الجمعة، 9 مارس 2018

الواقع أن ليس لك إلا إعمال عقلك وقلبك وجوارحك حتى تهتدي وتحمد الله على هدايتك


حديث الجمعة 
21 جمادى الآخرة 1439هـ الموافق 9 مارس 2018م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ..."[الأعراف 43].
وإذا تساءلنا بيننا وبين أنفسنا، عمّا هدانا الله إليه؟ وكيف نحمد الله على ما هدانا إليه؟ ما هو المقصود الذي يمكن أن نفهمه من هذه الآية؟ هذه الآية، تعبّر ـ في مفهومنا، وفي تأمّلنا، وفي تدبّرنا ـ عن حال إنسانٍ أدرك معنى الحمد لله، وأدرك ما هو مقصوده في الحياة. وهذا الإدراك ـ كما نذاكر دائماً ـ هو إدراكٌ نسبيّ، ولكّنه قام على ما أعطاه الله من قدراتٍ وإمكانات.
فلو نظرنا إلى تطوّر حال هذا الإنسان، لنتعلّم كيف وصل إلى ما وصل إليه، وهل مررنا نحن بهذه المراحل لنصل كما وصل، ولنقول كما قال، ولنحمد كما حمد؟ إذا أردنا أن نتعلّم ذلك، فعلينا أن ننظر إلى ما جاءت به الآيات، لتصف حال الأنبياء، والرّسل، وعباد الله الصالحين ـ كيف بدأت رحلتهم على هذه الأرض.
جميع الأنبياء والرّسل، بدأوا رحلتهم بالتأمّل في وجودهم، وفي خَلْقهم، وفيما وراء هذا الوجود. أدركوا بفطرتهم، أنّهم عليهم أن يُعمِلوا هذه الطّاقات الموجودة بين جوانحهم، ليصلوا إلى حالٍ أفضل، وأنّهم وإن كانوا لا يعرفون ما وراء هذه الحياة، إلّا أنّ واقعهم هو مرشدهم، وهو موجّههم، وهو معلّمهم.
ووصلوا أيضاً إلى أنّ عليهم أن ينظروا في آيات الخلق حولهم، باحثين عمّا يتجهون إليه، بالإضافة إلى اتّجاههم إلى داخلهم، فاتّجهوا إلى الأرض وإلى السّماء، ينظرون في آيات الله في السّماوات وفي الأرض، يتفكّرون في خلق السّماوات والأرض، محرّكهم هو تفكيرهم وإعمال عقولهم.
والتّعبير القرآنيّ، يوضّح ذلك بجلاءٍ، في الآية التي نذكرها كثيراً، "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا ..." ..."[آل عمران 191]. هم لا يقولون: لقد عرفنا لماذا خلقت هذا، ولكنّهم يقولون: "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا" ؛ لأنّ هذا هو ما يستطيعون أن يدركوا.
فأنت تستطيع أن تدرك أنّ وجودك له رسالة، وهذه الرّسالة موجودةٌ فيك بفطرتك، فيما ترى أنّه الخير وما ترى أنّه الشرّ، فيما ترى أنّه الحقّ وفيما ترى أنّه الباطل، فيما ترى أنّه الحياة وما ترى فيه أنّه الموت.
فأنت بما فيك تبحث عن الحقيقة، الحقيقة في وجودك، والتي تصل بك أنّك غير مخلوقٍ للفناء، وإنّما مخلوقٌ للبقاء، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا"، فتصبح الحقيقة بالنّسبة لك، هي واقعك، وهي حالك، وهي قيامك، وهي فكرك، وهي ذكرك، وهي عملك.
وتصبح علاقتك بالله، هي علاقةٌ بالغيب، الذي هو وراء هذا الكون، تعالى عن أيّ صفةٍ أو شكلٍ أو صورة، تعالى أن تصفه، أو أن تجسّده، أو أن تحدّده. وهذا ما نذاكر فيه دائماً، أنّ علاقتك بالله أكبر من أيّ صورةٍ، ونحن في كلّ عبادةٍ نقول: الله أكبر، في كلّ فهمٍ وإدراكٍ نقول: الله أكبر؛ لأنّ الله أكبر من أيّ صورةٍ، ومن أيّ شكلٍ. 
فالدّافع عندك، هو ما أودع الله فيك من فطرة ـ هكذا نقول دائماً ـ وتعلم أنّ هذه هي الهداية. الهداية، أن تهتدي إلى ما يمكّنك من مواصلة مسيرتك على هذه الأرض، وما يمكّنك من ذلك، هو إعمالك لعقلك، ولقلبك، ولجوارحك ـ حتّى تستطيع أن تتقدّم في طريق الحقّ وطريق الحياة.
وقد جعل الله قانون الحياة كذلك في الظّاهر، لتستدلّ بالظّاهر على الباطن. فأنت في ظاهر الحياة، لا يمكنك أن تتقدّم في حياتك، وفي معيشتك، وفي أن تقدّم خدماتٍ لمجتمعك، دون أن تبذل جهداً، وأن تتعلّم علماً، وأن تؤدّي عملاً. ولا يكون ذلك، إلّا بإعمالك لعقلك، وبمراقبتك لنفسك، وبأدائك لعملك.
إعمالك لعقلك، هو الفكر والتّفكّر، والعلم والتّعلّم، والمعرفة والتّعرّف. وإعمالك لقلبك، بمعنى الذّكر، هو في مراقبتك لنفسك، ومراقبتك لأعمالك، ومراقبتك لأحوالك، فقلبك يراقب نفسك، ومراقبته هي ذكرك. وعقلك يحاسب نفسك، فإذا أسأت لأحدٍ، وجّهك أن تردّ هذه الإساءة وأن ترفعها، وإذا أسأت لنفسك، أن تتّجه إلى الله بالدّعاء، ليساعدك أن تتخلّص من آثار هذا العمل السيّئ، الذي أسأت به لنفسك ووجودك.
والمجتمع، عليه أن يدور في نفس هذه الدّائرة، بتجمّعه على ذكر الله، وبالتّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر. فعلى المجتمع، أن يراقب أفراده، وأن يوجّههم، وأن يساعدهم، وأن يحاسبهم بعد ذلك، وأن يُعمِل العقل الجمعيّ، ليصل إلى حلولٍ لمشاكله، ولوضع قوانين لحماية الفرد فيه، وليكون الجميع في تكافلٍ وتراحم.
فالمجتمع، هو أيضاً فيه كلّ ما في الإنسان، فعلماؤه هم عقله، وأولياء الله فيه هم قلبه، والقوى العاملة فيه هي جوارحه، والهداية للمجتمع أن يعرف ذلك، فلا يتراخى، ولا يتواكل، ولا يستسلم، وإنّما يحاول ويحاول، ويبحث ويبحث، ويذكر ويذكر.
هذا هو الدّين في جوهره، وهذه هي الهداية في جوهرها. فإذا وصل الفرد إلى ذلك، حمد الله أن هداه. وإذا وصل المجتمع إلى ذلك، حمد الله ـ بأفراده ـ أنّه مجتمعٌ صالح.
والإنسان قبل أن يصل إلى هذا الحال، هو في تخبطٍ، متخبطٌ في معنى علاقته بالله، وفي معنى علاقته بالنّاس، وفي معنى علاقته بنفسه، يتصوّر أشياءً بعيدةً عنه، ويتصوًر إلهاً لا وجود له، ويتصوّر علاقةً له بهذا الإله لا وجود لها، ويتصوّر وجوداً لنفسه لا وجود له، فهو في تخبطٍ، لا يعرف معنى الحمد لله، ولا يعرف معنى هداية الله، فهو متشكّكٌ في كلّ شيء، وهو متصوّرٌ لكلّ شيء بصورٍ متعارضة.
الحمد، يحتاج إلى سلام، والسّلام يحتاج إلى فهمٍ عميق، وإلى تصالحٍ مع الحياة، ومع ما في الإنسان من فطرة. وهذا التّصالح، لا يكون إلّا بإدراك الواقع، وإدراك الواقع، أنّ ليس لك إلّا ما أعطاك الله، ليس لك إلّا عقلك، وليس لك إلّا قلبك، وليس لك إلّا عملك. فلتكن دائماً مُعمِلاً لما أعطاك الله، لتقوم في حمد الله، ولتعلم معنى الهداية التي تحمد الله عليها.
نسأل الله: أن نكون حامدين له، أن نكون مدركين معنى الحمد له، وأن ندرك معنى الهداية التي هدانا إليها. وهذه الهداية لا تزيدنا إلّا طلب المغفرة والرّحمة، وطلب التّوجيه والإرشاد، وأن نُعمِل عقولنا أكثر، وأن نذكر بقلوبنا أكثر، وأن نعمل بجوارحنا أكثر ـ حتّى نكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، لنا، ولمن حولنا.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن نربط بين معنى الحمد لله وبين شعورنا بهداية الله لنا، ونتأمّل في مفهوم الهداية، على أنّه إدراك الإنسان لمعنى وجوده على هذه الحياة، بأن يُفعِّل كلّ ما أعطاه الله، من نعمة العقل، والقلب، والجوارح التي يشعر بها ويعمل بها.
وأنّ الإنسان مهما فكّر، ومهما حاول أن يصل إلى ما وراء هذا الكون، فإنّه سيشعر بعجزه، سيشعر بأنّ ليس له إلّا وجوده، وليس له إلّا ما أعطاه الله. وبعطاء الله له، فيما أنعم عليه من ملكاتٍ وقدرات، يستطيع أن يفعل أشياءً كثيرة على هذه الأرض. فعليه أن يفعل ذلك؛ لأنّ فعله لذلك ليس باطلاً، إنّما هو الحقّ.
ما خَلَقت لنا عقولنا باطلاً، ولا قلوبنا باطلاً، ولا وجودنا باطلاً، ولا الحياة حولنا بقوانينها باطلاً، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا".
والحقّ فيما خَلَقتنا، هو أن نُفعَّل هذا العطاء، وأنّنا بتفعيلنا لهذا العطاء، نكون في معنى الهداية، فلا نفرّط فيما أعطيتنا، وإنّما نُعمِل كلّ ما أعطيتنا، فهذه هدايتك، وهذا فضلك ـ حتّى لا نظلّ مشتّتين بين أفكارٍ، وبين معتقداتٍ، وبين خرافاتٍ ـ يقولها الكثيرون، يرسمون بها صورةً لإلهٍ لا يعرفونه، ولحقيقةٍ لا يعرفونها، ولدينٍ ما أنزل الله به من سلطان.
دين الحقّ، علّمنا أن نُعمِل ما أعطانا الله، وأن نسير في الأرض باحثين، متفكّرين متدبّرين، وأن نكون ذاكرين، وإلى الغيب متّجهين، بالغيب مؤمنين، "ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ..."[البقرة 2، 3].
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا عباداً له صالحين، في طريقه سالكين، ولوجهه قاصدين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق