الاثنين، 5 مارس 2018

الكفر ليس مجرّد كلمةٍ وإنّما هو موقفٌ تكون فيه لا ترى إلّا نفسك وفكرك واعتقادك، لا ترى إلّا صورةً رسمتها لله.


حديث الجمعة 
14 جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 2 مارس 2018م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
عباد الله: تدبّروا آيات الله، وتأمّلوا فيها بعمقٍ، وتواصوا بما فيها من معانٍ ومفاهيم مختلفة، فكلّ آيةٍ تحمل معانٍ كثيرة، وكلّ مفردٍ استُخدم في آيةٍ له أبعادٌ متعدّدة، فمصطلح الإيمان ومصطلح الكفر، لهما أبعادٌ كثيرة.
فإذا قرأنا الآية: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة 285]، هذه الآية، توضّح وتعطي أبعاداً كثيرة لمعنى الإيمان، وتعبّر عنه بصورتين: إيمان الرّسول، وإيمان الذين آمنوا.
"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ"، إيمانٌ شامل، إيمانٌ كامل، إيمانٌ أكبر من أيّ إيمانٍ آخر، إيمانٌ لا يستطيعه إلّا رسول الله، الذي كان أهلاً لما أنزل الله.
والذين آمنوا، لا يستطيعون أن يؤمنوا إلّا بما ورد في الآية: "وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ"، المؤمنون يستطيعون أن يتفهّموا معنى الغيب، والله تعبير عن الغيب.
يستطيعون أن يؤمنوا بأنّ هناك أسباباً غيبيّة، هذه الأسباب، تتمثّل في الإيمان بالملائكة، فالملائكة تعبّر عن الأسباب الغيبيّة، والتي تصل بين الغيب والشّهادة، "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ..."[فصلت 30]. والملائكة هنا، هي أمرٌ غيبيّ.
فإذا نظرنا إلى الواقع، ونظرنا إلى أحوالنا، وإذا كنا في لحظةٍ من اللحظات من "الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ" حقّاً، "ثُمَّ اسْتَقَامُوا" حقّاً، فإذا شعرنا بالأمن والسّلام، "أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا"، وشعرنا بقادمنا ينادينا، قادمٌ منير، قادمٌ أفضل من حاضرنا، "... وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"[فصلت 30].
كيف وصل لنا هذا الإحساس؟ إنّنا نجد أثره فينا، ولكنّنا لا نعرف كيف جاء إلينا. أسبابٌ غيبيّة، يستطيع الإنسان أن يؤمن بذلك، إنّه واقعٌ يستطيع أن يُجرّبه.
وكذلك، إذا وجد الإنسان في قوانين الحياة، حكمةّ يراها ساريةّ وثابتة، من أسبابٍ ومسبّباتٍ ونتائج، يراها في حاضره، وفي شهادته، وفي عالمه، وفي وجوده، قوانينٌ سارية ـ  يستطيع أن يؤمن بكتبه، فهي القانون المشهود، والواقع الملموس.
ويستطيع الإنسان أن يؤمن بأنّ المصدر واحد، وأنّ قانون الحياة واحد، وأن ما جاء به رسل الله واحد، وأن ما جاء به رسل الله هو كشفٌ للواقع، وللحياة وقوانينها، "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ".
يستطيع المؤمنون أن يؤمنوا بذلك، ويستطيعون أن يدركوا أنّهم قبل هذا الإدراك كانوا في غفلةٍ، وكانوا في كفر. "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا" فقد كُشِف لهم ذلك، ويوم كُشِف قبلوه، "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"، فقد كنّا في غفلةٍ عن هذا، "لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"[ق 22]، فالمؤمن من كُشِف عنه غطاء الحقيقة، كُشِفت الحقيقة له فأبصرها، فكان بصره حديداً "غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".
والكفر، هو عكس الإيمان في مواقع كثيرة، "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ..."[النساء 137]، الكفر، هو الغفلة عن رؤية الحقّ. وأنّك لا تريد أن ترى الحقيقة، هو أنّك تضع غطاءً على الحقيقة، هو أنّك تُغمِض عينيك عن رؤية الحقيقة.
فأنت تتصوّر الله في صورةٍ، ولا تستطيع أن تؤمن بالغيب. وأنت تتصوّر الأسباب الغيبيّة بصورةٍ ماديّة، ولا تستطيع أن تؤمن بها غيباً. وأنت لا تستطيع أن تؤمن بكتبه كقوانين للحياة، وإنّما تؤمن بها شكلاً وحرفاً، وتضعها في إطارٍ من مفهومك، وتقول: هو حديث الله، بمفهومك أنت الحاضر القاصر الجامد. وأنت تفرّق بين رسل الله، فتفاضل بينهم، وتُلغيهم، تُلغي بعضاً وتثبّت بعضاً، ولا تريد أن تنظر فيما جاءوا به، بدعوة التّحريف والتّزييف، وهي كلماتٌ يستخدمها كلّ فريقٍ بتصوُّرِه أنّه في دينه هو الأفضل، ولا يعرف معنى: "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ".
فإذا كان النّاس قد حرّفوا المفاهيم، فهذا لا يعني أنّ ما وصل إلينا ليس به حقيقة، هناك حقائق كثيرة، موجودةٌ في كلّ رسالةٍ جاءت إلى هذه الأرض. وإذا كان هناك بعض المفاهيم التي جسّدها البعض من النّاس، فهذا لا يعني أن تترك كلّ شيء، وإنّما عليك أن تبحث فيما ترى فيه ما ينفعك وما يرشدك، فيكون معنى: "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ"، له واقعٌ، وليس مجرّد كلمةٍ تقولها، ثم لا تريد أن تسمع ما جاء به هؤلاء الرّسل.     
إنّ الكفر ليس مجرّد كلمةٍ، وإنّما هو موقفٌ، موقفٌ تكون فيه لا ترى إلّا نفسك، ولا ترى إلّا فكرك، ولا ترى إلّا اعتقادك، ولا ترى إلّا صورةً رسمتها لله، ولا كتاباً إلّا قيّدته بمفهومك القاصر. إنّه ليس أن تقول كلمةً، إنّما أن تقوم قياماً، وهو حالٌ لا يستطيع أحدٌ أن يحكم فيه على أحد، إلّا الإنسان نفسه، الذي سوف يرى في نفسه هذا الحال إذا بدأ في مرحلة الإفاقة.
ولكن الإنسان الذي يؤمن بالغيب، ولا يستطيع أن يحكم على إنسانٍ آخر؛ لأنّ الإنسان الآخر هو غيبٌ عليه، لن يستطيع أن يقول لإنسانٍ أيّا كان: أنت كافرٌ، وإنّما هو لا يعلم. ولا يستطيع أن يقول عن إنسانٍ أنّه مؤمنٌ أيضاً، لأنّه لا يعلم من النّاحية الحقيّة. ولكنّنا في الواقع الظّاهريّ، ربما يكون علينا أن نُميّز في بعض الأحيان بين حالٍ وحال، وهذا لا يكون إلّا في الحاجة القصوى.
لذلك، تَعلّمنا أن نحكم بظاهر الأمور، ولا ننظر إلى ما وراء الظّاهر، [فإذا رأيتم الرّجل يدخل المسجد فاشهدوا له بالإيمان](1). ولماذا نشهد له بالإيمان؟ إذا كان مطلوبٌ أن نشهد في قضيّةٍ مّا، في حالٍ مّا، في موقفٍ مّا ظاهريّ، يحتاج إلى هذه الشّهادة، أمّا إذا لم يكن هناك حاجةٌ لهذه الشّهادة، فلا نشهد لأحدٍ لا بالإيمان ولا بالكفر، فالله أعلم بالسّرائر.
هكذا، نتعلّم الاستقامة في سلوكنا على هذه الأرض، وبهذا يستطيع كلّ إنسانٍ أن يقبل الآخر، وهذا حالٌ لا يستطيع أن يعيشه إلّا من تعالى عن ذاته، وأكبر فهمه، وقدّر الله غيباً، وتواضع لله حقّاً، وافتقر إليه سؤالاً وطلباً.
فيشعر بأنّ قلبه، [قد صارَ قابلاً كلَّ صُورةٍ](2)، قابلاً للحياة كما هي. [مرعىً لغزلانٍ](3)، هكذا الحياة، هذا تعبيرٌ عن الحياة في صورتها، وفي وجودها، وفي قيامها، وفي قوانينها، وفي قبول كلّ النّاس عليها. [ودَيرٌ لرُهبَانِ](4)، تعبيرٌ عن كلّ إنسانٍ يلجأ إلى الله في أيّ صورةٍ، وفي أيّ شكلٍ، وفي أيّ حالٍ، لا يحكم عليه، وإنّما يقبله كما هو، حتّى لو ظهر له فيما هو قائمٌ فيه، عكس ما يعتقد.
[وبيتٌ لأوثانٍ](5)، ربّما هذا الذي يعتقد في ذلك، له مفهومٌ مّا، هو يقبله كما هو، لا يعني هذا أن يكون مثله، وإنّما يتركه لشأنه، ولا يحكم عليه، فهذا حاله، وهذا قيامه، ما يهمّه هو حاله في المجتمع، وقيامه في المجتمع. نحن هنا في هذا الحديث، نتحدّث عن علاقة الإنسان بربّه، لا نتحدّث عن أنّ إنساناً يعتدي على إنسان، أو يُكفّر إنساناً، أو يأتي بأيّ خللٍ في المجتمع، إنسانٌ يعيش في حاله. لا تتدخّل في هذه العلاقة، التي بين الإنسان وربّه.
[وكعبةُ طـائفٍ](6)، تعبيرٌ عمّا هو قائمٌ في مناسكنا، من أمورٍ ومن أحوالٍ، هي رموزٌ للحقيقة، أدركها وقبلها؛ لأنّها ترمز إلى قضايا حقيّة. [أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توجّهتْ .. ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني](7)، ودين الحبّ، هو في تقدير كلّ الكائنات في صورها المختلفة، وفي عقائدها المختلفة، لا أريد لهم إلّا الخير، وإلّا النّور، وإلّا الإفاقة، لا أريد منهم شيئاً، ولا أطلب منهم شيئاً، "... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ..."[الحشر 9].
هكذا تكلّم القوم حين أدركوا معنى الإيمان، وعرفوا أنّ هذا هو الإيمان الحقّ، عرفوا أنّ الإيمان ليس في أن تُكفّر الآخرين، أو أن تضرب أعناقهم وأن تقتلهم؛ لأنّهم كفرة، عرف أنّ الإيمان هو أن تتقبّلهم كما هم، وتعلم أنّك لا تعلم دورهم في هذه الحياة، وأن قضيتّهم هي قضيتّهم مع ما يؤمنون به، ولا دخل لك في ذلك. وكما نذاكر دائماً، أنّ التّدخّل في أن يُعاقب إنسانٌ، هو في أن يعتدي على الآخرين، أما أيّ إنسانٍ، إذا كان في حاله وفي عقيدته، فليعتقد ما يعتقد.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من المؤمنين حقّاً، وأن ندرك أنّ هذا ما نستطيع ـ كبشرٍ ـ أن نؤمن به، وأنّ الإيمان له مراحل كثيرة، وأن بين إيماننا وما آمن به رسول الله مراحل كثيرة ومعارج كثيرة، فلا نقف عند هذا الإيمان، وإنّما نطلب أن نكون أكثر إيماناً، ولن نعرف ذلك إلّا بذكر الله، وإلّا بمجاهدتنا لأنفسنا، وإلّا بتجمّعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو تأمّلٌ في معنى الإيمان والكفر، من واقع الآيات التي نقرؤها ونردّدها من كتاب الله، وأن نتعلّم أنّ هذا البعد الذي تحدّثنا فيه، هو بعدٌ لا يعرفه إلّا من ذكر الله كثيراً، وتدبّر آياته، وتعلّم ممّا يرى في حياته، واتّجه إلى الله غيباً أن يعلّمه، وأن ينير طريقه، وأن يجعله بصيراً، وأن يجعله سامعاً، وأن يجعله ذاكراً، وأن يجعله متفكّراً متدبّراً، وأن يهديه الصّراط المستقيم، وأن يعلّمه من لدنه علما، وأن يفتح أبواب العلم أمامه، وأن يفتح عليه فتحاً مبينا.
فهو بعد كلّ ذلك، ربّما يشعر بهذه المعاني التي قالها من تحقّقوا، ومن تدبّروا، ومن ذكروا، ومن اجتهدوا، ومن برسول الله استعانوا، وبشفاعته توسّلوا، وفي ركبه ساروا، وفي سفينته ركبوا، ولنوره وجودهم عرّضوا، ومعه ذكروا، وعليه اجتمعوا، وله طلبوا. دعوا الله أن يهديهم فهداهم، وأن ينير بصائرهم فأنار لهم بصائرهم، وأن يحيي قلوبهم فأحيا قلوبهم.
نتعلّم أن نطلب كما طلبوا، وأن نذكر كما ذكروا، وأن نستعين برسول الله كما استعانوا، وأن نصلّي ونسلّم عليه كثيراً، وأن نجتمع على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه. هكذا يتغيّر حالنا من حالٍ إلى حال، ويفتح الله علينا فتحاً مبينا.
نسأل الله: أن يجعلنا كذلك، وأهلاً لذلك، وأن يجمعنا دائماً على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّا ًوارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنّا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا. 
_____________________
(1)     حديث شريف نصه: " إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة )". الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: الترمذي.   
(2)، (3)، (4)، (5)، (6)، (7) من أبيات لمحيي الدين بن عربي:
وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــــرآن




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق