي توضّح لنا أنّ المسئوليّة
هي مسئوليّة الأمّة. لذلك، نردّد دائماً الآيات التي تشير إلى ذلك، ابتداءً ممّا أشرنا
إليه اليوم، من أنّ الإنسان هو خليفة الله على الأرض، فهو المسئول عمّا يفعله بفهمه
وإدراكه، وأنّ المجموع عليهم أن يتواصوا بالحقّ والصّبر بينهم، ليجدوا ما يرون أنّه
فيه ظاهر الحقّ لهم، والعدل لهم، والصّالح لهم، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
..."[آل عمران 104].
قيل لنا ذلك من قديمٍ، حتّى لا يخرج أحدنا ويقول: إنّي أعرف
حكم الله، جاءت الآيات لتقول لهذا الإنسان: تواصَ مع إخوانك بالحقّ والصّبر، إجتمع
معهم، وأْمُرْ بالمعروف، وانْهَ عن المنكر، في إطار ما تصلون إليه كجماعةٍ وكأمّة،
وسوف تجدون في آيات الله ما يساندكم فيما تصلون إليه، فابدأوا بأنفسكم أوّلاً، لتبحثوا
عن الحقّ بينكم وفيكم، وسوف تجدون في آيات الله ما يساندكم ويساعدكم، لا تبدأوا بالعكس،
وتتصوّروا أنّكم حين تقرأون الآيات، وتأخذون بفهمٍ سطحيٍّ، سوف تصلون إلى ما هو حقٌّ
بينكم.
لذلك، نجد الذين قرأوا الآيات: "... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ
اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"[المائدة 44]، "... وَمَن لَّمْ يَحْكُم
بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"[المائدة 45]، وغيرها من الآيات، فبدأوا في تفسيرها
كما أنّهم يعرفون ما أنزل الله، وعرفوا معنى الحكم، ووضعوا قواعد يقولون أنّها ما أنزل
الله، بتفسيرٍ لهم في آياتٍ ولآياتٍ معيّنة، ولم ينظروا إلى الآيات كلّها، وإنّما نظروا
إلى بعض الآيات التي تحمل في ظاهرها أمراً محدّداً.
ولو أنّهم تمعّنوا فيها بعمقٍ، لوجدوا أنّهم لا يستطيعون
أن يصلوا إلى معنىً محدّد، يقولون أنّه حكم الله بالإطلاق، وإنّما سوف يجدون من النّاس
من يفهمه بصورةٍ أخرى.
فحصروا حكم الله في ذلك، وتصوّروا بذلك أنّهم يملكون الحقّ
المطلق، والحكم المطلق، وأنّهم عليهم أن يطبّقوا هذا المفهوم، وأنّ أيّ إنسانٍ لا يطبّق
هذا المفهوم فهو كافرٌ، وعليهم أن يقاتلوه ويقتلوه. وعشنا ونعيش في هذا الصّراع، وفي
هذا الحال الذي يؤدّي بنا من دمارٍ إلى دمار، ومن سيّئٍ إلى أسوأ.
ولو أنّنا قرأنا هذه الآيات بقلوبنا، وتأمّلنا في آياتٍ أخرى،
تأمّلاً في معنى ما يقصد الله، ما هي المقاصد الكليّة التي يأمر بها الله؟ لوجدنا الآية
التي توضّح لنا هذه المقاصد، "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"[النحل 90]، وأيّ حكمٍ هو يتبع هذه المقاصد.
وهذه المقاصد وهي تحمل معانٍ غيبيّة، فعدل الله المطلق لا
يستطيع أحد أن ينفّذه، إلّا أنّنا لو قرأنا الآية لفهمنا أنّه العدل الذي نراه، فالحديث
موجّهٌ لنا، و"لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا..."[البقرة 286]، بمعنى حدودها، بمعنى ما تستطيع
أن ترى أنّه الحقّ وأنّه العدل. فيصبح بذلك، التّوجيه هو إقامة العدل كما نتّفق عليه
كمجتمع، ولا نقول: كما يراه إنسانٌ واحد؛ لأنّ كلّ إنسانٍ سوف يرى العدل بصورةٍ مختلفة.
فلذلك، وجب علينا أن نتّفق على ما يمكن أن نجتمع عليه، ونكتب
ذلك، فقد أُمِرنا بأن نوثِّق في معاملاتنا؛ لأنّنا ننسى، ولأنّنا نتغيّر، والمجتمع
لا يحتمل هذا التّقلّب في الآراء وفي الرؤى، من حالٍ إلى حال، ومن وقتٍ إلى وقت.
وهذا ما توصّلت إليه البشريّة في المجتمعات المختلفة، بأن
تتّفق بينها على ما يجب أن تكون عليه المعاملات، وما يجب أن تكون عليه العقوبات، وما
يجب أن تكون عليه الحدود ـ إذا استخدمنا هذا التّعبير ـ ويصبح بذلك العدل هنا، ما يراه
المجتمع وما يتّفق عليه.
ما نريد هنا ـ نحن نضرب مثلاً هنا في قضيّة المجتمع ـ إنّما
ما نريد أن نقوله: أنّ الإنسان يصبح هو المسئول، وعليه أن يقرأ كلّ ما تقع عليه عيناه،
ويتأمّله ويتدبّره، وأن يقرأ كلّ الآيات بقلبه وبعقله. وإذا وجد هناك ما لا يستطيع
أن يتقبّله، فهو عليه أن يعرف أنّ قدراته ربّما لم تصل إلى أن تعرف ما وراء هذا النّص،
وإنّما لا ينفّذ شيئاً إلّا إذا كان قد أدركه، وتفهّمه، وارتضاه، وأحسن فهمه، وعرف
كيف يطبّقه بصورةٍ يستريح لها ضميره وقلبه.
وهذا حال المجتمع أيضاً، حين لا يستطيع أن يتّفق على أمرٍ،
فإنّه يبحث أكثر، ويسأل أكثر، ولا يحوّل شيئاً لا يفهمه ولا يقبله ولا يرى فيه صالحاً،
إلى قانونٍ وإلى تطبيقٍ، دون أن يكون راضياً عنه بصورة نهائيّة.
وهكذا يستمرّ المجتمع في تطوير نفسه بنفسه من خلال متابعته
لما يقوم به، ويستمرّ الإنسان في تطوير نفسه بنفسه من خلال تأمّله وتفكّره وتدبّره.
وهذا ما نراه في معنى: "...إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..."،
وفي هدف خَلْق الإنسان على الأرض. هدف خَلْق الإنسان على الأرض أن يمرّ بهذه التّجربة
التي يتفاعل فيها مع الحياة، ويقرأ منها، وينفّذ فيها، ويغيّر فيها، ويرقى بوجوده من
حالٍ إلى حال .
نسأل الله: أن نكون من الذين يتأمّلون، ويتفكّرون، ويتدبّرون،
ويذكرون، ويستغفرون، وإلى الحقّ يرجعون، ودائماً لا يتكّبرون، ويسألون الله دائماّ
مغفرةّ إن كانوا قد أخطأوا فيما يقدّمون ويقولون، ويحمدون الله كثيراً، إن كان فيما
يقدّمونه منفعةٌ لهم ولإخوانهم، إن كان هذا واقعاً في حياتهم وفي سلوكهم .
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
____________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ هدف
خَلْق الإنسان ـ كما نقرأه، وكما نتدبّره ـ هو أن يسعى في هذه الأرض، وأن يُفعِّل كلّ
طاقاته وإمكاناته، ليتعلّم من حياته، وليغيّر حياته؛ لأنّه خليفة الله على هذه الأرض؛
ولأنّ هذا هو ما يمكنه أن يفعله.
فلا يستقيم حال الإنسان بأن يردّد قولاً، أو يردّد فعلاً،
أو يردّد عبادةً، دون أن يتأمّل في نتيجة ما يقوله وما يعمله. ولا يستقيم حاله بتصوّر
أنّه يفعل هذه الأشياء لأنّها الحقّ المطلق؛ ولأنّ هذا كلام الله المطلق. فكلام الله، وإرادة الله أكبر من أن نحيط بها، ومن أن نقول أنّ هذا هو
كلام الله.
إنّنا حين نقول عن القرآن أنّه كلام الله، نقول عنه ذلك؛
لأنّه جاء من مصدرٍ حقيّ، فهو بذلك كلام الله، وهو بذلك كتاب الله. ولكن حين نقرؤه
ونفهم أمراً من آياته، يتحوّل هذا المفهوم إلى وجودٍ بشريّ، وإلى فهمٍ بشريّ. وحين
نطبّقه في حياتنا المادّيّة والبشريّة، يصبح تطبيقاً مادّيّاً لفهمنا ولرؤيتنا.
سيظلّ القرآن دائماً هو مصدر إلهامٍ للإنسان، ويساعده في
أن يتعرّف على الحقّ في نفسه وفي مجتمعه، ولا يكون ذلك بأخذ الآيات بحروفها، دون أن
نقرأها بقلوبٍ طاهرة وبعقولٍ مستنيرة، وإنّما يكون ذلك بأن نتواصى بالحقّ والصّبر بيننا،
وأن نبحث عن الحقّ في أنفسنا وفي مجتمعنا، وحين نجد الحقّ في أنفسنا وفي مجتمعنا، سوف
نجد آيات الله تُقرّ ذلك وتساعدنا عليه.
أمّا أن نتصوّر وأن نبدأ بمفاهيم مغلوطة، مردّدين كلاماً
لسابقين أو لحاضرين، يقرأون بعقولٍ منغلقة، وقلوبٍ فقدت الحياة ولم يصبح عندها إلّا
أشكالاً وصوراً ـ لا نريد أن نكون كذلك، نريد أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، ومن الذين عندهم قلوبٌ يفقهون
بها، ولهم آذانٌ يسمعون بها، ولهم عيونٌ يبصرون بها، لا نكون من الذين قيل فيهم "...صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"[البقرة 171].
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لما فيه
خيرنا، ولما فيه صلاحنا، نرجع إليه ونستغفره، ونطلبه في كلّ لحظةٍ وحين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه
النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً
وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم
الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
____________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق