حديث الجمعة
25 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 12 يناير 2018م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشّيطان الرجيم،
نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، طالبين هدياً وهدايةً ورحمةً ومغفرةً، "...
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا
مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
عباد الله: تدبّروا آيات الله من خلال واقعكم،
ومن خلال أن تعكسوا البصر إلى داخلكم، واعلموا أنّ كلّ فهمٍ تفهمونه، هو فهمٌ من
مفاهيم، وهو إدراكٌ من مدارك، وهو نقطةٌ في بحر، "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"[الكهف 109].
لذلك، فإنّ أيّ فهمٍ يفهمه الإنسان من أيّ آيةٍ، لا يمثّل
الآية، ولا يحدّ الآية في هذا الفهم الذي فهمه، إنّما هي أكبر من ذلك بكثير، وهذا
ما نفهمه من معنى: "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ،
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 2، 3]، فالآية دائماً هي غيب،
ومفهومك لها هو ما ظهر منها.
لا نقول أنّ معنى ذلك، هو أن تقف أمام الآيات ولا تحاول
أن تفهم منها شيئاً، بأن تقول أنّها غيبٌ لا أستطيع أن أفهمه، وإنّما تحاول أن
تفهم فهماً، وفي نفس الوقت، تدرك أنّ هناك مفاهيم كثيرة لهذه الآية.
هذا منهج الإيمان بالغيب، والذي ينعكس أيضاً في معاملاتك
على هذه الأرض، وفيما تتّخذه من قرارات. فكلّ عملٍ تعمله، وكلّ قرارٍ تتّخذه، لا
يعني أنّك على إحاطةٍ كاملة بنتائج هذا العمل أو هذا القرار، إنّما هو ما تظنّه
اليوم أنّه الأفضل الأحسن والأقوم، فإدراكك لأنّ هناك ما لا تدركه، لا يجب أن
يوقفك عن فعل ما ترى بإدراكك أنّه الحقّ في هذه اللحظة، وبأنّه الصّواب في هذه
اللحظة.
هذا السّلوك المتّزن بين ما هو مشهودٌ لك وبين ما هو غيبٌ
عليك، هو الأمر الوسط، هو الاتّزان، هو الميزان، "أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ،
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ"[الرحمن 8، 9]، فالميزان هنا في هذا الموقف
الذي نتحدث عنه، هو الميزان بين ما تدرك وبين ما لا تدرك.
فعدم إدراكك، لا يجب أن يؤثّر على فعلك فيما تستطيع أن
تدركه. وما تستطيع أن تدركه، لا يجب أن يجعلك مغروراً بإدراكك بأنّه الحق المطلق،
وأنّه الصّواب المطلق ـ فهناك بعدٌ آخر لا تدركه في هذه اللحظة، وإذا ظهر لك من
هذا الغيب أمراً جديداً، غيّرت اتّجاهك إلى الصّواب الذي رأيته.
وهذا هو معنى عدم الكبر وعدم التّكبّر، وهذا معنى: "الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، وهذا هو حال الإنسان الذي
يخشى الله، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
..."[فاطر 28].
عباد الله: إنّنا نتحدّث كثيراً عن الغيب
والشّهادة، عن الباطن وعن الظّاهر، وهذا المعنى موجودٌ في أمورٍ كثيرة في حياتنا،
موجودٌ في ذكرنا، وموجودٌ في معاملاتنا على أرضنا، وموجودٌ في تعاملنا مع بعضنا
البعض، موجودٌ في القوانين التي نسنّها، وفي القواعد التي نضعها، وفي العلوم التي
نبحث فيها.
فالإنسان دائماً هو قيامٌ يدرك ولا يدرك، يرى ولا يرى،
يعمل ولا يعمل، يبحث فيما يرى ويعلم أنّ هناك ما لا يرى، وهكذا في كلّ حالٍ، وفي
كلّ عملٍ، وفي كلّ سلوكٍ، وفي كلّ ذكرٍ، هكذا حال الإنسان. والاستقامة، هي ما نطلب
في هذا الحال، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..."[الفاتحة 6، 7].
وهذا أيضاً يتّضح في الآيات: "فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ
وَاتَّقَىٰ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ"[الليل 5 ـ 7]، واليسرى، هي الاستقامة بين
الظّاهر والباطن. "وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ،
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ"[الليل 8 ـ 10]، والعسرى، هي عدم الاتّزان بين
الظّاهر والباطن.
وعدم الاتّزان بين الظّاهر والباطن، يتمثّل في التّواكل
بظنّ أنّ الإنسان لا يعرف شيئاً، ولا يدرك شيئاً، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً ـ هذا
نوعٌ من عدم الاتّزان. والواقع الذي أمامه، أنّه يستطيع أن يفعل كذا ولا يفعل كذا.
والإسراف في الاعتزاز بالنّفس، واعتقاد أنّه يملك كلّ
الخيوط في يده ـ هو عدم اتّزانٍ في الاتّجاه الآخر، حيث يتصوّر قدرته، وقدرته
محدودة في واقع الأمر، ولا يستطيع أن يحيط بكلّ شيء، وهذا يتمثّل في حال الإنسان
الذي "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ..."[القصص 78]، يعتزّ بعلمه، ويعتقد أنّ علمه
هو كلّ شيء.
وكلّ إنسانٍ في سلوكه، فيه نوعٌ من عدم الاتّزان. والسّلوك
في الطّريق، هو المحاولة للاقتراب من الاتّزان. وكلّ فعلٍ فيه اتّزانٌ، هو كسبٌ
للإنسان في طريقه الحقيّ. وأيّ سلوكٍ فيه عدم اتّزانٍ، هو اكتسابٌ للإنسان في
طريقه الحقيّ. والفرق بين الكسب والاكتساب ،هو بين الفعل والافتعال.
فالفعل، هو أن يأتي عن طريقٍ سليمٍ في تأديتك له، تفعل
بفطرتك، وبصدقك، وبما ترى أنّه الصّواب، بدون تكلّف وبدون انحياز، وإنّما باتّزانٍ
وعدل، هذا هو الفعل الطّبيعيّ الحقّيّ، الذي يصدر منك بطبيعتك وفطرتك.
أمّا إذا حاولت أن تفتعل أمراً ـ بظنّك، وبسوء فعلك،
وبسوء ظنّك ـ أن تفتعل الكرم، أو أن تفتعل العطاء، أو أن تفتعل أيّ صورةٍ وأيّ شكل،
لا ينبع ذلك من داخلك، وإنّما ترجو من النّاس مديحاً، أو أن يضعوك في صورةٍ معيّنة.
وهذا هو معنى الحديث القدسيّ، أو ما نفهمه بمعنى أدقّ من
الحديث القدسيّ، من [أنّ الإنسان يجيئ ويقول لربّه: إنّي أعطيت فلاناً، أو إنّي
علّمت فلاناً، فيقول له: ما علّمته إلّا لأن يقولوا عنك عالماً، وما أعطيته إلّا
ليقولوا عنك كريماً](1)، فهنا، هو معنى الافتعال.
الافتعال عليك، والفعل لك، وهذا معنى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ..."[البقرة 286].
عباد الله: إنّ ما نقوله، هو فهمٌ. فإذا
قلنا أنّ هذا هو معنى كذا، فهذا هو فهمنا، نظنّ ذلك، وإنّما كما بدأنا حديثنا، فإنّ
كلّ فهمٍ في آيةٍ ،هو فهمٌ من مفاهيم، وهو معرفةٌ من معارف، وأنّا لن نحيط بشيءٍ
إلّا بإذن الله، وإلّا بعطاء الله، وإلّا بمشيئة الله، "... وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ..."[البقرة 255].
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لما فيه
خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو
فهمٌ في الاتّزان بين الغيب والشّهادة، وكيف أنّ هذا الاتّزان يساعد الإنسان في
حياته، وفي معاملاته، وفي كلّ أحواله. وأنّ هذا الاتّزان هو هدايةٌ من الله، لذلك،
"... مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، هذا هو القانون المجرّد.
ولكن بوجودنا المقيّد، فإنّ علينا أن نسعى لذلك بما
نستطيع، وهذا في حدّ ذاته، هو اتّزانٌ بين الغيب والشّهادة، بأن ندعو الله، وأن نتّجه
إلى الله، كما ندعوه في كلّ صلاةٍ في الفاتحة، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ".
إذا كان الإنسان بإدراكه يستطيع أن يغّير في تصرفاته بألّا
تكون مفتعلة، وإنّما تكون نابعةً من قلبه، ومن فطرته، وممّا يرى أنّه الحقّ ـ فهذا
يكون له تأثيرٌ طيب على سلوكه. وإذا كان الإنسان بعقله يستطيع أن يسيطر على أفعاله،
فلا يجعلها مفتعلة، فهذا أيضاً سلوكٌ طيب.
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك، فعليه أيضاً أن
يتّجه إلى الله، وأن يدعو الله، وأن يحاول مرّةً ومرّةً ومرّة، لا ييأس من رحمة
الله، ولا ييأس من روح الله، ولا ييأس من دعاء الله، وإنّما يطلب دائماً، ويدعو
دائماً، ويذكر دائماً.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون متّزنين في
حياتنا، وأن نكون دائماً طالبين داعين، وأن نكون دائماً محاولين مجتهدين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
.يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا،
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
______________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق