السبت، 24 فبراير 2018

هل يربط الإنسان بين حاله وبين ما يصيبه من خير أو شر؟ الصدق مع النفس


حديث الجمعة 
7 جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 23 فبراير 2018م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائماً لله، والشّكر دائماً لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تتدبّرون ما خلق الله، ويا من تذكرون الله ـ حديث الحقّ موجّهٌ إليكم، يعلّمكم ويرشدكم. يقول لكم في أنفسكم قولاً بليغا، يحمّلكم الأمانة، ويحمّلكم الرّسالة، "... كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئولٌ عن رعيته ..."(1).
هذه المسئوليّة، تُحتّم عليكم أن تحكموا في أمور حياتكم برؤيتكم، وبعلمكم، وباعتقادكم، وبواقعكم. لا تحكموا نتيجة خيالاتٍ، أو توهُّماتٍ، أو كلماتٍ سمعتموها لا تعرفون لها مصدراً، أو خرافاتٍ توارثتموها لا تعرفون لها أصلاً، ولا آياتٍ فسّرتموها لا تعرفون مدى صدقكم في تفسيرها، وما حجّتكم فيما فسّرتموه.
لو أنّ كلّ إنسانٍ تفكّر وتدبّر، أنّ أمامه قضيّةً يريد أن يحكم فيها، وأن ينظرها، هل يستطيع أن يحكم بظنٍّ؟ هل يستطيع أن يحكم نتيجة كلمةٍ سمعها، دون أن يثق فيها، أو أن يعقلها، أو أن يتأمّلها بعمق؟
إنّ كلّ كلمةٍ يطلقها الإنسان هي حكمٌ في قضيّة. إنّ تصوُّر الإنسان لعلاقته بالله، هي حكمٌ في قضيّة. وقد يجد الإنسان نفسه في لحظةٍ مّا، لا يستطيع أن يحكم أو أن يقرّر، فأفضل حكمٍ له أن يقول أنه لا يدري. وهذا ما نذاكر فيه كثيراً عن معنى الغيب، فالغيب هو خيارك في أمورٍ كثيرة، لا تستطيع أن تحيط بأبعاد قضيّةٍ وُجِدْت فيها، وقُدِّمت لك.
وكما قال السابقون: [من قال لا أدري فقد أفتى](2)، إنّها كلمةٌ فيها حقٌّ كثير، ليس فقط في أنّك تعترف بأنّك لست على علمٍ بقضيّةٍ مّا، قد يكون إنسانٌ آخر على علمٍ بها، ولكن أيضاً أنّها قد تكون قضيّةً لا يعلمها أحد، ولا يستطيع أحدٌ أن يعلمها.
إنّ هناك تصوّراتٍ في علاقة الإنسان بالله، في أن يربط بين سلوكه وبين عطاء الله له، أو بين منع الله عنه، "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ"[الفجر 15، 16]، فهنا إشارةٌ إلى تصوُّر الإنسان لعلاقته بالله.
وسياق الآية، يوضّح أنّ الأمر ليس كذلك، "... وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ..."[البقرة 216]، فقضيّة النّعمة والنّقمة، العطاء والمنع، ما يصيبك من خيرٍ وما يصيبك من شرّ، هي قضيّةٌ أكبر من أن يكون لها علاقةٌ مجسّدة في تصرفاتك، وإن كانت هناك علاقةٌ بين تصرفاتك وما يحدث لك، وإنّما طبيعة هذه العلاقة لا يعلمها إلّا الله.
يمكنك أن تتأمّل فيما يحدث لك لتتعلّم، حين تنظر وتعكس البصر إلى نفسك، وتجد أنّ ما أصابك يعلّمك شيئاً لتُحسِّن قيامك وحالك، وهذا ما نراه في الحياة الظّاهرة لنا، فيما نتعلّمه من ممارساتنا عليها.
فأنت قد تأخذ دواءً فلا ترى له نتيجةً، بل قد تجد له أثراً سيّئاً عليك، فتبتعد عن هذا الدّواء. فهي تجربةٌ تمرّ بها وتتعلّم منها، فما أصابك نتيجة هذا الدّواء هو ليعلّمك، فإذا لم تلاحظ ذلك، واستمررت في أخذ هذا الدّواء، فإنّه سوف يؤثّر تأثيراً سيّئاً عليك.
فتفاعل جسدك مع هذا الدّواء ـ إذا أردت أن تقول ـ هو إشارةٌ من الله إليك، يوم خلق لك في جسدك إشاراتٍ وأدواتٍ يمكنها أن تعلّمك وترشدك، بل إنّ الألم في بعض الأحيان، هو علامةٌ صحيّةٌ لترشدك أنّ هناك شيئاً خطأ. إنّنا نضرب هذا المثل لنتعلّم مما يحدث لنا.
وفي أحيانٍ أخرى، لا تعرف لماذا حدث لك هذا الحادث، ومحاولاتك أن تربط بين هذا الحادث وبين حالك هو دربٌ من التّخمين. إذا ربطت بين ما يحدث لك من أحداث الحياة وحالك المعنويّ، فتتصوّر أنّك إذا أصابك سوءٌ هو نتيجة أنّك انحرفت عن الطّريق، فهذا دربٌ من التّخمين، فكلّ النّاس يصيبها السّوء، الصّالح والطّالح. وإذا تصوّرت أنّك إذا أصابتك نعمة فهذا لأنّك على درجةٍ في الله، أو أنّ استقامتك هي التي جلبت لك ذلك، فهذا دربٌ من التّخمين، فالكلّ تصيبه النّعم، الصّالح والطّالح.
[لو كانت الدّنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها جرعة ماء](3)، هي تعبيرٌ دقيقٌ عن ذلك، فالله يرزق الجميع، ويوفّق الجميع في حياتهم الأرضيّة؛ لأنّ القضيّة ليست قضيّة عطاءٍ أو منع، وإنّما هي قضيّة الإنسان في إدراكه، وفي وعيه، وفي محاولة أن يفهم رسالته على هذه الأرض، ما هي رسالته؟ ماذا يفعل؟
لذلك، فما يستطيع أن يعرف الإنسان أسبابه، هو ما يمكنه أن يتفاعل معه بالعقل وبالفعل وبالاستجابة، أمّا ما لا يستطيع أن يعرف أسبابه، فهو أمرٌ يجب ألّا يتعامل معه على أساس سببٍ ومسبّب، وإنّما يتعامل معه على أساس إيمانٍ وتفكيرٍ في كيف يتعامل مع هذا الذي حدث له، وما هي الاستقامة في استقباله له.
"الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"[البقرة 156]، فـ " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" تعني أنّنا لا نعلم ما حدث لنا، وأنّ أيّا كان ما حدث لنا، ففيه حكمةٌ لا نعلمها، وإنّنا على الدّرب سائرون، محاولون أن نكمل حياتنا، وأن نستقيم في طريقنا، وأن نتعامل بما نرى أنّه الحقّ، وأنّنا بذلك متمسّكون، وعلى الدّرب سائرون.
إنّ الصّورة النّمطيّة في ذهن كثيرٍ من النّاس على هذه البشريّة، أن تربط بين ما يصيب الأمم وحالها، كقضيّةٍ غيبيّة، وكقضيّةٍ إلهيّة. والواقع، أنّ الأمم عليها أن تفكّر فيما تستطيع أن تفعله، ولا تسير وراء خيالاتٍ، أو خرافاتٍ لا تستطيع أن تحيط بها، فكما أنّ الإنسان لا يجب أن يكون كذلك، فإنّ الأمم أيضا ًلا يجب أن تكون كذلك.
إنّ النّاس قد يفهمون من بعض الآيات غير ذلك، وقضايا كثيرة ذُكِرت في آياتٍ، "وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ"[الفجر 10 ـ 13]، وحين نفهم نحن هذه الآية، نفهمها على ما أشرنا إليه، "فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ"، وما نتيجة الفساد؟ نتيجة الفساد هي خرابٌ وضياعٌ، هي عذابٌ، هذا هو القانون الإلهيّ، العمل ونتيجته، فهذا شيءٌ طبيعيّ طبقا لقانون الحياة.
وقارون، "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ"[القصص 81]، أيضاً تعبيرٌ عن إنسانٍ لم يقدّر ما أعطاه الله من نعمة، فلم ينفق في سبيل الله، فالنّتيجة الطّبيعيّة أيضاً هي أن تنقلب عليه الأمّة والمجتمع، وأيضاً أن يفقد ما عنده لسفهه وعدم إدراكه لما أنعم الله به عليه، إنّها نتيجةٌ طبيعية، ولكنّنا يحلو لنا أن نتصوّر أشياءً غيبيّة تحدث نتيجة هذا الفعل. الأفعال السّيئة تؤدّي إلى السوء بطبيعتها، والأفعال الخيّرة تؤدّي إلى خيرٍ بطبيعتها، والغيب أعلى من أيّ صورةٍ نتصوّرها.
هكذا نتأمّل ونتدبّر، حتى لا نسير وراء خيالاتٍ، أو وراء خرافاتٍ، أو ننشغل بقصصٍ من هنا أو هناك. فلينظر كلّ إنسانٍ إلى ما يستطيع أن يقدّمه للبشريّة، وما يستطيع أن يفعله لخير الإنسانيّة، وما هو قادرٌ عليه، وأن يفصل في قضية وجوده بما يرى هو أنّه الحقّ وأنّه الخير، هكذا يتغيّر الإنسان، ويكون قد أدّى الأمانة التي حملها.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك، وأن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن نكون من الذين يرجعون إليه ويتوكّلون عليه.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ على الإنسان أن يكون صادقاً مع نفسه، وأن يحكم في كلّ قضيةٍ بما يرى أنّه الحقّ، وبما يستطيع أن يحيط به من أمورٍ على أرضه وفي واقعه، وأنّ هناك علاقةً بين الإنسان وما يحدث له، ويستطيع الإنسان أن يتأمّل فيما يحدث له، ويربطه بما فعله ويفعله.
وفي أحيانٍ أخرى، مع إدراك الإنسان أنّ كلّ ما يحدث له، له علاقةٌ بحاله وقيامه، إلّا أنّه لا يستطيع أن يربط بين ما أصابه وبين حاله، فعليه ألّا يحكم حكماً مبنيّاً على مفاهيم سابقة، أو أقوالٍ تُردّد، وإنّما عليه أن يكون صادقاً فيقول: لا أدرى ولا أعرف، وربّما أعرف بعد ذلك، ويكون تفكيره منصبّاً على كيفيّة التّعامل مع الذي أصابه، ليتغلّب على أيّ آثارٍ سيئةٍ تكون قد مسّته.
عباد الله: إن آيات الله تعلّم الإنسان ذلك، فتوجّهه دائماً أن يتأمّل ويتفكّر، وتوجّهه دائماً أن يعكس البصر إلى داخله. وتوجّه الأمم أنّ تتواصى بالحقّ وتتواصى بالصّبر، وأن تأمر بالخير، وأن تدعو إلى الخير، وأن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر.
ودعوتها للخير، هي ما ترى أنّه الخير بمقاييسها وبإدراكها. وأمرها بالمعروف، هو أمرٌ بما هو معروفٌ أنّه يُنتِج الخير. وتنهى عن المنكر، هو نهيٌ بما هو معروفٌ أنّه يؤدّي إلى عدم الخير، وإلى الشرّ، وإلى الفساد. والتّكليف هنا، هو بما أعطى الله للإنسان، "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ..."[البقرة 286].
هكذا نستقيم في ديننا كما نفهم، وكما نتأمّل ونتدبّر، نتواصى بيننا بذلك، ونحن قابلون لغير ذلك إذا تبيّن لنا أنّه الأفضل، بما أعطانا الله من نعمة العقل، ومن نعمة القلب، ومن نعمة الضّمير.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنّا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
__________________________ 

 (1) جاء بسنن الترمذي: ‏عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم أنه‏ ‏قال ‏"‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"‏.

 (2) قال صلى الله عليه وسلم: "... ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". متفق عليه.

      وقال الإمام علي رضي الله عنه: "ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم".

      وقال مالك: "من فقه العالم أن يقول لا أعلم". وقال الشعبي: "لا أدري هذه نصف العلم".     

(3) مما أورده المصنف - رحمه الله - في باب الزهد حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

       



.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق