حديث الجمعة
30 جمادى الأول 1439هـ الموافق 16 فبراير 2018م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من
تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقّ موجّهٌ إليكم، ليس موجّها للذين غفلوا عن ذكر
الله، والذين جعلوا الدّنيا ربَّهم والعاجلة إلههم، موجّهٌ لـ "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ..."[آل عمران 191]، موجّهٌ لـ "...الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..."[الأنعام 52]. هكذا نقول ونردّد دائماً.
هل عرفنا حقّاً ما هو معنى التّجمع على ذكر الله؟ وما هو
ذكر الله أوّلاً؟ هل ذكر الله في أن تسبّح بأسمائه، أو باستغفاره، أو بالصّلوات
والسّلام على رسوله؟ هل ذكر الله هو في إقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان،
والحجّ إلى بيت الله؟ إنّه كلّ ذلك وأكثر. إنّه كلّ ذلك يوم تقوم في كلّ أمرٍ وفي
كلّ شعيرةٍ وأنت تتدبّر فيها، وتتأمّل في القيام بها. إنّه أيضاً في كلّ معاملاتك،
وفي كلّ أحوال حياتك، يوم تكون ذاكراً الله فيها.
ذكر الله، هو أن تستحضر معنى علاقتك بالغيب في كلّ لحظةٍ
وحين، إنّه الإحساس بالغيب دائماً، إنّه القيام في معنى: "... إن لم تكن تراه، فإنّه يراك ..."(1). إنّ قيامك في معنى: "إن
لم تكن تراه، فإنّه يراك"، هو أنّك تراه، فرؤيتك له هي رؤية غيب، الإيمان
بالغيب، فهو مع أنّه غيبٌ، فإنّك تؤمن به، فإذا آمنت به، أصبح شهادةً، حتّى وإن
كنت لا تراه.
لذلك، قال من قال: [كيف أعبد ما لا أرى؟](2)، فقد رآه منعكساً في الشّهادة،
رآه في كلّ ما يحدث له وفي كلّ ما يصدر عنه، رآه في نفسه الزّكيّة، ورآه في نفسه
الأمّارة بالسّوء، رآه في رحمانه وفي شيطانه، رآه فيما يصيبه من خيرٍ وما يصيبه من
شرّ.
وأصبح برؤيته له في كلّ أمرٍ، مُكبِراً إيّاه عن أيّ صورةٍ يحبّها أو يكرهها، وقد
أدرك أنّ الحبّ والكُره ـ من وجهة نظره ـ لا يعنيان شيئاً بالنّسبة لعلاقته بالله،
إنّهما فقط مقياسٌ ليستطيع أن يتحرك على هذه الأرض وليعيش عليها، أمّا الله فهو
أكبر ممّا يحبّ وأكبر مما يكره، وهو يعلّمه ذلك في قوله: "...عَسَى أَن
تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ..."[البقرة 216].
إستحضار معنى الغيب، إستحضار معنى أنّك لا تعرف، إستحضار
معنى أنّك لا تستطيع أن تحكم، إستحضار معنى الافتقار إلى الله، الافتقار إلى الغيب،
إستحضار معنى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 3].
"إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ،
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا"[النصر2،1]، جاء أمرٌ كنت تراه بعيداً،
كنت ترى النّاس وهم في غفلةٍ عمّا بين أيديهم من نعمة، ثم جاء ما أيقظهم ـ "فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ..."[النصر 3]، وهنا نجد إضافة الاستغفار
للحمد ـ كما نتدبّر دائماً ـ من أنّ كلّ أمرٍ وأنت ترى فيه فتحاً وتغييراً إلى
الأفضل ـ بمقياسك ـ فأنت تحمد الله عليه، وفي نفس الوقت تستغفر الله.
تستغفر الله من حمدك له، وتحمد الله على استغفارك له.
فحمدك لله على رؤيةٍ رأيتها أنّها الأفضل، هو أمرٌ يجب أن تستغفر عنه، فماذا لو لم
يحدث ذلك؟ واستغفارك عن أمرٍ استقبحته، هو أمرٌ يجب أن تحمد الله عليه، أن جعلك
كذلك، أن جعلك تتغيّر إلى الأفضل، وأن تحاول أن تكون مع الأفضل كما تراه،
فاستغفارك هنا، هو أمرٌ تحمد الله عليه، أن جعلك كذلك.
فذكر الله، هو أن تكون في هذا الحال، الذي يحمد ويستغفر
في نفس الوقت، الذي لا يحكم أحكاماً مطلقة، الذي يشعر بافتقاره إلى العلم والمعرفة،
وبافتقاره إلى توفيق الغيب له. وأي قيامٍ يساعدك على فهم ذلك، وعلى القيام في هذا
الحال الذي هو حال الافتقار إلى الله، يكون ذكراً لله. وأيّ حالٍ يجعلك شاعراً
بعظمةٍ وكبرٍ وإحساسٍ بالإحاطة، هو بعدٌ عن أن تكون ذاكراً لله.
لذلك، فإنّا يوم نجتمع على التّواصي بالحقّ والصّبر
بيننا، يوم نجتمع على أن نذكّر أنفسنا بذلك، يوم نجتمع على الدّعاء والطّلب والرّجاء،
يوم نجتمع على طلب الصّلة وإقامة الصّلاة، يوم نتواصى بالحقّ والصّبر بيننا؛ لأنّ
كلّ فردٍ منّا يريد أن يتعلّم من الآخر، في غير تكبّرٍ، بل في تواضعٍ وافتقارٍ ـ
يوم نقوم في كلّ ذلك، أو في أيٍّ من هذه الأحوال، فإنّنا نكون مجتمعين على ذكر
الله.
فالاجتماع هنا، هو اجتماعٌ على حالٍ وليس اجتماعاً
لأجسادٍ، وذكر الله هو حالٌ وليس فعلاً بذاته، فقد تكون مسبّحاً ولكنّك لست ذاكراً،
قد تكون مؤدّياً لشعائر الصّلاة ولكنّك لست ذاكراً، قد تكون متواجداً بجسدك مع
إخوانٍ لك في الله، أو على تحدّثٍ في أمورٍ لها علاقةٌ بوجودك المعنويّ، ولكنّك لا
تكون ذاكراً.
الذّكر، هو أن تُخلي وجودك كلّه من أيّ فكرةٍ مسبّقة،
ومن أيّ حالٍ مسبّق، أو فكرةٍ، أو عقيدةٍ، أو إحساسٍ، أو قرارٍ، أو مفهومٍ. إنّه
حال تَقبُّلٍ واستقبال، حال تَخلٍّ عن أيّ صورةٍ أو شكل، طلب الحقّ دون أن نحدّد
له صورةً، طلب الاستقامة دون أن نحدّد لها شكلاً.
هكذا نقوم ونجتمع على ذكر الله ـ كما نتأمّل ونتدبّر ـ
وأيضاً نقول: أنّ هذا في حدّ ذاته هو محاولة، وقد لا يكون كذلك؛ لأنّنا نعرف دائماً،
أنّ أيّ صورةٍ مهما وصلنا إليها أو تصوّرناها، فالحقّ أكبر من أيّ صورة.
فالصّمت قد يكون أبلغ من الكلام في ذلك، الصّمت تعبيرٌ
أفضل عن حال الإنسان في ذكره لله عن أيّ كلامٍ يصف ذلك، فإذا وصلنا لهذا الحدّ من
التّأمّل والتّفكّر، فعلينا أن نصمت، وأن نرجع بصمتٍ إلى داخلنا.
نسأل الله: أن يجعلنا من "الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، وأن نعرف أنّ التّأمّل
والحديث بالقلب من الدّاخل، قد يكون أبلغ كثيراً من أيّ حديثٍ باللسان.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول
الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم في
معنى ذكر الله: هو أنّ ذكر الله في مفهومنا، في لحظتنا هذه، وفي موقفنا هذا، هو
إحساس الإنسان بالتّخلّي عن أيّ صورةٍ أو شكل، وأنّ هذا الإحساس لا يمكن وصفه
بالكلام، وإنّما هو حالٌ يشعر به الإنسان. وإذا كنّا نتكلّم عن هذا الحال؛ فلأنّ
الكلام هو الوسيلة الوحيدة التي نتواصل بها في ظاهر وجودنا، وإن كان ليس الوسيلة
الوحيدة للتّواصل في باطن وجودنا. ونحن في حاجةٍ للتّواصل بظاهرنا وباطننا.
وفي الظّاهر ليس لنا إلّا أن نتحدّث، وإنّما ما يحمله
الحديث هو أكبر من الكلمات، إنّه قد يكون انتقال حالٍ إلى حال، وقيامٍ إلى قيام،
ومفهومٍ مجرّد إلى مفهومٍ مجرّد ـ من إنسانٍ لإنسان، من قلبٍ لقلب، من عقلٍ لعقل،
من روحٍ لروح، من نورٍ لنور، من حقٍّ لحقّ.
فعلينا أن ندرك ذلك، وأن نتدبّر ذلك، وأن نفتح قلوبنا
لنتلقّى ولنستقبل فيوضات الله التي يرسلها لنا بأدواتٍ كثيرة، من استماعٍ لكلمات،
ومن آياتٍ تتجلّى في أحداث، ومن رسائل قديمة، ومن رسائل حديثة، ومن رسائل من كلّ
مكانٍ في عالمنا، نستقبلها بعقولنا وقلوبنا وأرواحنا.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون في دائم
ذكرٍ له، وأن نكون في دوام اجتماعٍ على ذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا
همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق