حديث الجمعة
19 صفر 1441هـ الموافق
18 أكتوبر 2019م
السيد
الإمام/ علي رافع
حمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد
الله: حين نتأمَّل في تاريخ البشريَّة، لنتعلَّم كيف يفكِّر
النَّاس في قضاياهم الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، سوف نجد أنَّ هناك نموذجًا يتَّبعونه
في تفكيرهم، وفي اتِّخاذ قراراتهم. وفي الواقع، هناك نماذجٌ كثيرة، وسوف نُوضِّح
إحدى هذه النَّماذج، والتي سبَّبت كثيرًا من الإشكالات للأجيال المتعاقبة، بعد مَنْ
اتَّخذوا قرارًا بناءً على هذا النَّموذج، خاصَّةً في القضايا الدِّينيَّة.
فكلُّ
دينٍ، وكلُّ رسالةٍ جاءت لتُوضِّح للنَّاس قانون حياتهم وقانون وجودهم، بدأت
باحترام العقل، والاختيار بين بدائل كثيرة، واستخدام العقل للتَّفضيل بين هذه
البدائل، وتوضيح ما هو أحسن وأفضل.
ففي
الرِّسالة المسيحيَّة، بدأت الدَّعوة إلى التَّحرُّر من الجمود الذي صار المجتمع
إليه، في تجمُّدهم في شعائر الدِّيانة اليهوديَّة، وكيف أنَّ هذا الجمود لا مكان
له في اليهوديَّة نفسها، وإنَّما هو ناتجٌ عن فكرٍ بشريّ، رسم صورةً معيَّنةً
للعبادة وللتَّقرب من الله، بتفسيراتٍ بشريَّة لمقولاتٍ حقيَّة.
فجاء
عيسى ـ عليه السَّلام ـ ليُوضِّح للنَّاس ذلك،
وليُحرِّرهم من عبادة أوثانٍ جديدةٍ خلقوها، وشعائر وضعوها، فقَبِل من قَبِل ورفض
من رفض، والذي رفض هو من تجمَّد على ما رسم له السَّابقون، وأراحه طريقة تفكيرهم
في أُحاديَّةٍ النَّظر إلى القضايا، بأنَّ الدِّين قال كذا وكذا، وهذا هو تفسير
العلماء، وما صرنا إليه، ولا يوجد شيءٌ أو فهمٌ آخر.
وهذا
كثيرًا ما يحدث في تاريخ البشريَّة، هذه النَّظرة الأُحاديَّة، وإهمال التَّفكُّر
والتَّأمُّل، واستخدام العقل، واستخدام الفطرة التي وهبها الله للإنسان ـ هذا
نموذجٌ يتكرَّر، نظرةٌ أُحاديَّة، وعدم القدرة على تعدُّد النَّظرات، والأفكار،
والرُّؤى، والاعتقاد، والفهم، والتَّفسير.
ثمَّ
سارت الرِّسالة العيسويَّة في طريقها، وحدث ما حدث فيها، واختلف المتابعون في
طبيعة المسيح، وما حدث له، ومن هو، وهذا أمرٌ طبيعيّ، أن يختلف النَّاس في قضيةٍ غيبيَّةٍ
في واقع الأمر، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم فيها بشيء.
ولكنَّهم
لم يستطيعوا أن يتعايشوا مع هذا الاختلاف، ورأوا أنَّ الدِّين يجب أن يكون له رأيٌ
واحد، فاجتمعوا وقرَّروا، هم الذين قرَّروا ما يجب عليهم أن يعتقدوا في المسيح، وسَمُّوا
ما اعتقدوه وتعارفوا واجتمعوا عليه، بـ [قانون الإيمان]، وأصبح الذي لا
يؤمن بهذا القانون هو كافرٌ ومُهَرْطِقٌ. مرةً أخرى نعود إلى النَّظرة الأُحاديَّة.
حتَّى
جاءت الرِّسالة المُحمَّديَّة، وبدأت أيضًا بالدَّعوة إلى إعمال العقل، وعدم اتِّباع
السَّابقين دون وعيٍ ودون فهم، "... وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ"[الزخرف
23]، ووجَّهت الإنسان أن يتدبَّر في خلق السَّماوات والأرض،
"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ"[آل
عمران 190].
فآمن
من آمن وكفر من كفر بهذه الدَّعوة، وأيضًا سبب الرفض، هو في التَّمسُّك بنموذجٍ
واحدٍ عاشوا عليه فتراتٍ كبيرة. عاداتٌ، وتقاليدٌ، وعباداتٌ، ونظمٌ يعتقدون أنَّها
الأفضل، ولا يريدون أن يُغيِّروها.
وسارت
الرِّسالة المُحمَّديَّة في طريقها الذي يقبل التَّعدُّد، "... جَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ..."[الحجرات
13]، "... وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً ..."[المائدة 48]، "إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ
آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"[المائدة 69]، هناك تَنوُّعٌ،
وهناك اختلاف.
وفي
القضايا الدُّنيويَّة، كان هناك اختلافٌ وتعدُّدٌ للرُّؤى، وتشاورٌ، واختيار
الأفضل على ما تراه الأمَّة، وتُرِكت أمورٌ كثيرة في ظاهر العبادات وفي المعاملات
فيها اختلافٌ، مما أدَّى في لاحقٍ إلى وجود مذاهب تفهم هذه القضايا، وتُفضِّل قضيَّةً
على قضيَّة، وظهرت مقولة [أرجح على مرجوح]، فكلُّ الأمور مقبولة، ولكن هذا
في نظرنا أرجح، وربَّما يكون هناك ما هو أرجح منه، وظهرت مقولة: [رأينا
صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأٌ يحتمل الصَّواب](1).
ولكنَّ
النَّظرة الأُحاديَّة لا تريد أن تفارق البشريَّة، فيجيء جيلٌ تتغلَّب عليه هذه
النَّظرة الأُحاديَّة، فيقترح أن يتوقَّف الاجتهاد، وأن نتجمَّد في لحظةٍ معيَّنة،
بأنَّ هذا الذي عرفناه حتَّى هذه اللحظة هو الحقُّ والحقيقة وهو الدِّين، علينا أن
نتجمَّد عنده، وألَّا نقول برأيٍ آخر، وأن نتوقَّف عند كتابٍ واحد، ونقول أنَّه
أصحُّ ما نُقِل عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولا نقترب منه.
وهذا
ما نعاني منه إلى الآن، من مجموعاتٍ ترى هذه النَّظرة الأُحاديَّة، فالحقُّ عندها
هو في هذه النَّظرة، وليس هناك حقٌّ آخر، وليست هناك رؤيةٌ أخرى، وليس هناك فهمٌ
آخر.
إنَّ
هذا التَّصوُّر الذي يريد أن يُجمِّد الدِّين، أو أن يُجمّد أي قضيَّةٍ أخرى حتَّى
في الدنيا، يُجمِّد أيَّ رأيٍ ليكون رأيًا واحدًا لا ضِدَّ له، ولا مثيل له، ولا
مقابل له، ولا رفض له، هذا الأسلوب، وهذا النَّموذج هو نموذجٌ يقود إلى التَّجمُّد
والتَّحجُّر، وإلى الجهل والتَّخلف.
في
المقابل، فإنَّ النَّموذج الذي فيه تَعدُّدٌ، وفيه رؤىً مختلفة، هو نموذجٌ يقود
إلى الحياة، ويقود إلى التَّقدُّم، ويقود إلى الخير، ويقود إلى عُلوِّ مكانة
الإنسان، سواء كان ذلك في القضايا الدِّينيَّة الغيبيَّة، أو في القضايا المادِّيَّة
الأرضيَّة.
وفي
تاريخنا أيضًا، من رفضوا هذه النَّظرة الأُحاديَّة. ففي المسيحيَّة خرج مصلحون ضِدَّ
هذه النَّظرة الأُحاديَّة، وكوَّنوا كنائس جديدة، ومذاهب جديدة. وفي الإسلام، قبل هذا
التَّجميد بعدم الاجتهاد، كانت هناك مذاهب عديدة أيضًا يختلف بعضهم مع بعض، وإن
كان اختلافهم شديدًا، بحيث كفَّر بعضهم البعض، إلَّا أنَّ هناك اختلافًا، وهناك
تحاورًا، وهناك ترجيحًا، وهناك رؤىً مختلفة.
وفي
الصُّوفيَّة نجد ابن عربي وقد قال بأنَّ الدِّين فيه اتجاهاتٌ كثيرة، وأوضح أنَّه
لم يكن يدرك ذلك، [فقد كنت أنكر صاحبي إن لم يكن دينه لديني داني]، وقد
أصبحت اليوم أقبل كلَّ دينٍ وكلَّ اتِّجاهٍ، [أدين بدين الحبِّ أنَّى توجَّهت
ركائبه، فالحبُّ ديني وإيماني](2)، تعبيرٌ عن التَّعدُّد.
والتَّطوُّر
البشريّ في أنظمة الحكم تَطوَّر من هذه النَّظرة الأُحاديَّة، لما كان عليه الملوك
في الغرب، وهم يعتقدون أنَّهم يُمثِّلون الله على هذه الأرض، ورأيهم هو الحقُّ،
ونظرتهم هي الصَّواب ـ إلى أن قامت الشُّعوب بالثَّورة عليهم، وكانت هذه الثَّورات
تنطق بِقِيَمٍ إنسانيَّةٍ حقيَّة، الإخاء، والمساواة، العدل، الأُخُوَّة في البشريَّة،
أن يشارك الجميع في مصيرهم على هذه الأرض.
وظهرت
نظمٌ جديدة لم تكن تعرفها الأرض من قبل، في كيفيَّة تمثيل الشُّعوب، وفي كيفيَّة
إدارة الحكم، وفي فصل السُّلطات عن بعضها، وفي كيفيَّة التَّعامل بين هذه السُّلطات،
بحيث لا تنفرد سلطةٌ باتِّخاذ القرار دون رأي الآخرين.
وقد
سبق الإسلام كلَّ هذه الأمم يوم خاطب المسلمين: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنكَرِ ..."[آل عمران 104]، لم يخاطب إنسانًا
ويقول فليكن بينكم حاكمٌ هو الذي يُطاع، ولا غيره، فهذا توجيهٌ إلهيّ، وتعبيرٌ عن
قانونٍ فطريّ، موجودٌ في البشريَّة، وهو تَعدُّد الرُّؤى، والاختلاف، وأن مشيئة
الله أن يكون هناك اختلافٌ، "... وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ..."[البقرة
251].
ولكن
ليست هناك صورةٌ واحدة لإدارة هذا الاختلاف، والناس دائمًا مطالبون بأن يجدوا
وسائل مختلفة ليستطيعوا أن يعيشوا معًا في توافقٍ وفي تناغمٍ، لمصلحة الجميع.
وأنَّ
الأمور الغيبيَّة لا يستطيع أحدٌ أن يُجسِّدها، وأنَّ علاقة الإنسان بخالقه هي
علاقةٌ مُتَفرِّدة، يختصُّ بها الإنسان، قد يساعد إنسانٌ إنسانًا بالتَّواصي بالحقِّ،
والتَّواصي بالصَّبر، والتَّواصي بالخبرات، وبما كسبه الإنسان في حياته، "فَذَكِّرْ
إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى"[الأعلى
11:9].
فإذا
كان هناك إنسانٌ عنده علمٌ ويستطيع أن يفيد الآخرين، فليستفيدوا منه في إطار التَّواصي
بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، وليس في إطار السَّيطرة، أو أن يكون رأيه رأيًا واحدًا
مطلقًا، لا يقبل النِّقاش أو وجهة النَّظر الأخرى.
عباد
الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو تأمُّلٌ في تاريخ البشريَّة
باختصارٍ شديد، لنُوضِّح ما حدث في مجتمعاتنا الإنسانيَّة، ولنستفيد من ذلك في
حياتنا اليوم.
نسأل
الله: أن يوفِّقنا لما فيه خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمدًا
لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا علي يا رسول الله.
_______________________
الحمد لله، والصَّلاة
والسَّلام على رسول الله.
عباد
الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو أنَّنا في تأمُّلنا
لتاريخ البشريَّة بصورةٍ مجملة، وجدنا أنَّ النَّظرة الأُحاديَّة، وأنَّ الرَّغبة
البشريَّة في عدم الاختلاف، ووجود مفهومٍ واحد يردِّده الكلُّ، ولا يردِّدون غيره،
هي نزعةٌ نفسيَّةٌ من ظلام الإنسان، ومن مجموعةٍ تتَّفق على ذلك، تتَّفق أن تجعل
النَّاس جميعًا صورةً مكرَّرةً متطابقة، وأنَّها لا تستريح إلَّا في أن يكون مَنْ
حولهم كذلك، سواء كان ذلك في الأمور الدِّينيَّة، أو كان ذلك في الأمور الحياتيَّة.
وأن هذا يُسبِّب الجمود، والتَّخلف، وعدم التَّقدُّم
في معرفة الحياة، وفي معرفة قوانينها، وفي معرفة أسبابها، وفي معرفة ما هو أفضل
وأحسن وأقوم، كما لو أنَّ الإنسان، أو الجماعة، أو المجتمع، يضع نفسه في عُلبةٍ مُغلقة،
في صندوقٍ مُغلق، بحيث لا يرى العالم بما فيه من رحابةٍ، وفكرٍ، وعلمٍ، وأسباب،
وقوانين.
لذلك،
نجد أنَّ الإنسان بفطرته، يرفض أن يُساق في قطيع، وإنَّما يريد أن يُفكِّر، ويتأمَّل،
ويتدبَّر، يقبل هذا، ويرفض ذاك، يبحث عن الجديد، يبحث عن العلم، يبحث عن المعرفة،
يبحث عن الأفضل، يبحث عن الأقوم، لا يقبل صورًا سابقة، مغلَّفة بمفاهيم جامدة عن
أنَّ من سبقونا أفضل منَّا، أو أنَّ القديم أفضل من الجديد.
بل
أنَّ الإنسان بطبيعته، يبحث عن التَّجديد دائمًا، وعن الأفضل دائمًا، ويبحث عن
المجهول، يريد أن يكتشفه إذا استطاع، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..."[العنكبوت
20]، دعوةٌ من الحقِّ للإنسان أن يبحث دائمًا، وألَّا يتوقَّف
عن أن تزداد معارفه وأدواته، ليرى ما لم يكن يراه، وليعرف ما لم يكن يعرف.
عباد
الله: نسأل الله: أن نكون مجتمعًا صالحًا، عارفًا، متأمِّلًا،
قابلًا للتَّعدُّد، راغبًا في المعرفة والعلم، راغبًا في التَّجديد، راغبًا في أن
يكون أفضل وأحسن وأقوم.
اللهم
وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم
ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ
ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم
فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم
اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم
أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم
لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا
حاجةً فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم
ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا
أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
___________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق