حديث الجمعة
28 ربيع الآخر 1440هـ الموافق
4
يناير 2019 م
السيد/ علي رافع
حمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين
بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشَّيطان الرَّجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات
أعمالنا، طالبين هدايته، فـ "...مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي
وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
إنَّ
آيات الله لنا، تحدِّثنا عن قوانين الحياة وأسبابها، وتعلِّمنا أن نتعلَّم من
ظواهر الحياة وأحداثها، "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ
إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"[البقرة
255]، "...قَآئِمٌ
عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..."[الرعد 33].
فكما
نذاكر دائمًا، بأنَّ هناك الجانب الظَّاهر من الحياة، وأنَّ هناك الجانب الباطن من
الحياة، فأمَّا الجانب الظَّاهر من الحياة، فهو كلُّ ما تستطيع أن تشاهده بجوارحك،
أن تراه بعينيك، وأن تسمعه بأذنيك، وأن تلمسه بيديك، وأن تسعى إليه بقدميك، وكذلك كلُّ
ما تستطيع أن تدركه بعقلك، في مسبِّبات كلِّ الظَّواهر التي تراها.
أمَّا
الجانب الباطن من الحياة، فهو ما لا تستطيع أن تدركه بجوارحك، ولا أن تحيط به
بعقلك، وقد تحدِّثك الآيات عن معانٍ وعن أسماءٍ تصف بها قيامًا غيبيًّا، لا تستطيع
أن تدركه بظاهر جوارحك، وبعقلك القادر على إدراك الأمور المادِّيَّة.
والأمثلة
على ذلك كثيرة، وأوُّلها حين تتحدَّث الآيات عن الله، "اللّهُ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..."[البقرة 255]، كلُّ كلمةٍ في هذه العبارة، هي قيامٌ غيبيّ، فالله غيبٌ، والحيُّ في هذا
التَّعبير غيبٌ، والقيُّوم غيبٌ، كلماتٌ تعبِّر عن وجودٍ غيبيّ.
وحين
نستعيذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فالشَّيطان الرَّجيم هو أيضًا قيامٌ غيبيّ.
وحين نتحدَّث عن الملائكة، فالملائكة قيامٌ غيبيّ. وحين نتحدَّث عن كلِّ ما وراء
هذه الحياة الأرضيَّة، فنحن نتحدَّث عن مفاهيم غيبيَّة.
لا
يعني أنَّ القرآن قد أعطى لهذه المفاهيم الغيبيَّة كلماتٍ تُعبِّر عنها، أنَّها
تحوَّلت إلى وجودٍ مادِّيّ، أو إلى مفهومٍ يمكن أن نحيط به بعقولنا.
وكلُّ
هذه المعاني الغيبيَّة، لها تأثيرٌ ظاهرٌ في حياتنا، وفي وجودنا. فالكون كلُّه،
والكائنات كلُّها التي نشاهدها، هي ظاهرٌ لما وراء هذا الكون، هي تجلِّيات هذا
الغيب. وكلُّ ما يشاهده الإنسان في سلوكه من انحرافٍ عن الطَّريق القويم، هو تجلِّي
لمعنى الشَّيطان الرَّجيم، "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ
النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ"[الناس 6:1].
فأنت
تشاهد في نفسك وفي وجودك، ما توسوس به نفسك إليك، إنَّك ترى في وجودك كلَّ الأفكار
السَّيِّئة التي قد تنتابك تجاه نفسك، وتجاه الآخرين، فأنت ترى الانعكاس الظَّاهر
لشيءٍ باطنٍ لا تراه، فعلاقة
الإنسان بالغيب، تقوم من خلال مشاهدته لتجلِّيه في الظَّاهر، وهذا أمرٌ أساسيّ في
هذه الحياة.
بل
أنَّ هذا هو الذي أدَّى بالإنسان أن يتطوَّر في حياته المادِّيَّة، فأساس العلم
المادِّيّ هو المشاهدة، والمراقبة، والمحاولة لأن يعرف الإنسان ما يستطيع أن يعرفه
لمُسبِّبات ما يشاهده، فإذا كان المُسبِّب قيامًا مادِّيّاً ، ووجودًا مادِّيّاً،
استطاع الإنسان أن يصل إليه، أما إذا كان المُسبِّب قيامًا غيبيًّا، فلا يستطيع
الإنسان أن يحيط به.
وعلى
مرِّ التَّاريخ وإلى الآن، يوجد
خلطٌ بين ما يستطيع الإنسان أن يعرفه، كمُسبِّبٍ لظاهرةٍ، وبين ما لا يستطيع أن
يعرفه، فكثيرٌ من الأمراض التي يعاني منها البشر في مرحلةٍ مَّا، كانت تُعتبر
أنَّها مُسبَّبةٌ بقيامٍ غيبيّ، إلى أن اكتشف العلماء أسبابها المادِّيَّة،
واستعانوا بأدواتٍ كثيرة، حتَّى يتعرَّفوا على هذه المُسبِّبات المادِّيَّة.
لذلك،
أُمِرنا في الآيات، بأن نحاول ـ قدر استطاعتنا ـ أن نعرف ما نستطيع، من أسبابٍ
لظواهر الحياة حولنا، وأن ننطلق في أيِّ اتجاهٍ بلا حدود، طالما أنَّنا نملك أدوات
الانطلاق، "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن
تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ"[الرحمن
33].
فكلُّ
ما هو غيبٌ عنك، أنت لا تعرف إن كنت تستطيع أن تدركه بإمكاناتك الظَّاهرة، أو أنه
وراء هذه الإمكانات. ومن هنا، كانت الاستقامة في التَّعامل مع ما يحدث للإنسان،
فإذا حدث للإنسان حدثٌ لا يعرف كيف يتغلَّب عليه، وبحث بكلِّ إمكاناته عمَّا يمكنه
أن يُصلِحه بعلمه المادِّيّ، فهو يصبح بالنِّسبة له أمرًا غيبيًّا، لا قِبَل له به.
والتَّعامل معه، يكون بمعنى أنَّه ظاهرٌ مُسبَّبٌ بغيبٍ لا يستطيع أن يحيط به،
وهنا يكون الدَّعاء، ويكون الرَّجاء، وتكون الصِّلة والصَّلاة.
والتَّفريق
بين ما أستطيع وما لا أستطيع، هو أمرٌ نسبيّ بالنِّسبة للإنسان، مجرَّد أن يحاول،
هو المطلوب، لكنَّه قد لا يصل إلى أن يعرف ما هو موجودٌ في العلم المادِّيّ لأسبابٍ
مختلفة، ويكون الأمر بالنِّسبة له، أمرًا غيبيًّا، بينما بالنِّسبة لآخرٍ هو أمرٌ
ماديٌّ، يمكن التَّعامل معه.
هناك
أمورٌ غيبيَّة بطبيعتها، فكلُّ ما وراء هذه الحياة الأرضيَّة، لا يستطيع الإنسان
بإمكاناته المادِّيَّة أن يحيط به. في واقعنا الحاضر، قد يجيء يومٌ، يكون هناك أمرٌ
آخر، بعلاقةٍ دائمةٍ بين ظاهر الحياة، وباطنها، وغيبها، وغيبها النِّسبيّ لنا الآن.
والاتّصال الرُّوحيّ كان وسيلةً لإقامة هذه الصِّلة بقدرٍ مَّا، فكما تعلَّمنا أنَّ
المفردات الموجودة وراء هذا الكون، لا يمكن أن نفهمها؛ لأنَّنا لا نعلمها.
فنحن
على سبيل المثال، في أرضنا، نعرف ألوانًا محدَّدة، وقد تكون هناك ألوانٌ أخرى لا
نستطيع أن نعرفها، أو نتكلَّم عنها. أو صورة الحياة بالنِّسبة لنا، هي الحياة في
هذا الجسد، وهناك حياةٌ أخرى بدون هذا الجسد، لا نستطيع أن نتصوَّرها.
وحتَّى
إذا تطوَّرنا في علاقاتنا بعالم الرُّوح، وعرفنا كيف ننطلق بأرواحنا ونحن قائمون
على هذه الأرض بإرادتنا، فإنَّ ذلك لا يعني أنَّ ليس هناك غيبٌ علينا، فكما تعلَّمنا
أيضًا من الاتِّصال الرُّوحيّ، أنَّ من هم هناك، الله غيبٌ عليهم، كما هو غيبٌ
علينا، وهذا مصداقًا لقوله "...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..."[الشورى 11]، و"سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ"[الصافات 159]، أيًّا كنَّا، في أيِّ حالٍ كنَّا، في أيِّ مجالٍ كنَّا، في أيِّ تكوينٍ
كنَّا، فالله أكبر عن أيِّ صورةٍ وعن أيِّ شكل.
عباد
الله: إن علينا أن
نكون صادقين فيما نراه، وأن نتعامل معه بقدراتنا، وأن نزيد من قدراتنا لتتَّسع،
ونصبح قادرين على أن نرى أكثر، وأن نرى أعمق، وبهذا نتطوَّر في هذه الحياة، من حالٍ
أدنى إلى حالٍ أعلى، ومن جهلٍ إلى علمٍ، ومن علمٍ إلى ما هو أعلم، ومن مقامٍ إلى مقامٍ
أعلى، وهكذا، في "...اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ"[المعارج 3].
نسأل
الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]،
ويشهدون الأمر فيتعاملون معه بصدقهم وعقولهم، وأن نكون في طلبٍ دائمٍ لله أن يعلِّمنا
من لدنه علما، وأن يجعلنا أهلًا لرحمته، وأهلًا لعلمه وحكمته.
فحمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
________________________
الحمد
لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
ما
أردنا أن نقوله اليوم: هو أن نتعامل مع ما نستطيع أن نشاهده، وما نستطيع أن نسمعه،
وما نستطيع أن نلمسه، وما نستطيع أن نسير إليه، وما تدركه عقولنا، مدركين أنَّ
هناك دائمًا ما وراء هذا الإدراك، وما وراء هذه المشاهدة، ما لا نستطيع أن نلمسه،
ولا نستطيع أن نراه، ولا نستطيع أن نسمعه، ولا نستطيع أن نسير إليه، ولا نستطيع أن
ندركه بعقولنا.
بقيامنا
في مراحل الإدراك والمشاهدة المختلفة، وفي مراحل عدم الإدراك والتَّسليم المطلق،
نعيش حياتنا بين هذا الحال وذاك الحال، وهذا ما نفهم أنَّه الأمر الوسط، وأنَّه
القيام في الصّلاة الوسطى "...لاَ انفِصَامَ لَهَا..."[البقرة 256]، وأنَّه الدَّعوة إلى الحضرتين بالحضرتين، وأنَّه شهادة أنَّ لا إله إلا
الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، فلا نجسِّد غيبًا، ولا نغيِّب جسدًا.
نتعامل
مع ما نحيط به، بما نستطيع أن نتعلَّمه من حياتنا ومن وجودنا. ونتعامل مع ما لا
نستطيع أن نحيط به، بإيماننا بالتَّجريد في حياتنا. والتَّجريد، يعني أنَّنا لا
نستطيع أن نحيط به إحاطةً مادِّيَّة، منظورةً، مشهودةً، محدودة ـ إنَّما ندركه
تجريدًا، ندركه غيبًا، ندركه لا صورة له.
عباد
الله: نسأل الله: أن
نكون كذلك، وأن نسلك الطَّريق القويم، وأن نسير على الصِّراط المستقيم، وأن ندعو
إلى الحضرتين بالحضرتين، وأن نشهد الشَّهادتين، وأن نقوم الحالين، مدركين أنَّ هذا
هو من معاني الإسلام، ومن معاني الإيمان، ومن معاني الإحسان.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم
ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم
فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرجته، ولا حاجةً
لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق