الثلاثاء، 12 نوفمبر 2019

على الإنسان أن يُكوِّن لنفسه منهجًا متوافقا مع فطرته يتعامل به مع كلِّ ما يدور من حوله


حديث الجمعة 
26 صفر 1441هـ الموافق 25 أكتوبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ونعوذ به من الشَّيطان الرَّجيم، نسأله توفيقًا، ورحمةً، ومغفرةً عمَّا تَقدَّم من ذنبنا وما تأخَّر، فهذا دعاؤنا، ورجاؤنا، وأملنا، فرسول الله قدوتنا، وإمامنا، وقائدنا. فحمدًا لله دائمًا، وشكرًا لله دائمًا، وصلاةً وسلامًا على رسول الله دائمًا.
عباد الله: إنَّ كلَّ إنسانٍ مسئولٌ، وكلَّ إنسانٍ مكلفٌ، وكلَّ إنسانٍ له قدرته وله سعته، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ..."[البقرة 286].
في قانون الله المطلق، كلُّ إنسانٍ هو أداةٌ يؤدِّي رسالةً في ظاهرها خيرٌ، أو في ظاهرها شرٌّ، كلٌّ في طريق، "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"[الزلزلة 8،7]، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"[مريم 93].
ففي القانون المطلق، لا يوجد خيرٌ ولا شرّ، لا نورٌ ولا ظلام، لا يمينٌ ولا يسار، كلٌّ يؤدِّي رسالته، وكلٌّ يؤدّي دوره، أمَّا في حياتنا المُقيَّدة المشهودة لنا، فنحن عندنا يمينٌ ويسار، خيرٌ وشرّ، نورٌ وظلام.
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ"[آل عمران 190]، فالظَّواهر الكونيَّة، وخَلْق هذا الكون في إطارٍ مُقيَّد علَّمنا أضداد الأشياء، علَّمنا الشَّيء ونقيضه، وعلَّمنا أنَّ لنا ما كسبنا وعلينا ما اكتسبنا، وأنَّ: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ".
لذلك، فإنَّ في كلِّ موقفٍ نقفه، وفي كلِّ قضيَّةٍ نتأمَّل فيها، وفي كلِّ حالٍ نقومه، وفي كلِّ فهمٍ نفهمه، ممكنٌ أن يكون شرًّا، وممكنٌ أن يكون خيرًا، فنحن في عالمٍ مُقيَّد، فيه الخير وفيه الشَّرّ، فيه النُّور وفيه الظَّلام.
في كلِّ فهمٍ، علينا أن نتأمَّل ما هو موقفنا تجاه قضيَّةٍ مَّا، ما هو موقفنا تجاه تراثنا وما تلقَّيناه من أسلافنا، وما وصل إلينا من معارف، ومن آثارٍ، ومن أحاديث، ومن تفاسير، ومن قرآنٍ نتلوه كثيرًا، ونردِّده بيننا بآياته وسوره ومعانيه في حياتنا، وفي ذكرنا، وفي اجتماعاتنا، مستشهدين به فيما نفعله ونقوم به.
ما هو موقفنا من كلِّ هذا؟ ما هو موقفنا حين نتلقَّى حديثًا، أو نقرأ آيةً، ونجد أنَّ تفسيرها الشَّائع لا يتوافق مع فطرتنا، أو أنَّ تفسير فريقٍ لا يتوافق مع فطرتنا، وهي آيةٌ مثبتةٌ في قرآننا، وفي كتابنا، وفي آيات الله التي وصلت إلينا؟
هناك من النَّاس من يكفرون بكلِّ الآيات إذا حدث لهم ذلك، فينحرفون انحرافًا شديدًا، وهناك من يتَّبعون الفهم الشَّائع والسَّائد، حتَّى مع عدم إيمانهم به، بظنِّ أنَّ عليهم أن يفعلوا ذلك حتَّى لو كانوا غير مقتنعين بهذا التَّفسير، ويظنُّون أنَّ هذا هو الإيمان. وهناك من يُفكِّرون في هذه الآية أو الآيات، ليجدوا لها معنىً يستريحون إليه. وبين كلِّ هؤلاء درجاتٌ من القبول والرَّفض، من التَّأمُّل والانصياع دون فهم، هناك درجاتٌ ودرجات.
ونحن في تأمُّلنا في هذه القضيَّة، نرى أنَّ الإنسان عليه أن يكون صادقًا في تفاعله، فهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا لا تقبله فطرته، وفي نفس الوقت يتَّجه إلى الله بالدُّعاء أن يفتح عليه بمفهومٍ فيما قرأه، حتَّى يتوافق مع فطرته.
فهو لا يرفض آيةً وصلت إليه، بقدر علمه أنَّها موثَّقةٌ في مراحل نقلها إلى حدٍّ كبير، لا يستطيع أيضًا بفطرته أن يضرب بها عرض الحائط، وأن يتَّهم كلَّ من نقلوها بالكذب والضَّلال. فعليه أن يتأمَّل، ويتدبَّر، ويتَّجه إلى الله أن يرشده إلى دلالةٍ يستريح لها، مستعينًا بما قال السَّابقون، ولكن غير مكتفٍ بذلك، إنَّما أيضًا يجتهد ويجاهد بعقله الذي أوجده الله فيه، ليصل إلى حالٍ يقبله.
وفي واقع الأمر، أنَّه من تجربتنا، فإنَّ كلَّ آيةٍ فيها مثل ما نقول، نجد أنَّنا يمكننا أن نصل إلى فهمٍ له دلالةٌ تتوافق مع فطرتنا، ومع ما نرى أنَّه الخير وأنَّه الحقُّ، فهذا أمرٌ ليس عسيرًا. بل أنَّ ما فعل السَّابقون يدلُّ على ذلك، فقد اختلفوا بينهم في قضايا كثيرة وضَّحت أنَّ الاختلاف واردٌ، وأنَّ القضية ليس لها مفهومٌ واحد ولكن لها مفاهيم كثيرة.
ومن ثَمَّ، فهذا ما أشرنا إليه في حديثٍ سابق، من أنَّ آفة الضَّلال والإضلال هي أُحاديَّة النَّظرة، وأُحاديَّة الفهم لمصدرٍ واحد، هناك مفاهيم كثيرة، وهناك قبل ذلك كلِّه، فطرة الإنسان.
وحين نقرأ الآية: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"[الحجر 9]، فالذِّكر هنا هو أشمل من مجرَّد كتابٍ، إنَّما المحفوظ هنا فطرة الإنسان، فقد أودع الله في كلِّ إنسانٍ ذكره، وأودع في كل إنسانٍ فطرته التي بها يستطيع أن يُميِّز، وأن يفهم، وأن يتفهَّم، وأن يُؤوِّل، وأن يُعلِّل، وأن يتحاور، وأن يتواصى، وأن يبحث، وأن يجتهد، وأن يعمل، وأن يكون أداة خيرٍ لنفسه وللآخرين.
حفظ الله الذِّكر، بأن جعل من النَّاس أئمةً يفكِّرون، ويتأمَّلون، ويتدبَّرون، ويبحثون، ويؤوِّلون، ويقولون، وينشرون، وقد يختلفون، وقد يتعارضون، وقد يصل أحدهم إلى عكس الآخر تمامًا، فكلٌّ بقدره وكلٌّ بسعته، فكما هناك فكرٌ مظلمٌ، هناك فكرٌ منير، وسيظل الأمر كذلك.
"... دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ..."[الحج 40]، "... وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ..."[المائدة 48]، ولكن سُنَّة الله في الأرض هي الاختلاف، وهي التَّنوُّع، وهي وجود الحقِّ ووجود الباطل، هي وجود آدم ووجود إبليس، وجود الرَّحمن ووجود الشَّيطان، وجود النَّفس الذَّاكرة المطمئنَّة، ووجود النَّفس المسيئة المظلمة الأمَّارة بالسُّوء.
كلُّ إنسانٍ عليه أن يتفكَّر ويتدبَّر، وأن يُكوِّن موقفه، وأن يُكوِّن فهمه، وأن يُكوِّن عقيدته، وأن يُكوِّن طريقه، وأن يُحدِّد وجهته، وأن يُحدِّد هدفه، وأن يسعى في سبيل تحقيق هدفه، ستظلُّ الحياة كذلك، وسيظلُّ حال الإنسان كذلك. فليجتهد كلٌّ منَّا، ولا يسير وراء أيِّ إنسانٍ آخر دون تفكيرٍ ودون وعي، إنَّما عليه أن يعي ما يدور حوله، وأن يتعلَّم ممَّا يدور حوله، وأن يبحث، ويجتهد، ويسأل، ويتواصى ـ لا مانع في ذلك.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نوضِّحه اليوم: أنَّ الخير والشَّرَّ، والليل والنَّهار، والنُّور والظَّلام، سيظلُّون دائمًا موجودين على هذه الأرض، بل أنَّ هناك كثيرٌ من الفِرَق بدرجاتٍ متعدِّدة موجودةٌ بين كلا النَّقيضين.
وعلى الإنسان أن يُكوِّن لنفسه منهجًا وأسلوبًا يتعامل به مع كلِّ ما يدور من حوله، هذا الأسلوب يعتمد على أن تكون رؤيته متوافقةً مع فطرته، ومع ما أودع الله فيه من سرٍّ، ومن ذكرٍ، ومن قدرةٍ على التَّمييز.
ونحن مطالبون دائمًا بأن نُنمِّي قدراتنا على أن نُميِّز بين الخير والشرِّ، وبين الحقِّ والباطل ـ بالنِّسبة لنا ـ وهذا التَّمييز، وهذا الإنماء لهذه القدرة لا يكون إلَّا بالممارسة، وإلَّا بالتَّفكُّر في كلِّ أمرٍ من وجهة نظرٍ مختلفة، فلا يستسلم الإنسان لرؤيةٍ واحدة دون أن يتفكَّر فيها ويعرضها على قلبه وعقله، إنَّما يكون دائمًا مجاهدًا مجتهدًا.
قد يختلف النَّاس طبقًا لقدراتهم وإمكاناتهم، ولا مانع من ذلك، فليست القضيَّة أن يصل الجميع إلى صورةٍ واحدة، وإنَّما القضيَّة أن يُطبِّق الإنسان منهجًا فيه توافقٌ مع قوانين الحياة التي تحثُّنا على التَّفاعل مع البيئة المحيطة بنا، ومع أنفسنا. والبيئة المحيطة بنا، هي كلُّ شيءٍ بدءًا من النَّاس حولنا، إلى كلِّ الكائنات، وإلى كلِّ الظَّواهر الطَّبيعيَّة التي نشهدها، والتي نعرفها. هذا التَّفاعل بين الإنسان وأسباب الحياة، هو الذي يُولِّد العلم والمعرفة، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ..."[العنكبوت 20].
هذا ما أردنا أن نوضِّحه اليوم، وما نذاكر به دائمًا، وما نذاكر به أنفسنا دائمًا، حتَّى لا ننسى أنَّ علينا أن نكون متفكِّرين، متدبِّرين، باحثين، مجتهدين، مجاهدين في طريق الحقِّ والصَّلاح والفلاح.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم اكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنَّا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق