حديث الجمعة
25 شعبان
1439هــ الموافق 11 مايو 2018م
السيد/علي رافع
حمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
"... الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا
اللَّهُ ..."[الأعراف
43]، نجتمع على ذكره، ونتأمّل في
آياته، ونتواصى بالحقّ والصّبر بيننا، طامعين أن نكسب كرّتنا، وأن نصلح نفوسنا،
وأن نكون أهلًا لامتداد الحياة، أحياءً عند ربّنا نُرزق.
مدركين
أنّ ديننا، وقد علّمنا أن نقرأ، وأنّ قراءتنا هي في تدبّرنا، وفي تأمّلنا، وفي
ذكرنا. وأنّ كلّ آيةٍ، وكلّ عبادةٍ، وكلّ أمرٍ، وكلّ نهيٍ ـ ما جاء إلّا لنقرأ منه
رسالةً، رسالةً تصلحنا، وتقرّبنا إلى الحقّ وإلى الحياة.
ولذلك،
فنحن دائمًا، نتّبع منهج القراءة والتأمّل والتدبّر، في عباداتنا، وفي كلّ أمور
حياتنا. وفي كلّ عبادةٍ وُجّهنا إليها، نحاول أن نقرأ ما فيها من رسائل لنا، ونذكّر
أنفسنا بذلك، في تكرار هذه المناسبة على مدار حياتنا.
والصّوم
الذي نحن مقدمون عليه، "... كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ..."[البقرة 183]، "... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ..."[البقرة 185]، وكما نتعلّم دائمًا، أنّ الصّوم ليس مجرّد امتناع ٍعن طعامٍ أو شراب، وإنّما
هو يعبّر عن قضيّة من قضايا الإنسان على هذه الأرض، وكلّ رسالةٍ سماويّة، جاءت
بطريقةٍ للصّوم، "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ"، والصّوم له صورٌ كثيرة، وإن كان المفهوم هو مفهومٌ واحد.
الإنسان
بوجوده على هذه الأرض، خُلِق وفيه أمران، وفيه حالان، وفيه قيامان، فيه خيرٌ وفيه
شرّ، فيه رحمانٌ وفيه شيطان، فيه نورٌ وفيه ظلام، فيه حقٌّ وفيه باطل، "وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجًا"[النبأ 8]، ليس فقط كما نفهم من ذكرٍ وأنثى كزوجين، وإنّما أيضًا
في داخل الإنسان، أنّ فيه أمرين، وهذا من حكمة خَلْقه، وهذا واقعٌ نشهده، لا كلامًا
نقوله.
فإذا
جاءت الآيات لتعبّر عن ذلك، حين تتكلّم عن الإنسان في أحواله المختلفة، "إِنَّ
الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ"[المعارج 19 ـ 22]،
معنى الصّلاة فيه، معنى الطّلب والرّجاء، معنى الدّعاء، معنى إدراك أنّه مخلوقٌ
للحياة، وليس مخلوقًا لهذه الأرض الفانية.
أمّا
الأمر الآخر فيه، وهو أنّه لا يدرك هذا المعنى بحقّ، وإنّما يعبد ذاته ودنياه،
فتكون الدّنيا هي كلّ شيءٍ له، "إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا"،
الشّر هنا، هو ما يصيبه في حياته الأرضيّة من أمورٍ يكرهها، أو تأتي عكس إرادته أو
تصوُّره للأفضل من الحياة. "وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا"،
أيضًا تعبّر عن تمسّكه بما يراه الخير على هذه الأرض، بمقاييسه الأرضيّة الدّنيويّة.
"إِنَّ
الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ
لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ"[العاديات 6 ـ 8]،
والخير هنا، يعبّر عما يراه هو خيرًا بمقاييسه الدّنيويّة، ويحبّ المال، والجاه،
والسلطان، والبنون، وكلّ مباهج الحياة الدّنيويّة، وهذا أمرٌ طبيعيّ، إنّما له
مقدار.
وهناك
فيه، الجانب الذي ينظر إلى فناء هذه الدّنيا، وأنّها ليست باقية، فيحاول أن يُقوِّم
الحال الذي يتثاقل إلى الدّنيا، بحالٍ مقابلٍ له، يجعله يشعر بانطلاقه فيما بعد
هذه الأرض، "إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَىٰ
ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أَفَلَا يَعْلَمُ
إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور، إِنَّ رَبَّهُم
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ"[العاديات 6 ـ 11]،
فهنا، حين يتذكّر هذا المعنى وهذه الصّورة الأخرى لوجوده، يعادل هذا الحبّ الجارف
للخير الدّنيويّ الظّاهريّ.
هذا
قائم الإنسان وواقع الإنسان، والإنسان في حاجةٍ أن يقوّي ما فيه من طاقةٍ روحيّة
ومعنويّة وأخرويّة، وألّا يجعل الدّنيا كلّ همّه، ولا يجعل وجوده المادّيّ هو كلّ
ما يتحدّث عنه، إنّما يقاوم هذا الحال، ويجاهد هذا الحال. وجهاده، لا يكون إلّا
بالدّعاء، وإلّا بأن يعمل عملًا يساعده على الذّكر الدّائم.
وما
كان الصّوم إلّا هذا الأمر، إنّه ما يجعله يتغيّر عن حاله المعتاد، إلى حالٍ آخر،
في كلّ لحظةٍ في صيامه حين يشعر بالعطش أو بالجوع، يذكر الله، لأنهّ يصبح هنا ـ الفترة
الممتدّة من ظهور الفجر إلى غروب الشّمس ـ هو في عبادةٍ دائمة، في كلّ لحظةٍ يشعر
بتأثير ما هو قائمٌ فيه على وجوده المادّيّ، إنّه تذكيرٌ له دائم بأن يطلب الحياة،
ويطلب النّجاة، ويطلب المعنى، ويطلب النّور ـ فيصبح بذلك، هو في ذكرٍ دائم.
تذكير
الإنسان بالجانب المضيئ فيه، هو عبادة. فكلّ عبادةٍ أُمِرنا بها، هي محاولةٌ لتُذكِّر
الإنسان بما فيه من حياة. ومن هنا، كانت كلّ العبادات، هي محاولةٌ للوصلة مع
الأعلى، وللتّعرّض لنفحات الله ورحماته.
فإذا
كانت الصّلاة تستغرق من الإنسان بضع دقائق، فالصّوم يجعل الإنسان قائمّا في صلاةٍ
طول فترة صيامه، وما بعد الصّيام بما يقوم به من سُنّة القيام، فيصبح يوم الإنسان
كلّه ذكرٌ وعبادة، كلّه دعاءٌ ورجاء، كلّه طلبٌ ودعاء.
هذا
لا يعني، أنّ الإنسان سوف يظلّ يفكّر في هذا الحال طول وقت صيامه، هذا ليس واقعيًّا،
إنّما سوف تكون اللحظات التي يتذكّر فيها أكثر، إذا ربط بين المنسك وبين المفهوم،
وليس مجرّد أن يشكو من العطش أو من الجوع، وإنّما يجعل شعوره بذلك، هو ذكرٌ،
وتذكيرٌ، وتعليمٌ، وتدريبٌ، وتوجيهٌ ـ بأن يكون في صلةٍ، طالبًا قوّةً من الله
ورحمةٍ من الله.
وإنّ
أساس أي عبادةٍ ـ كما نتعلّم ـ هو نيّة القيام بها، والنّيّة هنا، لا تستقيم إلّا
بأن يكون لك مفهومٌ فيما تنتوي أن تفعله، فإذا كانت نيّتك مجرد امتناعٍ عن طعامٍ
أو شراب ـ فيكون هذا هو صيامك. أمّا إذا كانت نيّتك هي طلبٌ ودعاء، وذكرٌ ورجاء،
وأملٌ أن تكون أهلًا لرحمة الله، وأن تتذكّر بممارستك للمنسك، علاقتك بالله ـ
فيكون هذا صيامك.
إذا
كانت نيّتك في الصّلاة، أنّك تقوم وتركع وتسجد بجسدك ـ تكون هذه صلاتك. وإذا كانت
نيّة صلاتك، هي أنّك تتّجه إلى الله بالدّعاء، وأنّك ترجو أن تكون في صلةٍ بمصدر
الحياة ـ تكون هذه صلاتك. فإذا أصلحت نيّتك، أثّر هذا على فعلك وأدائك لمنسكك.
وعلينا
أن نذكّر أنفسنا بذلك، فنحن لا نريد أن تتحوّل مناسكنا إلى عاداتٍ نؤدّيها آليًّا،
دون أن نتفكّر ونتعلّم منها، وإنّما كلّ صلاةٍ مختلفةٌ عن الأخرى، وكلّ صلاةٍ يكون
أملنا فيها أن نكون أكثر صلةً. وكلّ رمضانٍ نصومه، نريد أن يكون قيامنا وصومنا فيه
أكثر صدقًا، لا نكرّر، وإنّما نحاول أن يكون كلّ يومٍ هو حياة، وهو يتميّز بأنّنا
أكثر فهمًا، وأكثر إدراكًا، وأكثر علمًا، وأكثر صدقًا فيما نقوم به.
عباد
الله: هذا ما نقرؤه في
صومنا، وفي القيام بالصّوم، فلعلنا نستفيد من هذه القراءه، وننوي حقًّا أن نصوم
شهرًا مباركًا، صيامًا يقرّبنا أكثر من معنى الحقيقة فينا، ويعادل ما فينا من ظلام،
ويحاول أن يجعل من قيامنا نورًا على نور، وأن نكون أهلًا لفيوضات الله ورحماته.
نسأل
الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا كذلك.
فحمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد
لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: هو أن نذكّر أنفسنا ـ من خلال قراءتنا ـ بعبادة الصّوم، حتّى نتذكّر
هذا المعنى ونحن مقبلون على شهر الصّوم، فيكون صومنا بحالٍ أفضل، وبعلمٍ أكثر،
وبإدراكٍ أعمق، لتستقيم نيّتنا في صومنا وفي قيامنا، ولنكون أهلًا لرحمات الله
ونفحاته.
هذا
ما نذكّر به أنفسنا دائمًا، والذّكرى تنفع المؤمنين، وعلى الإنسان أن يذكّر نفسه
بذلك دائمًا، في كلّ يومٍ وفي كلّ ليلةٍ ينوي فيها الصّوم، بحيث يخرج من هذا الشّهر
الكريم، وقد تغيّر من حالٍ إلى حال، يكون هذا أمله، ويكون هذا رجاؤه.
وطالما
أنّ الإنسان يطلب التّغيير إلى الأفضل دائمًا، فهو في طريق وهو في حياة، أمّا إذا
وصل إلى حالٍ من الرّتابة، بحيث أنّه لا يطلب جديدًا، ولا يسأل أعلى، ولا يريد أن
يكون أفضل، فهو في اتّجاهه إلى الهبوط؛ لأنّ نسيانه لطلبه للأعلى، سوف يجرّه
للأسفل.
الإنسان
في حاجةٍ دائمة إلى قوّةٍ تدفعه إلى أعلى، "... مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ
لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ..."[التوبة 38]، فالتّثاقل هنا والغفلة، هو عدم طلب الأعلى. أنت في حاجةٍ دائمة إلى قوّةٍ
ترفعك، وإلى قوّةٍ تُعليك في مقامٍ أفضل، وفي حالٍ أقوم.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم
ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم
فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً
لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق