حديث الجمعة
18 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 5 يناير 2018م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود
وجهه.
"... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ..."[ألأعراف 43].
عباد الله: إنّنا حين ننظر في تاريخنا،
وفي حاضرنا، وفي تراثنا، وفي تراث البشريّة كلّها، نجد النّاس مختلفين، كلٌّ يؤيّد
دينه، كلٌّ يؤيّد مذهبه، كلٌّ يؤيّد فكره وفلسفته، وهذا طبيعيّ، وأيضاً قد يجد في
معارضيه أنّهم على خطأ، وهذا أيضاً طبيعيّ.
لكن ما نراه أنّه لا يسير مع المنطق القويم، هو أن يكون
هذا الحكم حكماً مطلقاً، فهذه رؤيتك، وهذا ظنّك، وهذا اعتقادك، ولكنّه اعتقادٌ
احتماليّ، يحتمل الخطأ والصّواب، يحتمل أن تكون أنت على خطأ وأن يكون الآخر على
صواب، وإن كنت ترى أنت عكس ذلك.
ومع بساطة هذا الأمر؛ لأنّ أيّ إنسانٍ لا يستطيع أن يدّعي
أنّه الحقّ المطلق، إلّا أنّنا جميعاً قد ننزلق في هذا الاتّجاه، وهو الكبر بما
عرفنا، والاعتزاز بما تعلّمنا، فلا نعطي أيّ احتمالٍ أن نكون في خطأٍ مّا، أو على
خطأٍ فيما نعتقد.
وأن تعطي احتمالاً لأن تكون على خطأ ،لا يعني أنّك لا
تؤمن بما تعتقده، بل أنّ هذا يعني أنّك تؤمن بما تعتقده؛ لأنّك تعلم تماماً أنّه
ليس هناك من يستطيع على هذه الأرض أن يقول أنّه يعلم ما هو حقٌّ مطلق.
فكما قلنا يوماً: إنّ الحقّ المطلق، هو أن تعلم أنّك لا
تعلم، وهذا هو معنى الإيمان بالغيب. فطالما هناك غيبٌ، تكون هناك نسبيّة في فهمك
واعتقادك وإدراكك، لأنّك تدرك فيما تحيط به من شهادة، والشّهادة ناقصة يكملها
الغيب.
لذلك، فإنّ الإيمان بالله، هو إيمانٌ بالغيب. فإذا تصوّر
أيّ إنسانٍ، اللهَ في صورةٍ معيّنة، وأصرّ على هذه الصّورة، فقد جسّده، وجسّمه،
وعبد وثناً من فكره ومن خياله. وفكرة الوثنيّة التي مرّت بها البشريّة لم تنته،
فهي موجودةٌ دائمة.
والوثنيّة ليست في صنمٍ من حجر، ولكنّها في صنمٍ من فكرٍ
أيضاً. فإذا جسّدت صورةً في أيّ شكلٍ مّا، وهذا ما يفعله الكثيرون في كثيرٍ من
الأحيان، حين يتصوّرون ـ مثلاً ـ في حادثةٍ معيّنة، يجدون فيها ظلماً أو ظلاماً،
فيقولون: لماذا يفعل الله ذلك؟ وأنّه قطعاً سوف يغيّر ذلك. ومن أدراك بـ "قطعاً"
هذه، لقد صوّرته في خيالك بأنّه سوف يفعل فعلاً معيّناً، حتى لو كان هذا الفعل في
ظنّك أنّه العدل، وأنّه الأحسن، وأنّه الأقوم ـ إلّا مجرّد أن تقول: أنّ الله سوف
يفعل كذا بالقطع، هو توثينٌ وتصنيم.
ولذلك كانت الآيتين: "ذَٰلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
..."[البقرة 2، 3]، فالكتاب هو هدىً لمن يؤمنون
بالغيب، أمّا الذين يحدّدون كلّ شيء، فإنّهم لن يكون الكتاب هدىً لهم؛ لأنّهم سوف
يقرأونه على حرف، وسوف لا يعتبرون أنّ له جانباً غيبيّاً، وطالما أنّ له جانباً
غيبيّاً، فسوف يكون هناك اختلافٌ دائمٌ في فهم الإنسان لآياته في الواقع المادّيّ
الدّنيويّ.
وإذا تصوّر إنسانٌ أنّه يعرف الآيات المحكمات التي قيل
فيها: "... مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
..."[آل عمران 7]، فإذا تصوّر إنسانٌ أنّه يعرف هذه الآيات المحكمات، فهو يتعدّى بذلك أيضاً
على الغيب. الآيات المحكمات هي آياتٌ تضع إطاراً عامّاً شاملاً، وتؤكّد على أهليّة
الإنسان، وعلى اختلاف النّاس، وعلى قائمٍ واقعٍ في الحياة، ولكنّها لا تقول لك
إفعل كذا ولا تفعل كذا بصورةٍ حرفيّة شكليّة.
فكلّ أمرٍ، وكلّ فعلٍ على الأرض، هو مرتبطٌ بما يُصلِح
الإنسان على هذه الأرض ـ من منظوره ـ؛ لأنّه لا يمكن ويستحيل أن يفعل إنسانٌ فعلاً
وهو يعلم تماماً أنّه لن يُصلِح حالاً على هذه الأرض، ويقول أنّ هذا أمر الله، لن
يستطيع إنسانٌ أن يفعل ذلك.
ولو فعل ذلك لخالف ما أمره الله به من أن يُعمِل عقله،
وهو يوضّح ذلك له، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
..."[العنكبوت 20]، إنّه يأمره بإعمال عقله وتفكّره، وأن ينظر في أحواله بما أعطاه من نعمة
العقل، فإذا كان الأمر كذلك، فالإنسان مطالبٌ بذلك دوماً، والإنسان عليه أن يُعمِل
عقله وأن يفعل ما يراه في صالحه وفي صالح مجتمعه.
فالإِحكام هنا، هو في التّطابق بين الإرشاد الربّانيّ
وبين الواقع المُعاش الذي يرى فيه الإنسان حكمة الله في خلقه في ظاهره، فيرى أنّ
ما يحدث في الواقع يتناسب مع ما يدركه بعقله في أمورٍ كثيرة، وما لا يستطيع إدراكه،
فهو يتركه للغيب ولا يستطيع أن يعطي فيه حكماً.
فإذا توافرت شروط الواقع، وعرف الإنسان في واقعه شيئاً،
عليه أن يتّبعه ـ وإن كان هناك احتمالٌ لأن يكون فيه خطأ ـ فهو أيضاً واقعٌ نسبيّ،
إلّا أنّ هذا هو الحقّ بالنّسبة له. فإذا توافق ما فهمه من آياتٍ مع واقعه الذي
يدركه، فهو ـ بالنّسبة له ـ قد رأى فيه إحكاماً، وإن أدرك بعد ذلك أنّه على خطأ،
أدرك أنّه لم يفهم هذه الآية، وليست هي في المعنى الذي كان يدركه، فأكبرها عن ظاهر
فهمه، إلى فهمٍ آخر.
فالإِحكام هنا، هو إِحكامٌ نسبيّ يتناسب مع الواقع،
ويتناسب مع الإنسان، ويتناسب مع المجتمع، ويتناسب مع متغيّراتٍ كثيرة. ويحدث الإِحكام
بفهم الإنسان لما يُقال له في آيات الله، وما يُقال له في آياته في الكون، وفي
آياته في المجتمع.
فالإِحكام هنا، هو إحكامٌ متكامل، وليس مجرّد كلماتٍ يفسّرها
إنسانٌ بفهمه، أو بإرادته، أو بلغته، وبإدراكه، أو بمستواه، أو بأيّ صورةٍ أخرى،
إنّما هو إحكامٌ يتناسب مع الواقع، ويتناسب مع الحال.
عباد الله: إنّ النّاس لو أدركوا بعضاً من
هذه الأمور، لاحتملوا بعضهم البعض، ولعرفوا أنّ ما فيهم من حياة يجعلهم يقبلون أن
يتعاونوا، وأن يتكاتفوا، وأن يبحثوا عن الحقيقة. كلٌّ يبحث عن الحقيقة، وكلٌّ يرى
جانباً منها، ولا يتصارعون ويتقاتلون على فهمٍ في حقيقة. فالحقيقة أكبر من أيّ فهمٍ
يفهمه أيّ فريق، وإنّما هي جامعةٌ شاملة، وكلٌّ يرى منها جزءاً، ولكن هذه طبيعة
البشر.
وأيّ إنسانٍ يرى ما يُصلِح هذه الطّبيعة، عليه أن يتكلّم
به، وأن يدعو إليه، بغضّ النّظر عن أنّ هذا سوف يكون، أو أنه سوف يُتّبَع، فهناك
من يَتّبِع وهناك من لمٍ يَتّبِع. ونحن نتكلّم في ذلك كثيراً، بأنّنا نَتّبِع"
"فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى"[الأعلى 9 ـ 11].
فالتّذكير هو واجبٌ على الإنسان، حتّى وهو يدرك أن ما
يذكّر به ليس حقّاً مطلقاً، إنّما عليه أن يقدّم شهادته، وأن يقدّم ما يراه، وأن
يقول للنّاس هذا ما عرفته وهذا ما أدركته، إن توافقتم معي فاتّبعوه، وإن لم تتّفقوا
فاتركوه، هذه قضيتّكم
"وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
..."[الإسراء 13]، و "... كلّكم راعٍ،
وكلّكم مسئولٌ عن رعيته ..."(1)، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 7، 8]، فالقضيّة هي قضيّة الإنسان،
وهذا التّواصي بين النّاس جميعاً مطلوبٌ، ولكن المسئوليّة هي مسئوليّة كلّ إنسانٍ
فيما يعتقد وفيما يدرك.
نسأل الله: أن يوفّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو
أنّ اعتقاد الإنسان في أنّه على صواب وأن غيره على خطأ، هو أمرٌ طبيعيّ، ولكن ما
نقوله هو: أنّ هذا الاعتقاد هو اعتقادٌ نسبيّ، وليس مطلقًاً، بمعنى أنّ عليك أن
تعطي نسبةً من الخطأ لما تعتقده، وأن تعطي نسبةً من الصّواب لما يعتقده الآخرون.
وبهذا، يمكن للجميع أن يتواصوا بالحقّ ويتواصوا بالصّبر،
ويعلموا أنّ كلّاً منهم يرى الصّورة من وجهة نظره، وأنّ الصّورة أكبر من ذلك بكثير،
فالحقّ أكبر من أيّ صورةٍ يراها الإنسان. وهذا الاعتقاد، هو اعتقادٌ أساسيّ، لأن
تقرأ آيات الله وكتاب الله، "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...".
المتّقين الذين يخشون ربّهم، الذين يدركون هذا المعنى
بأنّهم ربّما يكونون على خطأ، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ ..."[فاطر 28]، فالعلماء هم الذين يدركون أنّه ربّما يكون علمهم
ليس كاملاً، بل أنّهم على يقينٍ بذلك، والحقّ المطلق هو أن تدرك أنّك لست على حقٍّ
مطلق ـ كما نقول ذلك دائماً ـ وإنّما تدرك أنّك في إدراكك، تدرك حقّاً نسبيّاً.
بهذا الفهم وبهذا المعتقد، سوف تستطيع أن تقرأ آيات الله،
وأن تتقبّل كلّ فهمٍ لها، وكلّ صورةٍ يمكن أن تفهمها منها، بل تدرك أنّ ما فهمته
أنت هو فهمٌ نسبيّ، وهناك فهمٌ آخر. ولذلك، حين تحاول أن تطبّق مفهومك على الواقع،
يجب أن تقرأ الواقع، ويجب أن تقرأ تجارب الإنسان وتجربة المجتمعات على هذه الأرض،
في واقع هذه الأرض، ومن خلال قوانينها، ومن خلال ما هو معروفٌ أنّه أصلح لها، وأقْوَم
لسلوكها ولنجاحها ولارتقائها.
فمعرفة وقراءة آيات الله، يكون فيها هدىً للذين يؤمنون
بالغيب. أمّا الذين يجسّدون كلّ شيء، فإنّهم لن يستطيعوا أن يقرأوا آيات الله وأن
يكون الكتاب هدىً لهم؛ لأنّهم سوف يجسدونه ويصنمونه ويحولونه إلى شكلٍ مادّيّ حرفيّ،
لا يقبل إلّا صورةً واحدة، وهذا عكس مفهوم الغيب، وعكس مفهوم أنّك لا تستطيع أن
تدرك الغيب، "... وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ
..."[ البقرة 255].
نسأل الله: أن يوفّقنا أن نكون من الذين يؤمنون بالغيب،
ومن الذين يقرؤون آيات الله بحقّ، وأن يكون الكتاب هدىً لنا بإيماننا بغيبه،
وبإيماننا بالغيب.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
______________
(1) جاء بسنن الترمذي: عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال " ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي
على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ،
والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول
عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق