الثلاثاء، 30 يناير 2018

القراءة ليست فقط هي علمٌ مادّيّ، وإنّما هناك القراءة التي تؤدّي بالإنسان إلى إدراك أنّ هناك غيباً يلجأ إليه

حديث الجمعة 
3 جمادى الأول 1439هـ الموافق 19 يناير 2018م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة والسّلام دائماً على رسول الله.
عباد الله: إنّ آيات الله تخاطبنا، لتؤكّد لنا ما هو قائمٌ فينا من فطرة الله التي فطرنا عليها، تخاطبنا بكلّ ما هو أحسن وأفضل وأقوم، كما نرى بقلوبنا الطّاهرة، وبعقولنا المنيرة، وبنفوسنا الزكيّة. لذلك، نجد الآيات كلّها تؤكّد ذلك وتوضّحه.
فالإنسان في سلوكه على هذه الأرض، منذ خِلْقته، يحاول أن يتعلّم من الطّبيعة حوله. وقصّة الإنسان على هذه الأرض، تؤكّد ذلك. وقد بدأ الإنسان ككائناتٍ أخرى، بغريزته، يحاول أن يبحث عمّا يجعله يستمرّ في معيشته وفي حياته على هذه الأرض. وهذا موجودٌ في كلّ الكائنات، ففيها هذه الغريزة التي تجعله يستمرّ في حياته، باحثاً عن طعامه وشرابه وعن مأوىً له.
ولكنّ الإنسان تميزّ بأنّه يبحث عن أدواتٍ جديدة من خلال مشاهدته، ومن خلال قراءته للطّبيعة حوله، ومن خلال ملاحظته لأحواله. وظلّ الإنسان كذلك، وتطوّرت مشاهداته، وتطوّرت أدواته، وتطوّرت قدراته، نتيجةً لهذه القدرة على المشاهدة، وعلى تحليل ما يشاهده، وعلى إنتاج ما يمكّنه من أن يكون أكثر قدرةً على المشاهدة والمراقبة.
لذلك، فبداية التّنزيل الإلهيّ كانت إقرأ، "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"[العلق 1]. والقراءة هنا، هي تأكيدٌ لهذا المعنى الموجود في الإنسان، والقراءة بما في الإنسان من معنى سرّ الله، من معنى اسم الله، فباسم الله فيه وبسرّ الله فيه يستطيع أن يقرأ، بأمانة الحياة فيه يستطيع أن يقرأ، "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ..."[البقرة 31]، والأسماء ليست مجرّد كلماتٍ، وإنّما هي قدراتٌ وإمكانات، فهذه القدرة التي أودع الله في الإنسان، هي التي تمكّنه من أن يقرأ وأن يستوعب ما يقرؤه.
فحين تجيئ الآيات، فإنّها ـ كما قلنا ـ تؤكّد على ما هو موجودٌ في الإنسان. لقد فعل الإنسان ذلك بفطرته من قبل أيّ تنزيلٍ إلهيٍّ موثّق؛ لأنّ التّنزيل الإلهيّ كان موجوداً في خِلْقته، وكان موجوداً في أمانة الحياة التي حملها الإنسان.
فالتّنزيل الرّبّاني الإلهيّ في الإنسان، هو موجودٌ فيه منذ خُلِق. التّنزيل الإلهيّ في الإنسان، هو الأسماء التي علّمها الله لآدم، وما كان آدم إلّا تعبيراً عن الإنسان، فكلّ إنسانٍ هو آدمٌ، يحمل صفات آدم. "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ..."[الإسراء 70]، بأن جعلناهم أوادم، وجعلنا فيهم سرّ أبيهم.
نجد الآيات بعد ذلك توضّح المعنى أكثر، "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ"[العلق 2]، الإنسان لم يدرك هذه الآية بعمقها إلّا حديثاً ـ بالنّسبة لعمر هذه الأرض ـ وهو لم يكن يعرف كيف يحدث خَلْق هذا الوجود المادّيّ على هذه الأرض، إنّما يعرف كيف يتكاثر بغريزته. فهنا، كان أمراً غيبيّاً حين يقرأه الذين تلقّوا هذه الآيات، لم يكونوا يعرفون كيف يتكوّن الجنين من بداياته، ولذلك فإنّ هناك أشياءً لا نستطيع أن ندركها في لحظةٍ مّا، وإنّما قد ندركها في قادمٍ.
فهذا يؤكّد أنّ ما يعلمه الإنسان يتطوّر، وأنّ حديث الحقّ يتحدّث بما هو واضحٌ للإنسان في لحظته الرّاهنة، أو في أيّ لحظةٍ راهنة، وبأشياءٍ قد لا يستطيع أن يدركها الإنسان إلّا في قادم، هذا من النّاحية الواقعيّة المادّيّة.
ومن النّاحية الرّوحية المعنويّة، فإنّ إدراك الإنسان لهذه القضايا الغيبيّة، هو في تطوّرٍ دائمٍ مع الإنسان. فعلاقة الإنسان بربّه في معنى الصّلاة وفي كلّ العبادات، هي مفهومٌ معنويّ، تطوّره لا نهاية له؛ لأنّه ليس أمراً محسوساً ولا مرئيّاً، وإنّما هو إدراكٌ غيبيٌّ مجرّد، له وجودٌ مجرّدٌ في الإنسان، بقدرة الإنسان على فهم العلاقات المجرّدة.
فعلاقة الإنسان بربّه، هي علاقةٌ مجرّدة، لا نستطيع أن نصفها بشكلٍ محدّد؛ لأنّ هذه العلاقة مرتبطةٌ بمفهوم الإنسان عن ربّه، ومفهوم الإنسان عن ربّه، هو أمرٌ مجرّدٌ؛ لأنّك لا تستطيع أن تتصوّر ربّك، "... سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ"[الأنعام 100].
لذلك، نجد هذا المعنى في الآيات، يوضّح لنا: "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ"، مفهوماً نتأمّل فيه اليوم، فنعرف كيف أنّه كان غيباً علينا، وأنّه اليوم تطوّر؛ لأنّنا عرفنا عن هذا المعنى أكثر.
في الآيات التي تلي ذلك، "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ، عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ، أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ"[العلق 9 ـ 12]، هنا، ندرك هذا البعد الغيبيّ الذي نتحدّث عنه في المفاهيم التي تعلو عن الإحاطة المادّيّة. وفي الواقع، أنّ كلّ مفهومٍ، أو كلّ ظاهرةٍ وإن كانت مشهودةً لنا، إلّا أنّ أبعادها المختلفة تعلو أيضاً عن مداركنا الأرضيّة.
إذا كنا ـ حتّى ـ ندرك كيف تتكوّن العلقة، وكيف ينمو الجنين، فإنّنا لا نعرف السرّ الذي وراء ذلك، وكيف يكون هذا الإنسان بجانبه الرّوحي والمعنويّ، كيف تُعطَى الحياة لهذا الجنين، وكيف ينمو، وكيف يتطوّر.
وهذا معروفٌ للجميع، أنّ ما أدركه الإنسان ـ حتّى عن جسده ـ هو قليلٌ من كثير، وإنّما الرؤية فيه متطوّرةٌ واضحة. كلّما علمت شيئاً، وجدت له دليلاً في وجودك، وفي حالك، وفي أحوالك، وفيما يحدث لك من مرضٍ ومن تطبيبٍ لهذا المرض، وما إلى ذلك.
ولكنّ النّاحية الأخرى وهي النّاحية المجرّدة، هي هذه النّاحية الإيمانيّة التي تعلو عن الشّكل وعن الصّورة، فـ "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ، عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ"، ماذا تريد أن تقول لنا هذه الآية؟ هل نستطيع أن نتأمّلها بعمق؟ ولماذا يُشار إلى ذلك في هذا الإطار، وفي هذا السّياق؟ قد يقول البعض: أنّ في هذا إشارة لما حدث في تاريخ الرّسالة، حين كان البعض لا يقبلها ويعترض على ما فيها من قيمٍ ومن أوامر ومن توجيهات.
ولكن إذا رأينا المعنى الأشمل والأعمّ، نراه في يومنا هذا، في كلّ إنسانٍ يرفض الجانب الرّوحيّ والعلاقة الرّوحيّة بين الإنسان وربّه، فأنت حين تقول: أنّ الصّلاة هي علاقةٌ بين العبد وربّه، فقد ينظر إليك إنسانٌ ساخراً ويقول: ماذا تكسب من قيامك وركوعك وسجودك، أو من أن تذكر بلسانك وقلبك، أو أن تكون لك علاقةٌ بالغيب؟ وهل هذا الغيب حقّاً موجود؟ ما هذا الذي تقول؟
"أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ، عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ"، فالصّلاة هنا، هي علاقةٌ بين العبد وربّه، قد يرى إنسانٌ آخر أنّه لا قيمة لهذه الصّلاة، ولا قيمة للدّعاء، ولا قيمة للذّكر؛ لأنّه لا يرى هذا المعنى المجرّد، لا يرى أنّ الإنسان بتأمّله وتفكّره ـ يوم يقرأ آيات الله حوله ـ سوف يدرك دائماً أنّ هناك غيباً، وأنّ هناك ما لا يستطيع أن يدركه، وأنّ الحياة ليست هي كلّ ما يراه ظاهراً أمامه، وإنّما هناك جانبٌ آخر منها، وهذا هو معنى الإيمان بالغيب، فالذي يؤمن بالغيب، سوف يقيم الصّلاة، "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ..."[البقرة 2، 3].
        فهناك ارتباطٌ بين القراءة التي سوف تقودك إلى معرفةٍ لأمورٍ مادّيّة أرضيّة، وقراءةٍ أيضاً سوف تقودك إلى معانٍ غيبيّة روحيّة.
فالقراءة ليست فقط هي علمٌ مادّيّ يقوم على المشاهدة والتّحليل والاستنتاج بعد ذلك، وتطوير هذا الاستنتاج إلى أمرٍ أو إلى آلةٍ أو إلى منتجٍ ينفع الإنسان أيّاً كان، وإنّما هناك القراءة التي تؤدّي بالإنسان إلى إدراك أنّ هناك غيباً، وبإدراك أنّ لا ملجأ للإنسان إلّا أن يلجأ لهذا الغيب، ليقوم في الجانب الرّوحيّ، ليُقوِّم حياته الرّوحيّة والمعنويّة.
وأنّه على الأرض من النّاس من لا يستطيعون أن يقرأوا إلّا القراءة الظّاهريّة، بل أنّ هناك من النّاس من لا يستطيعون أن يقرأوا قراءةً ظاهريّةً أو قراءةً تشير إلى الغيب، وهؤلاء هم من تشير إليهم الآيات "... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"[البقرة 171].
ونجد هذا في أرضنا، فنجد شعوباً لا تقرأ الحياة الظّاهريّة حولها، ولا تؤمن بالعلم المادّي،ّ ولا تحاول أن تتعلّم، ولا تحاول أن تتقن شيئاً، ولا تحاول أن تعرف علماً، فنجد حالهم في أدنى حالٍ، وفي أسوأ حال.
ونجد من الشّعوب من يعرف كيف يقرأ حياته الظّاهريّة وعلومه المادّيّة، ونجد حاله على هذه الأرض، في أحسن حالٍ، وفي أفضل حال.
وهناك من النّاس ومن الشّعوب ومن الأفراد من لا يقرؤون حياتهم الرّوحية والمعنويّة والغيبيّة، فنجد أنّ هذا الجانب مفقودٌ عندهم.
ونجد من النّاس من يستطيعون أن يقرؤوا هذا الجانب الغيبيّ في حياتهم، فيلجأون إلى الغيب بالدّعاء والرّجاء، فيكون حالهم الدّاخلي أفضل وأقوم.
هناك كلّ نوعٍ من الأنواع على هذه الأرض، النّاس تختلف وتتنوّع، وهناك كلّ المستويات، كلٌّ موجودٌ، وكلّ يعمل بما هو له أهل.
ما نريد أن نصل إليه، هو أنّنا بوجودنا لنا قدراتٌ وهبها الله لنا، فعلينا أن نفعّلها وأن نطوّرها، حتّى نكسب في الله أكثر. كلّ نفسٍ لها سعة، وكلّ إنسانٍ يستطيع أن يجعل سعته أكبر وعلمه أكبر، وهذه سنّة الحياة، التطوّر الدّائم، والعلوّ الدّائم، والمعراج الدّائم، ومحاولة الكمال الدّائمة، من كمالٍ إلى كمال، ومن حالٍ إلى حالٍ أفضل، ومن وجودٍ إلى وجودٍ أقوم.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، ومن الذين يستقبلون آيات الله، ويقرأونها، ويتفهّمونها، ويتطوّرون بقراءتها، ليكونوا أفضل وأحسن وأقوم.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّا نحاول دائماً، أن نقرأ آيات الله ونطبّقها على حالنا وعلى وجودنا، لنستطيع أن نصل إلى معانٍ تمكّننا من فهمها أكثر، ومن القيام فيها بصورةٍ أعمق، لا ننظر إلى ظاهر الكلمات فقط، وإنّما نربطها بواقعنا وبواقع الحياة، سواء في القديم أو في الحاضر، وندرك أنّ قادمنا سوف يكون أفضل بذلك، وأنّنا سوف نستطيع أن نقرأها أفضل في قادمنا، لو أنّنا صدقنا في رؤيتنا، وفي تفهّمنا لها، وفي النّظر حولنا، وفي أن تكون لنا نظرةٌ متكاملة في الحياة، وفي علاقتنا بربّنا، وفي علاقتنا بوجودنا.
هكذا نتذاكر بيننا، لا لنضيف معلومةً على معلوماتنا، وإنّما لندّرب أنفسنا أكثر على أن نتعلّم، وأن نتفهّم، وأن نقرأ بصورةٍ أعمق.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.        


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق