الأحد، 8 سبتمبر 2019

لا تتصوَّر صورةً تريد أن تكون فيها لتشعر بأنَّك خرجت من عالمك المظلم، فسيظلُّ عالمك المظلم معك دائمًا، ولكن عليك أن تُذكِّر نفسك دائمًا بمعنى الحياة.


حديث الجمعة 
7 محرم 1441هـ الموافق 6 سبتمير 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثًا متَّصلًا، نتواصى فيه بالحقِّ والصَّبر بيننا. نتدبَّر أمور حياتنا وأمور ديننا، وهما في الواقع أمرٌ واحد، فالدِّين هو الحياة، والحياة هي الدِّين، "... اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ..."[الأنفال 24]، "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"[آل عمران 169]، "... إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ..."[العنكبوت 64].
والحياة حين نتأمَّل في مدلولها من واقع وجودنا، نجد أنَّها قدرة الإنسان على التَّفكُّر، والتَّأمُّل، والتَّدبُّر، والفعل، قدرة الإنسان على الرُّؤية والاستماع، قدرة الإنسان على التَّغيير، وعلى البناء، وعلى التعَّمير. والموت عكس الحياة، فلا يسمع الميِّت، ولا يرى، ولا يستطيع أن يُغيِّر.
ولذلك، نجد أنَّ الآية حين اختصَّت "الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" من الموت، ووصفتهم بأنَّهم أحياء، فوصْفُهم بمعنى الحياة، يعني أنَّهم يرون، ويسمعون، ويفعلون، ويُفكِّرون، ويتأمَّلون، ويتدبَّرون، بصورةٍ قد تختلف عنَّا وعن حياتنا، ولكن المقصود هنا، هو التَّفريق بين الحياة والموت.
والدِّين هو الحياة؛ لأنَّه هو المنهج الذي يحافظ على حياة الإنسان في حاضره وفي مستقبله، والدِّين - كما نذاكر دائمًا - ليس في الأشكال ولا في الصُّور، ولكن فيما وراء الأشكال والصُّور، إنَّه ما يُحيي الإنسان، ما يجعل قلبه حيًّا، وضميره حيًّا، وعقله حيًّا، وحواسَّه حيَّةً، وقدرته على الفعل فيها حياة.
فالإنسان الذي يراقب أفعاله، نقول عنه أنَّ ضميره حيٌّ، أمَّا "... مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف 28] ـ هكذا تخبرنا الآية ـ فهو وإن كان في ظاهره حيٌّ بحركته المادِّيَّة، بذهابه ومجيئه، باستماعه لما يدور حوله، إلَّا أنَّه ميِّتٌ من الدَّاخل.
الذي لا يُفكِّر ولا يتدبَّر، عقله ميِّتٌ. الذي يسمع القول فلا يتَّبع أحسنه، هو لا يسمع، حواسُّه ميِّتة. الذي يسير في الأرض فلا ينظر إلى ما خلق الله، و"... كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20]، فهو لا يرى. الذي لا يعمل عملًا يفيد به من حوله، فعله ميِّتٌ، لا أثر له، ولا بقاء له.
الدِّين منهجٌ يوجِّه الإنسان إلى الحياة، وإلى أن يُفعِّل كلَّ طاقاته وكلَّ إمكاناته، ليُغيِّر وجوده إلى الأفضل والأقوم. وعلى الإنسان حين يدرك ذلك، أن يبدأ خطوةً في طريق الحياة، وبداية الأشياء هي رمزٌ لهذه الخطوة.
        فالهجرة هي بدءٌ جديد، واحتفالنا بالهجرة هو احتفالٌ ببدءٍ جديد، فقد كانت هجرة رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - من مكَّة إلى المدينة، هي بدايةٌ جديدة لمجتمعٍ أفضل، ولفهمٍ في الحياة أقوم، ولنظام حياةٍ أحسن، هي رمزٌ للخروج من مجتمعٍ مظلم، إلى مجتمعٍ وليد، يمكن أن ينمو ويصبح مجتمعًا حيًّا.
والإنسان فيه بذرة الحياة، فيه فطرة الحياة، فيه مضغة الحياة، [إنَّ في الجسد مضغة لو صلحت لصلح البدن كلُّه، ألا وهي القلب](1)، والجسد وشهواته، ورغباته، وتثاقله إلى الأرض ـ هو مجتمعٌ مظلم، [إنَّ الشَّيطان يجري من الإنسان مجرى الدَّم](2)، [أعدى عدوُّك نفسك التي بين جنبيك](3).
على الإنسان أن يبدأ هجرته، فيخرج بقلبه من هذا المجتمع المظلم، ولا يكون هذا الخروج إلَّا بالدُّعاء، وإلَّا بالاستغفار الدَّائم، وإلَّا بالصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وإلَّا بشهادة أنَّ لا إله إلَّا الله، وإلَّا بإدراك ألَّا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، وإلَّا بالإحساس بتفويض الإنسان أمره لله، وهذه هي العبادة.
وما العبادة في الدِّين إلَّا هذا، وكلُّ المناسك ما هي إلَّا تعبيرٌ عن هذا، فاجعل نيَّتك دائمًا في كلِّ عبادةٍ تقوم بها أنَّك تتَّجه إلى الله، وأنَّك تدعو الله، وأنَّك تستعين بالله، وأنَّك تستغفر الله، وأنَّك تطمع في رحمة الله.
بهذا تُؤدِّي العبادة، بهذا تقيم الصَّلاة، بهذا تصوم حقًّا، وبهذا تُزكِّي حقًّا؛ لأنَّك في زكاتك تدعو الله أن تكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة، وفي صومك تدعو الله ألا تستسلم لذاتك ونفسك الأمَّارة بالسُّوء.
إنَّها فكرةٌ، وتذكيرٌ، وذكرى، لو استطعت أن تتذكَّرها دائمًا فستساعدك كثيرًا في أن تتخطَّى صعاب الحياة، لا تتعجَّل، ولا تتصوَّر صورةً تريد أن تكون فيها لتشعر بأنَّك خرجت من عالمك المظلم، فسيظلُّ عالمك المظلم معك دائمًا، ولكن عليك أن تُذكِّر نفسك دائمًا بمعنى الحياة.
فحتَّى حين هاجر رسول الله من مكَّة إلى المدينة، لم يتركه عالم الظَّلام، إنَّما ظلَّ يحاول أن يقضي على هذه النُّقطة المضيئة، ولم يستسلم هذا العالم المظلم حتَّى بعد أن تمَّ الفتح وانتشرت دعوة الإسلام، ظلَّ هذا الظَّلام يلاحقها إلى يومنا هذا.
وأورثنا هذا الظَّلام شكل دينٍ فَقَدَ سماته الأساسيَّة والحقيَّة، واحتفظ بصورته الشَّكليَّة، واختفت منه كلُّ المعاني الحقيَّة التي ظلَّت باقية في قلوب العارفين الصَّادقين الدَّاعين، الذين إلى قلوبهم يتَّجهون، ولعقولهم يُعمِلون، والله يدعون، وعليه يتوكَّلون، وبرسوله يتَّصلون ويُوصلون.
وكما لم يفقد الظَّلام أمله في أن يقضي على نقطة النُّور، لم يفقد أهل النُّور أملهم في أن يضيئوها، وأن يشعلوها، وأن يُكبِروها، وأن يقولوها، وأن يدعوا بها، وأن يُسمِعوها للعالم أجمع، لا زالوا يفعلون ويعملون، والله يسألون، وعليه يتوكَّلون، وحول ذكره يجتمعون، فهذه قضيَّتهم، ستظلُّ دائمًا هي قضيَّتهم.
وهكذا هو حال الدُّنيا، وهكذا هو حال الإنسان، فإذا كنت من "... الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ..."[الأنعام 52]، فاستمرّ على ذلك، ولا تيأس إذا وجدت بواقي ظلامٍ فيك، وإنَّما اتَّجه إلى الله أكثر، واسأل الله أكثر، وادع الله أكثر، حتَّى إذا خرجت من هذه الأرض، خرجت وأنت مجاهدًا، خرجت وأنت ممن قيل فيهم: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
نسأل الله: أن يحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا أهلًا لذلك.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنَّ الهجرة هي بداية طريق الحياة، والحياة ـ كما تكلَّمنا عنها ـ هي أن تسمع وترى، وتُفكِّر وتُدبِّر، وتسير وتُغيِّر، وتراقب نفسك، وتراقب عملك، وتراقب معاملاتك.
فإن كنت لست في هذا الحال، فابدأ رحلتك إلى الحياة، وابدأ هجرتك إلى الحياة، بالدُّعاء والرَّجاء، بالاستغفار والذِّكر، ولا تيأس من رحمة الله، ولا تقل أنِّي فعلت ذلك ولم يحدث شيئ؛ لأنَّه لن يحدث شيء، فطالما أنت على هذه الأرض فنفسك معك، والعالم حولك معك، وإن استطعت أن تُغيِّر ما فيك من ظلامٍ، فتيَّار الظَّلام حولك يحيط بك ولا يتركك، ولن يتركك.
وقضيَّة الإنسان أن يظلَّ في دعاءٍ دائم، وفي ذكرٍ دائم، وفي طمعٍ دائم، لا ييأس من رحمة الله، ولا من فضل الله، ولا من نور الله، إن استطاع أن يحافظ على محاولاته، ولا ييأس، ولا يتراجع، ولا ينجذب للظَّلام، ولا يتغيَّر إليه، ولا يستند إليه.
لو ظلَّ كذلك، فهذا هو الفضل العظيم، وهذا هو الفتح العظيم، وهذا هو معنى: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ..."[الفتح 2]، الذي بُشِّرنا به فيما بُشِّرنا، بأنَّ لنا "... فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ..."[الأحزاب 21]، وأنَّه المثاليَّة التي نرجو أن نكون عليها، وأن يكون لنا ما كان له من الله.
فرحمة الله "... وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ..."[الأعراف 156]، وأملنا في الله عظيم، وإدراكنا أنَّ [ما من كمالٍ إلَّا وعند الله أكمل منه](4)، تجعلنا نُكبِر رسول الله دائمًا، فهو إمامنا، وهو رسولنا، وهو قائدنا، [قائد ركب عوالمك إليك](5)، هو المدد الذي نستمدُّ منه طاقتنا وقدرتنا، بمفهومنا في معناه، الرَّحمة المهداة، والنِّعمة المُجزاة.
إنَّه ليس صورةً، وليس شكلًا، وليس جسدًا كان وغادر، إنَّنا حين نتحدَّث دائمًا عن رسول الله، فإنَّنا نتحدَّث عن قوَّةٍ، وعن طاقةٍ نورانيَّة باقيةٍ في هذا الكون من الله، من خَلْق الله، من عطاء الله، من نور الله، فهو قبسٌ من نور الله، وهو رحمةٌ من رحمات الله.
أُمِرنا أن نتَّجه إلى هذه الطَّاقة، وإلى هذه الرَّحمة التي مثَّلها لنا بقبلتنا، وببيته الذي أوجد على هذه الأرض، إنَّه رمزٌ لهذا المعنى الدَّائم الذي هو أكبر من أيِّ ذاتٍ جاءت إلى هذه الأرض، كنبيٍّ، أو كرسولٍ، أو كوليٍّ، أو كعبدٍ لله صالح، إنَّه أكبر من ذلك، وأكمل من ذلك، إنَّه كلُّ ذلك، إنَّه كل الحياة، ونور الحياة، وفضل الحياة التي بها نحيا، والتي تمدُّنا بأن نواصل طريقنا، وأن نواصل رحلتنا، وأن نواصل هجرتنا.
نسأل الله: أن يوفِّقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلًا لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم اجعلنا لك خالصين، ولوجهك قاصدين، ومعك متعاملين.
اللهم اكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا دائمًا في طريقك سالكين، ولوجهك قاصدين، ولرسولك متابعين، ولرحمتك فيها طامعين، ولأنفسنا لها مُعرِّضين.
اللهم فكن لنا في الصَّغير والكبير من شأننا.
اللهم كن لنا فيما نعلم، وفيما لا نعلم، وفيما أنت به أعلم.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا. 
_______________________

(1)    حديث شريف نصه: "الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ". الراوي: النعمان بن بشير، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري.

(2)    جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها "ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين، قالوا وأنت يا رسول الله، قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم ". وأيضاً "ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن، قالوا وأنت يا رسول الله، قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، ولا يأمرني إلا بخير"، وكذلك: "فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، قلنا ومنك يا رسول الله، قال ومني، ولكن الله أعانني عليه فأسلم". كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم، والترمذي، والنسائي، والدرامي.  

(3)    حديث شريف: "أَعْدَى عَدُوِّكَ نفسُكَ التى بين جَنْبَيْكَ". الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: الألباني، خلاصة حكم المحدث: موضوع.

(4)    مقولة للإمام الجنيد.

(5)    من الوظيفة الشاذلية: "... ودليلك الدال بك عليك، وقائد ركب عوالمك إليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك ...".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق