السبت، 14 سبتمبر 2019

هل يُغيِّرك دعاؤك إلى أن تكون أفضل في تعاملك مع من حولك، أم أنَّه لا يُؤثِّر فيك؟


حديث الجمعة 
14 محرم 1441هـ الموافق 13 سبتمبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: إنَّا حين نرجع إلى كتاب الله، وإلى عترة رسول الله، وننظر إلى ما صار إليه حالنا، وما أصبح عليه ديننا، من معتقداتٍ ومفاهيم يتداولها النَّاس، ويُكرِّرها من يقولون على أنفسهم أنَّهم علماء الدِّين، الذين يعرفون الدِّين، نجد أنَّ هناك فرقًا كبيرًا بين ما نستطيع أن نفهمه من كتاب الله، وما نراه واقعًا في حياتنا.
هناك تعدُّدٌ في واقعنا بين فرقٍ مختلفة، وكلُّ فريقٍ وقف عند لحظةٍ في التَّاريخ، وأراد أن يثبِّتها، وأن يجعل الدِّين هو ما وصل إليه علماء هذه الفترة، والذين أعطوا لأنفسهم حقًّا ليس لهم في أن يُثبِّتوا ما لا يُثبَّت، وأن يُجمِّدوا ما لا يُجمَّد، وأن يُوحِّدوا ما لا يُوحَّد.
فالتَّعدُّد والاختلاف، هو من سِمَة خَلْق الله على هذه الأرض، "... لَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[المائدة 48]، "... جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..."[الحجرات 13]، والتَّقوى هي خشية الله، وخشية الله تجعل الإنسان لا ينسب شيئًا لله، ولا يجعل رأيه وحكمه هو حكم الله، فهو دائمًا يُكبِر الله عن أيِّ صورةٍ، وعن أيِّ حكمٍ هو يراه.
وآيات الله تكشف لنا هذا في تكليف الإنسان، وفي معنى أنَّ الإنسان هو خليفة الله على الأرض، "... إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ..."[البقرة 30]، فمشيئة الإنسان هي ما يُحرِّكه، "... فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ..."[الكهف 29]، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7]، [كن كيف شئت فإنِّي كيفما تكون أكون](1)، "قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ..."[الإسراء 51،50]، "الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ"[الرحمن 4:1]، "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ..."[البقرة 31]، "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ..."[الأحزاب 72].  
فالإنسان مسئولٌ عن حياته وعن وجوده، والرِّسالات السَّماويَّة تُوضِّح له مفاهيم كليَّة، وقوانين عامَّة، وكلٌّ يقرؤها بأهليَّته، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ..."[البقرة 286]، وكلُّ إنسانٍ يأخذ بسعته.
ولكنَّنا حين ننظر في تاريخنا، نجد أنَّ مجموعةً من البشر أرادوا أن يفرضوا رؤيتهم على الجميع بمقولة أنَّهم من يعلمون، وأنَّهم من يعرفون، وانساق النَّاس لهم، وعبدوهم، وساروا وراءهم، إلَّا من رحم الله، وإلَّا من عَلَّم الله، وإلَّا من فتح الله عليه وجعل له نورًا، فاتَّجه إلى قلبه، وسأل قلبه، وقرأ رسائل الله له، وآيات الله له، وعرف أنَّ القضيَّة قضيَّته، وأنَّ الطَّريق طريقه، وأنَّ الحياة حياته، وأنَّ المسئوليَّة مسئوليَّته، فقرأ ليُعلِّم نفسه وليوجِّهها إلى الطَّريق الذي يرى أنَّه الخير وأنَّه الحقُّ.
إنَّ الدِّين الذي نراه اليوم، والذي عليه أغلب النَّاس، هو شكلٌ وصورة، هو رسمٌ وكسم، هو أفعالٌ تُفعَل، وحركاتٌ تُؤدَّى، وكلماتٌ تُقال، دون وعيٍ ودون فهمٍ لما يُؤدَّى ولما يُقال.
بإدراكنا لذلك، تَوَجَّهنا كما تَوَجَّه السَّابقون إلى أن نقرأ قراءتنا، وأن نحاول أن نتعمَّق في الكلمات وفي الآيات، وأن نربط بين المقاصد الكليَّة، وبين الأفعال والأقوال، وتواصَيْنا بيننا بذلك، غير فارضين رؤيةً معيَّنة، وإنَّما نُذاكر دائمًا بأنَّ كلَّ إنسانٍ عليه أن يتفاعل مع آيات الله، وأن يتعمَّق في مفهومها، وأن يتدبَّر ما وراء الكلمات، فأيُّ فعلٍ يُؤمَر به له أثرٌ، فلا يقف عند الفعل ولا يعرف أثره، إنَّما عليه أن يتعلَّم الفعل، وأثره، ونتيجته.
فالمناسك ليست شكلًا يُؤدَّي ولا يُعطِي أثرًا، ويُعبِّر رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن ذلك: [من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](2)، [ومن لم ينهه صومه عن قول زورٍ فلا معنى لصيامه، لا معنى لجوعه وعطشه](3)، وهو توجيهٌ لنا لنتعلَّم أثر المناسك علينا، وأثر الذِّكر علينا، فنحاسب أنفسنا، [حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا](4).
والإنسان يمكن أن يراقب نفسه وأثر عبادته على أحواله، فيما يقوم به من أعمال، في تعاملاته، في انفعالاته. والمعاملات، هي ميزانٌ يقيس الإنسان به حاله الذي هو عليه، وقد يكون هو أوضح ميزان. والآية التي تُوضِّح لنا ذلك، ونتأمَّلها، "وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ"[المطففين 3:1]، أنظر إلى تعاملك مع الآخر في أيِّ تعاملٍ، ليس مجرَّد بيعٍ وشراء، وإنَّما في إحساسك تجاهه. والحديث يعلمنا ذلك، [لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه](5).
حين تدعو الله في كلِّ صلاةٍ، وفي كلِّ منسكٍ، فكلُّ المناسك هي وسائل للدُّعاء ـ هل يُغيِّرك دعاؤك إلى أن تكون أفضل في تعاملك مع من حولك، أم أنَّه لا يُؤثِّر فيك؟
من هنا كانت آيات الدِّين، هي آياتٌ ملهمة لما يجب أن يكون عليه الإنسان، وتفسيرها بالنِّسبة للإنسان هو بقدر سعته وبقدر فهمه. ونجد أنَّ ما بين أيدينا من تأمُّلاتٍ وتدبُّراتٍ في كلِّ هذه المعاني قليل، وما بين أيدينا من وصفٍ للفعل وللقول كثير، كما لو أنَّ قيامك في استقامةٍ في ظاهر الفعل تكفيك مما تقوم به. لذلك، نقول أنَّ الدِّين أصبح بالنِّسبة للكثيرين منَّا هو أشكالٌ وصور، وهو كلماتٌ تُردَّد دون أن يكون لها أثرٌ في حياتنا وفي وجودنا.
عباد الله: نسأل الله أن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، ومن الذين يقرأون آيات الله بقلوبهم وبعقولهم، ويتفكَّرون ويتأمَّلون في كلِّ ما يُقال لهم، وأن يحاولوا أن يُغيِّروا ما بأنفسهم إلى الأفضل، وأن يكونوا دائمًا في دعاءٍ مستمرٍّ لله في كلِّ صلواتهم، وفي كلِّ مناسكهم، وفي كلِّ ذكرهم.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
______________________
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من فهمٍ في الدِّين، ومن ممارساتٍ للدِّين، نتيجة التَّراكمات التي حدثت منذ تبليغ الرِّسالة إلى يومنا اليوم، من أناسٍ فرضوا رأيهم، وأوهموا الجميع أنَّ رأيهم هو الصَّواب، وظلَّ رأيهم هو في مسائل شكليَّة حرفيَّة، لا قيمة لها إذا لم ترتبط بأثرها ونتائجها.
فظنَّ النَّاس أنَّ الدِّين هو التزامٌ حرفيّ بصورٍ وأشكال، دون وعيٍ لما تحمله هذه الصُّور والأشكال، وأصبح النَّاس يردِّدون هذه المعاني، وبترديد الكثيرين لها، أصبح الدِّين على ما هو عليه الآن.
قليلٌ هم الذين حاولوا أن يبحثوا بعقولهم وقلوبهم في آيات الله، وفيما ترك رسول الله من عترةٍ، ليتفهَّموا ما جاءت به الآيات، وما هو أثرها، وأنَّ على كلِّ إنسانٍ أن يقرأها ويتفهَّمها بقدره، وأنَّ الدِّين هو قضيَّة الإنسان، قضيَّة وجوده، قضيَّة حياته، قضيَّة عمله الصَّالح.
فالإنسان لا يعرف هدفًا إلَّا ذلك من وجوده، أن يكون أداة خيرٍ لنفسه ولمن حوله، وأن يُغيِّر ما بنفسه إلى الأفضل، وأنَّ هذا هو الدِّين، ليس مجرَّد القيام في مناسك، أو في صورٍ، أو في أشكالٍ، أو في ترديدٍ لكلماتٍ ـ وإنَّما أن يكون أداة خير.
الذين يخدمون إخوانهم في البشريَّة، ويساعدونهم بكلِّ الطُّرق، [أقربكم منازل منِّي يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، الذين يألفون ويُؤلفون](6)، "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ"[الماعون 7:4].
وما جاء الدِّين بآياته إلَّا ليُلهمنا بهذه المعاني التي تتحوَّل في داخلنا إلى فعلٍ نفعله، وإلى عملٍ نقوم به، وإلى كلماتٍ نقولها، ونتذاكر بها بيننا، "... فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"[الذاريات 55]، والإنسان في حاجةٍ إلى تذكيرٍ دائم، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى"[الأعلى 10،9].
وما كانت الرِّسالات السَّماويَّة إلَّا ذكرى وتذكير، ولتكتمل الرِّسالة، على الإنسان أن يتذكَّر من الآيات، وأن يتدبَّرها، وأن يتأمَّلها، وأن يقومها، وأن يفهمها، بقدر سعته وبقدر فهمه.
نتحدَّث هنا في هذا الحديث، عن الإنسان كقيامٍ منفرد، مسئولٍ عن وجوده، أمَّا الحديث عن الجماعة، وعن المجتمع، وعن الأمَّة، فهو حديثٌ آخر.
فالأمَّة أيضًا يجب أن تتحمَّل مسئوليَّتها، وأن تأخذ قرارها، وأن تكون الآيات ملهمةً لها لما هو أفضل وأحسن، وليست مُقيِّدةً لها عن فعل الأصلح والأفضل والأقوم.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا، ولما فيه حياتنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
_______________________

(1)  هذه العبارة تتوافق مع الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله ". أخرجه أحمد بن  حنبل الجامع الصغير للسيوطي.          

(2)  أخرجه الطبراني الجامع الصغير للسيوطي بنص:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ".

(3)  حديث شريف نصه: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". الراوي: عبد الله بن عمر، المحدث: الألباني.

(4)  مقولة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصها: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر، كذا الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}"..

(5)  حديث شريف الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري.

(6) - حديث شريف: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسانهم أخلاقاً الموطئون أكنافاً ، الذين يألفون ويؤلفون ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف". أخرجه الطبراني ـ الجامع الصغير للطبراني- صحيح.

- " إن أحبكم إلي أحسانكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبراء العيب " الراوي: أبو هريرة المحدث: المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب.


 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق