حديث الجمعة
5 جمادى الأولى 1440هـ الموافق
11 يناير 2019 م
السيد/ علي رافع
حمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد
لله الذي أكرمنا بنعمته وبفضله، وكان فضله علينا عظيما، وجعلنا نتدبَّر آياته،
ونتأمَّل فيما يدور حولنا، في حديث الكون لنا، وعلَّمنا أنَّ "...فَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ"[يوسف 76]، وأنَّه
مهما أنعم علينا، فعلينا أن نطمع في نعمةٍ أكبر، وفي علمٍ أعمق، وأن نكون دائمًا
مستغفرين، إليه راجعين، وإليه مفتقرين، وعليه متوكِّلين، وأن نطمع في رحمته، وفي كرمه،
وجوده، ونعمته.
عباد
الله: إنَّا نتحدَّث
كثيرًا عمَّا نراه في ظاهر حياتنا، وعمَّا نفهمه عمَّا وراءها، ما وراء هذا الظَّاهر
الذي لا نعلمه، والذي هو غيبٌ علينا، ويجب ألَّا نخلط بين الحالين، أو بين
القيامين.
فنحن
في ظاهر حياتنا قد نكون مؤمنين، موقنين بصدق قضيِّةٍ معيَّنة، وهذا لا يعني أنَّ
إيماننا ويقيننا في صدق قضيَّتنا، أن نتصوَّر أنَّ ما نراه هو الحقُّ المطلق،
فالحقُّ دائمًا هو نسبيٌّ بالنِّسبة للإنسان، ولرؤية الإنسان، وهذا لا يعني عدم
إيمان بما نراه ونعتقده، وإنَّما هو فهمٌ في أنَّ هناك دائمًا ما هو أعلى، وما هو
أرقى.
وهناك
أحاديث من عارفين عن مقام المعرفة، وربط هذا المقام باليقين، والنَّاس تتصوَّر أنَّ
هذا الرَّبط قد يكون بأنَّ العارفين هم على يقينٍ بالحقيقة المطلقة، وهذا هو مقام
المعرفة، وهذا أول ما يخطر على العقل البشريّ، أو على تصوُّره، من أنَّه يتصوَّر
عارفين من خَلْقه هو، ومن تصوُّره هو.
لذلك،
نجد ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ في تراثنا أحاديث منقولة، أو مكتوبة، أو مختلقة، عن
كرامات الأولياء وأحوالهم، والإنسان البشريّ يريد أن يعبد صورةً، فهو يتخيَّل
ماهية العارف بالله في تصوُّره، ويُعرِّف صورة هذا العارف بما يتخيَّله.
لذلك،
نجد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وهو الأسوة والقدوة، وهو يعلِّمنا في
قوله: "...لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ..."[الأعراف 188]، ويقول: [ها
أنا رسول الله بينكم ولا أدري ما يُفعَل بي غدًا](1)، [أنا بشرٌ مثلكم، أتعامل كتعاملاتكم، وأسير في
الأسواق كسيركم، وآكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون](2)، وهذا ليس تقليلًا من قدره، ولا من مقامه الرَّفيع، ولا
من علمه الواسع، إنَّما هو لتعليمنا عن وجود الإنسان على هذه الأرض.
وهذا
لم يمنع الرَّسول ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ في أوقاتٍ أن يكون واثقًا ممَّا
يريده، وما يطلبه، لأنَّه ـ بالنِّسبة له ـ كان هذا أمرًا واضحًا، فكان يتَّخذ
القرارات، ولا يقبل المساومات في أحيانٍ، وفي أحيانٍ أخرى ربَّما يتَّجه إلى الغيب،
ويخاطب الغيب: [لو لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي](3).
فإذا
رجعنا إلى الرَّبط بين مقام المعرفة واليقين، فإذا ربطنا بين اليقين والحقِّ
المطلق، فالحقُّ المطلق الذي نعرفه، هو أنَّنا لا نعرف، واليقين
الذي نعرفه، هو أنَّ هناك غيبٌ لا نعرفه، فمقام المعرفة، أن نعرف أنَّنا لا نعرف،
واليقين الذي نحن عليه، أنَّ ما أوتينا من العلم إلَّا قليلا.
لذلك،
تجد الإنسان في بداية طريقه في المعرفة، إذا علم شيئًا اغترَّ بما تعلَّمه، واعتقد
أنَّه كلُّ شيء، وأنَّه قمَّةٌ في المعرفة والعلم. أمَّا الإنسان الذي سار في طريق
المعرفة والعلم مسيرةً طويلة، يدرك تمامًا، أنَّ ما أوتي من العلم إلا قليلا، "قُل
لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ
أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"[الكهف 109].
فعلاقة
الإنسان بربِّه، هي علاقةٌ قائمة على الحبِّ، وليست قائمةً على المعرفة بالإحاطة،
وهذا ما نجده في سير الصُّوفيَّة المدركين حقًاَّ لهذا المعنى، فكلُّ ما جاء به
ابن الرُّومي كان في الحبِّ، وكيف [يحنُّ الإنسان إلى ربِّه كما يحنُّ النَّاي
إلى أصله](4)، وبيت ابن العربي المشهور [أدين بدين الحبِّ أنَّى
توجَّهت ركائبه، فالحبُّ ديني وإيماني](5)، والصُّوفي الذي قال: [أحبُّك حبَّين، حبَّ الهوى،وحبَّا
لأنَّك أهلٌ لذلك](6).
[وحبُّ
الهوى، هو انشغالي بذكرك عمَّا سواك] (7)؛ لأنِّي لا أرى معنى لحياتي إلَّا في ذكرك، ولا أسعد إلَّا
بذكرك، ولا أطمئنُّ إلَّا بذكرك، وأمَّا [أنَّك أهلٌ لذاك](8)؛ فلأنَّ لا موجود بحقٍّ إلَّاك، فلا أرى إلَّا إرادتك،
ولا أشهد إلَّا حكمتك، ولا أطمع إلَّا في رحمتك.
وحين
تخاطبنا الآية: "كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ"[آل عمران 79]؛ فلأنَّ الإنسان الذي هو قائمٌ في علاقةٍ في الله، ولا يرى إلَّا إرادة
الله، وإلَّا حكمة الله، وإلَّا رحمة الله، هو ربَّانيّ؛ لأنَّه لا يريد شيئًا لا
يستطيعه، إنَّما هو قائمٌ في علاقةٍ مع الله، جعلته لا يرغب في شيءٍ لا يستطيعه،
إنَّما هو يرغب فيما يستطيعه، ويحب ما يستطيعه، ويعيش فيما يستطيعه، في ذكرٍ دائمٍ
لله، فهنا هذه العلاقة هي علاقة حبٍّ، وليست علاقة علمٍ، هي علاقة وجودٍ وإحساسٍ
وقيام، وليست علاقة تفكيرٍ وإحاطةٍ وعقل.
والإنسان
بوجوده المادِّيّ المرتبط بهذه الأرض، هو في تعاملٍ دائمٍ مع متطلَّبات وجوده،
وهذا قيامٌ آخر، له قوانينه، وله متطلَّباته، "قُل لَّوْ كَانَ فِي
الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ
السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً"[الإسراء 95].
إذًا،
فوجود الإنسان في هذا الجلباب البشريّ، هو مطلوبٌ لوجوده القلبيّ، ولوجوده
الإدراكيّ، وما يحمله هذا الوجود المادِّيّ من صفاتٍ مادِّيَّة، لها علاقةٌ بهذه
الأرض، وهو لا يستطيع أن يعيش على هذه الأرض، إلَّا إذا كان متسربلًا بهذه الذَّات
المادِّيَّة.
ولكلِّ
مقامٍ من هذه المقامات، المقال الخاصّ به، والحال الخاصّ به، والقوانين الخاصَّة
به، وهذا ما نحاول أن نتعلَّمه دائمًا، من مشاهداتنا ومراقبتنا لأحوالنا، ومن
التأمُّل في آيات الله لنا، التي تحدِّثنا عن هذه الأحوال وعن هذه المقامات، فلا
نخلط بينها، ولا نسوِّي بينها، وإنَّما نعرف كلًّا منها، ونتأمَّل فيه.
عباد
الله: نسأل الله: أن
يوفِّقنا في تدبُّرنا وتأمُّلنا، وأن يغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا، وأن يجعلنا من
الذين يرجعون إلى الحقِّ، فالرُّجوع إلى الحقِّ فضيلة.
فحمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
____________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن
نقوله اليوم: أنَّ الإنسان يقوم في مقاماتٍ مختلفة، وهناك مقام الإدراك والعلم
والمعرفة، وهذا المقام يحكمه قانون: "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ
عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء..."[البقرة 255]، وأنَّ الإنسان مهما علم، فعلمه قليل، وهناك الكثير الذي لا يعلمه.
ومقام
الحبِّ والمحبَّة، وهو أساسه "... يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ..."[المائدة 54]، وإحساس الإنسان بعلاقته بالله، هو إحساس محبَّة، فهو "...الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ"[الفاتحة 1]، الذي خلقه فسوَّاه فعدله، في هذه الصُّورة ركَّبه، وفي
إيِّ صورةٍ ما شاء ركَّبه.
ومقام
العمل، والتَّعامل المادِّيّ للتَّواجد في هذه الذَّات البشريَّة، والقانون الذي
يحكمه: أنْ "... سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ
الْخَلْقَ..."[العنكبوت
20]، وتعاملوا مع النَّاس كما تحبُّون
أن يعاملوكم به، و"لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه"(9)، "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..."[التوبة 105]، واسعوا لرزقكم، وتعلَّموا ممَّا هو ظاهرٌ لكم، وغيِّروا أرضكم إلى ما هو
أفضل، وتعاونوا، وتكاتفوا، وتكافلوا بعضكم مع بعض.
وكلُّ
هذه المقامات مرتبطة، فكلُّها يهدف إلى أن يحيا الإنسان، وهذا هو خطاب الحقِّ لكم،
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ
إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ..."[الأنفال 24]، فدعوة الرَّسول هي دعوة الحقِّ لكلِّ مقامات الإنسان.
يدعوه
أن يفكِّر بعقله، وأن يعلم أنَّ مهما علم، فهناك ما هو أكثر عليه أن يتعلَّمه، ويُعلِّم
قلبه ويخاطبه "...أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"[الرعد 28]، وأنَّ [القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وأنَّ جلاءها هو ذكر الله](10)، ويُعلِّمه في جوارحه وفي ذاته، أن يعمل بكلِّ جوارحه
عملًا صالحًا، فيشاهد بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويلمس بيديه، ويسعى بقدميه إلى ما هو
أفضل وما هو أحسن له ولغيره.
عباد
الله: نسأل الله: أن نكون
من الذين يرون آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ومن "الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، ومن الذين يسعون في طريق الله، ومن الذين يقدِّمون بأيديهم كلَّ خير.
عباد
الله: نسأل الله: أن
نكون حقًّا عبادًا له، وحقًّا رجالًا فيه، وحقًّا إخوةً على ذكره مجتمعين، ولوجهه
قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم
ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم
فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بدلنا، وعن أرضنا.
اللهم
ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
____________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق