الخميس، 7 فبراير 2019

دعوة رسول الله هي أن يتَّزن الإنسان بين طلبه الرُّوحيّ، وبين وجوده المادِّيّ


حديث الجمعة 
26 جمادى الأولى 1440هـ الموافق 1 فبراير 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
"الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ..."[الأعراف 43].
الحمد لله الذي جعلنا نتأمَّل في آياته، ونتفكَّر في آلائه، ونذكر نعمته علينا، ونتواصى بالحقِّ والصَّبر بيننا.
نتذاكر بالمعاني التي جاء بها كتاب الله، ليُخرِجنا من الظُّلمات إلى النُّور، نتأمَّل في وجودنا، فيما نتَّجه إليه، فيما يجعلنا نتَّجه إلى أعلى، وفيما يجعلنا نتثاقل إلى أرضنا، نتعلَّم من أخطائنا ومن حسناتنا، ندرك أنَّ وجودنا له رسالة، وأنَّ رسالتنا أن نسعى في الأرض، وأن نسير في الأرض فننظر كيف خلق الخلق.
ندرك أنَّ كلِّ ما جاء به ديننا من عباداتٍ، ومن مناسك، ومن معاملاتٍ، ومن أمرٍ ونهيٍ، هو تعبيرٌ عن قضيَّة وجودنا، لا نعبد أشكالًا ولا صورًا، وإنَّما نعبد الله الذي "... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11]، فنشهد أنَّ لا إله إلَّا الله، شهادةً تُخرِجنا من الشَّكل والصُّورة.
ونتعلَّم من سير الأنبياء والرُّسل والأولياء وعباد الله الصَّالحين، مدركين أنَّ الله أرسل إلينا رسلًا ليكونوا قدوةً لنا وأسوة، علاماتٍ على الطَّريق، يرشدوننا ويُوجِّهوننا بشهادة أنَّ محمَّدًا رسول الله، "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة 285].
إنَّ حديثنا دائًما، هو حديثٌ ينبع من الواقع، وينبع من تساؤلاتنا، وينبع من احتياجنا للمعرفة. لذلك، فهو موجَّهٌ لمن يتساءلون، ولمن يطلبون، ولمن يشعرون باحتياجهم إلى معرفةٍ أكبر، وإلى فهمٍ أعمق لما جاء به الدِّين، ولما جاءت به آيات الله لنا. أمَّا الذين لا يملكون أيَّ أسئلةٍ ومكتفون بما هم عليه، فهذا الحديث ليس موجَّهًا لهم.
إنَّ بداية طريق الإنسان، هو تساؤله عن معنى حياته، وعن معنى وجوده على هذه الأرض، وستظلُّ الإجابة على هذا السُّؤال غيبًا عليه، ولكن سيحاول دائمًا أن يجد إجابةً، ليتمكَّن من العيش على هذه الأرض.
وهنا، نشهد حكمة الخالق في خلقه، فقد أوجد الله في الإنسان رغباتٍ لِمَا خَلَق على هذه الأرض، فخَلَق عنده الرَّغبة في المعرفة، وخَلَق أيضًا له الرَّغبة في أمورٍ مادِّيَّة على أرضه، وأوجد له احتياجاتٍ عليه أن يُحقِّقها، وحبَّب له معنى الحياة في هذا الكون، فتولَّدت بذلك عنده أهدافًا أرضيَّةً، تجعله يتحرَّك عليها، وهذه نعمةٌ من الله عليه، فانشغل بهذه الأهداف الأرضيَّة، فأصبحت ـ بالنِّسبة له ـ سببًا لوجوده، وسببًا لمعيشته.
وفي نفس الوقت، ذكَّره الله بأنَّ هذه الأرض ليست إلَّا مرحلةً من مراحل حياته، "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى"[الضحى 4]، وعلَّمه وأوجد فيه ضميرًا وحسَّا بمعنى العدالة، وبمعنى الاستقامة، وبمعنى العطاء والخشية، وأخبره عن نفسه وظلامها، وبظلام النَّاس من حوله، "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ"[الناس 6:1].
"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ"[المعارج 22:19]، هذا التَّوازن بين حبِّ الإنسان لوجوده وأهدافه المادِّيَّة، وبين خشيته لله، وإدراكه أنَّ وجوده له أهدافٌ أبعد من هذه الأهداف المادِّيَّة، هو الذي يجعل الإنسان يتَّزن في قيامه، وفي سلوكه، وفي طريقه، وفي حياته.
ومن هنا، كانت الدُّنيا بكلِّ أبعادها، تلعب دورًا في ارتقاء الإنسان في طريقه الرُّوحيّ، حتَّى حياته الأرضيَّة وما فيها من دوافع لوجوده بجسده ومتطلَّباته. لذلك، كانت دعوة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يتَّزن الإنسان بين طلبه الرُّوحيّ، وبين وجوده المادِّيّ.
فحين جاء له البعض يقولون أنهم قد تخلَّوا عن وجودهم المادِّيّ والأرضيّ، وأنَّهم تفرَّغوا لجانبهم الرُّوحيّ والمعنويّ، قال لهم: أنا لست كذلك، أنا أصوم، وأفطر، وأعمل وأسعى(1) و[إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه](2)، وأنَّ كلَّ إنسانٍ عليه أن يسعى في هذه الأرض، ليخدم النَّاس، [خيرُ النَّاس أنفعهم للنَّاس](3). لذلك، نحن لا نُفرِّق بين أيِّ عملٍ على هذه الأرض، سواء كان هذا العمل دنيويًّا أو عملًا تعبُّديًّا، إنَّه عملٌ في طريق الله.
محاولة الإنسان الدَّائمة، أن يتوازن في سلوكه وفي طريقه، هي الصِّراط المستقيم، الذي نطلبه دائمًا في كلِّ قراءةٍ لنا للفاتحة، "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ ..."[الفاتحة 7،6]، الصِّراط المستقيم، الميزان، الأمر الوسط، الاتِّزان.
فنحن في طريقنا، إنَّما نحاول دائمًا، أن نذكِّر أنفسنا بهذه المعاني التي حدَّثتنا بها آياتٌ كثيرة، ولكنَّ أكثر النَّاس لا يلتفتون إليها، إنَّما يلتفتون إلى بعضٍ من هذه الآيات، التي تُحدِّثهم عن عباداتٍ أو معاملاتٍ شكليَّة، ولا ينظرون إلى الآيات التي تُحدِّثهم عمَّا في نفوسهم وعمَّا في قلوبهم، من أفكارٍ، ومن اتِّجاهاتٍ، ومن تساؤلات، وإنَّما يكتفون بظاهر الأمر وقشور العبادات، دون أن يتعمَّقوا في جوهرها.
عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18].
فحمدًا لله، شكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نلقي الضَّوء عليه اليوم: هو ماذا نقدِّم في طريقنا وفي أحاديثنا، من معانٍ نراها في جوهر ديننا وفي القلب منه، ونشعر بأنَّ كثيرًا من النَّاس لا يلتفتون إلى هذه الأعماق الموجودة في آيات الله، والتي تخاطب قلوبهم ووجدانهم وعقولهم، لتُخرِجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الباطل إلى الحقّ، فتجعل لحياتهم معنى، وتنير لهم طريق الحياة، فيرون في كلِّ أفعالهم ومعاملاتهم، ذكرًا لله، وتعاملًا مع الله.
لا يُقصِرون تعاملهم مع الله على شكل منسكٍ يؤدُّونه، أو أيِّ صورةٍ يعبدونها، وإنَّما يُكبِرون الله دائمًا، ويسعون في طريقه في كلِّ حياتهم، وفي كلِّ وجودهم، حتَّى يكونوا حقًّا عبادًا لله، ورجالًا في الله. هذا ما نُذكِّر به أنفسنا دائمًا، "... فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"[الذاريات 55]؛ ولأنَّنا في حاجةٍ دائمة لأن نَذكُر، ولأن نتذكَّر، ولأن نُذكِّر، فالإنسان ينسى ويبتعد عن الحقيقة.
وإذا كانت الأهداف الدُّنيويَّة التي خلقها الله له ليستطيع أن يعيش على هذه الأرض، هي نعمةٌ من الله عليه، إلَّا أنَّ انشغاله بها عن معنى حياته الحقيَّة والرُّوحيَّة، تصبح نقمةً عليه، إن لم يدرك أنَّها لخيره، وأن يرى فيها تعاملًا مع الله، فيُحسِن فيها، ويُتقِن فيها، ويتعامل مع الله فيها، فيرى فيها نعمة الله عليه، فلا يُفرِّط فيها، وإنَّما يحاول أن يقدِّم أحسن ما عنده، وأن يكون متَّزنًا فيما يعطيه وفيما يأخذه.
وهذا قانونٌ دائم، "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[المطففين 3:1]. مراقبة النَّفس في الأخذ والعطاء، هي من القيم الأساسيَّة، التي هي تعاملٌ مع الله.
نسأل الله: أن يجعلنا أهلًا لذلك، وأن يوفِّقنا لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنَّا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.   
_____________________
(1)    جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا ، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني). الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
(2)   حديث شريف أخرجه أبو يعلي والطبراني (كتاب المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للإمام السخاوي).
(3)   حديث شريف أخرجه القضاعي، الجامع الصغير للسيوطي، وأخرج الحاكم في مستدركه الحديث بلفظ: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصحابه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره".   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق